الرئيسيةبحث

معالم السنن/الجزء الأول/4

45/72م ومن باب الوضوء من مس لحم النيء

63- قال أبو داود: حدثقا محمد بن العلا حدثنا مروان بن معا ويه حدثنا هلال بن ميمون الجهني عن عطاء بن زيد الليثي قال هلال لا أعلمه إلا، عَن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ مرَّ بغلام يسلخ شاة فقال له رسول الله ﷺ تنح حتى أريك فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط ثم مضى فصلى للناس ولم يتوضأ.

قوله حتى أريك معناه أعلمك ومنه قوله تعالى {وأرنا مناسكنا} [1] وقوله فدحس بها إلى الإبط أي أدخل ملئ يده بذراعها إلى الإبط والدحس كالدس ويقال للسنبلة إذا امتلأت واشتد حبها قد دحست، ومعنى الوضوء في هذا الحديث غسل اليد والله أعلم.

46/74م ومن باب الوضوء مما مست النار

64- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن مسعود عن جامع بن شداد عن المغيرة بن عبد الله عن المغيرة بن شعبة قال ضفت النبي ﷺ ذات ليلة فأمر بجنب فشوي وأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه قال فجاء بلال فأذنه بالصلاة فألقى الشفرة وقال ما له تربت يداه وقام يصلي.

قول تربت يداه كلمة يقولها العرب عند اللوم والتأنيب، ومعناه الدعاء عليه بالفقر والعدم وهم يطلقونها في كلامهم، وهم لا يريدون وقوع الأمر كما قالوا عقرى حلقى، وكقولهم هبلته أمه، فإن هذا الباب لما كثر في كلامهم ودام استعمالهم له في خطابهم صار عندهم بمعنى اللغو، كقولهم لا والله وبلى والله وذلك من لغو اليمين الذي لا اعتبار به ولا كفارة فيه، ويقال ترب الرجل إذا افتقر وأترب بالألف إذا استغنى، ومثل هذا قوله ﷺ: فعليك بذات الدين تربت يداك.

قلت وليس هذا الصنيع من رسول الله بمخالف لقول إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء وإنما هو للصائم الذي قد أصابه الجوع وتاقت نفسه إلى الطعام فأمر بأن يصيب من الطعام قدر ما يسكن به شهوته لتطمئن نفسه في الصلاة فلا تنازعه شهوة الطعام وهذا فيمن حضره الطعام أوان العادة غداء وعشاء وهو متماسك في نفسه لا يزعجه الجوع ولا يعجله عن إقامة الصلاة وإيفاء حقها.

وفي الخبر دليل على أن الأمر بالوضوء مما غيرت النار استحباب لا أمر إيجاب. وفيه جواز قطع اللحم بالسكين وقد جاء النهي عنه في بعض الحديث ورويت الكراهة فيه وأمر بالنهي ويشبه أن يكون المعنى في ذلك كراهية زي العجم واستعمال عادتهم في الأكل بالأخلة والبارجين على مذهب النخوة والترفع عن مس الأصابع الشفتين والفم وليس يضيق قطعه بالسكين واصلاحه به والجز منه إذا كان اللحم طابقا أو عضوا كبيرا كالجنب ونحوه فإذا كان عُراقا ونحوه فنهشه مستحب على مذهب التواضع وطرح الكبر وقطعه بالسكين مباح عند الحاجة إليه غير ضيق.

65- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا عبد الملك بن أبي كريمة من خيار المسلمين حدثنا عبيدبن ثمامة المرادي. قال قدم علينا مصر عبد الله بن الحارث بن جزء الزُبيدي من أصحاب رسول الله ﷺ قال مر رسول الله ﷺ برجل وبرمته على النار فقال له: أطابت برمتك قال نعم بأبي أنت وأمي فتناول منها بضعة فلم يزل يعلكها حتى أحرم بالصلاة.

قوله يعلكها أي يلوكها في فمه والعلك مضغ ما لا يطاوع الأسنان.

47/78م ومن باب الوضوء من الدم

66- قال أبو داود: حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا ابن المبارك عن محمد بن إسحاق حدثني صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن جابر قال خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزوة ذات الرقاع فأصاب رجل امرأه رجل من المشركين فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دما في أصحاب محمد فخرج يتبع أثره ونزل النبي ﷺ فقال مَن رجل يكلؤنا فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال كونا بفم الشعب فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام الأ نصارى يصلي وأتى الرجل، فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم فرماه بسهم فوضعه فيه ونزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع ثم سجد ثم أنبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها.

ربيئة القوم هو الرقيب الذي يشرف على المرقب ينظر العدو من أي وجه يأتي فينذر أصحابه، وقوله نذروا به أي شعروا به وعلموا بمكانه.

وقد يحتج بهذا الحديث من لا يرى خروج الدم وسيلانه من غير السبيلين ناقضا للطهارة ويقول لو كان ناقضا للطهارة لكانت صلاة الأنصاري تفسد بسيلان الدم أول ما أصابته الرمية ولم يكن يجوز له بعد ذلك أن يركع ويسجد وهو محدث، وإلى هذا ذهب الشافعي.

وقال أكثر الفقهاء: سيلان الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء وهذا أحوط المذهبين وبه أقول.

وقول الشافعي قوي في القياس ومذاهبهم أقوى في الاتباع ولست أدري كيف يصح هذا الاستدلال من الخبر والدم إذا سال أصاب بدنه وجلده وربما أصاب ثيابه ومع إصابة شيء من ذلك وإن كان يسيرا لا تصح الصلاة عند الشافعي إلا أن يقال إن الدم كان يخرج من الجراحة على سبيل الذرق حتى لا يصيب شيئا من ظاهر بدنه ولئن كان كذلك فهو أمر عجب.

48/79م ومن باب الوضوء من النوم

67- قال أبو داود: حدثنا شاذ بن فياض حدثنا هشام الدستواني عن قتادة عن أنس قال كان أصحاب رسول الله ﷺ ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون.

في هذا الحديث من الفقه أن عين النوم ليس بحدث ولوكان حدثا لكان على أي حال وجد ناقضا للطهارة كسائر الأحداث التي قليلها وكثيرها وعمدها وخطؤها سواء في نقض الطهارة، وإنما هو مظنة للحدث موهم لوقوعه من النائم غالبا فإذا كان بحال من التماسك والاستواء في القعود المانع من خروج الحدث منه كان محكوما له بالسلامة، وبقاء الطهارة المتقدمة فإذا زال عن مستوى القعود بأن يكون مضطجعا أو راكعا أو ساجدا أو قائما أو مائلا إلى أحد شقيه أو على حال يسهل معها خروج الحدث من حيث لا يشعر بذلك كان أمره محمولا على أنه قد أحدث لأنه قد يكون منه الحدث في تلك الحالة غالبا ولوكان نوم القاعد ناقضا للطهارة لم يجز على عامة أصحاب رسول الله ﷺ وهو بين أظهرهم والوحي ينزل عليه أن يصلوا محدثين بحضرته فدل على أن النوم إذا كان بهذه الصفة غير ناقض للطهور.

وفي قوله كان أصحاب رسول الله ﷺ ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم دليل على أن ذلك أمركان يتواتر منهم وأنه قد كثر حتى صار كالعادة لهم وأنه لم يكن نادرا في بعض الأحوال وذلك يؤكد ما قلناه من أن عين النوم ليس بحدث.

وقوله تخفق رؤوسهم معناه تسقط أذقانهم على صدورهم وهذا لا يكون إلا عن نوم مثقل. قال ذو الرمة يذكر سرى الليل وغلبة النوم:

وخافق الرأس وسط الكور قلت له …زع بالزمام وجوف الليل مركوم

68- قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح في آخرين قالوا حدثنا بقية عن الوضين بن عطاء عن محفوط بن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: وكاء السِّه العينان فمن نام فليتوضأ.السه اسم من أسماء الدبر والوكاء الرباط الذي يشد به القربة ونحوها من الأوعية وفي بعض الكلام الذي يجري مجرى الأمثال حفظ ما في الوعاء بشد الوكاء.

وفي هذا الحديث ما يؤيد ماقلناه من أن النوم عينه ليس بحدث وإنما ينتقض به الطهر إذا كان مع إمكان انحلال الوكاء غالبا فأما مع إمساكه بأن يكون واطدا بالأرض فلا.

ومن أهل العلم من يذهب إلى أن النوم قليله وكثيره حدث إلا أنه لا يسمى هذا النوع منه نوما مطلقا إنما يسميه نعاسا قال وذلك لأنه إذا وجد منه النوم عدم معه التماسك أصلا وأنشد فيه قول الشاعر:

وسنان أثقله النعاس فرنَّقت... في عينه سنة وليس بنائم

وقال المفضل الضبي السنة في الرأس والنوم في القلب ويشهد لذلك قول النبي ﷺ: تنام عيناي ولا ينام قلبي.

49/80م ومن باب الرجل يطأ الاذى برجله

69- قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، عَن أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق قال قال عبد الله كنا لا نتوضأ من موطىء ولا نكُف شعرا ولا ثوبا.

الموطىء ما يوطأ من الأذى في الطرق وأصله الموطوء بالواو وإنما أراد بذلك أنهم كانوا لا يعيدون الوضوء للأذى إذا أصاب أرجلهم لأنهم كانوا لا يغسلون أرجلهم ولا ينظفونها من الأذى إذا أصابها.

وقوله لا نكف شعرا ولا ثوبا أي لا نقيها من التراب إذا صلينا صيانة لهما عن التتريب ولكن نرسلهما حتى يقعا بالأرض فيسجدا مع الأعضاء.

0 5/82م ومن باب في المذي

70- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي النَّضر عن سليمان بن يسار عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمره أن يسأل رسول الله ﷺ عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه فإن عندي ابنته وأنا أستحي أن أسأله. قال المقداد فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة.

71- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا هشام بن عروة عن عروة أن عليا رضي الله عنه قال للمقداد وذكر نحو هذا. قال فسأله المقداد فقال رسول الله ﷺ: ليغسل ذكره وأنثييه.

قوله فلينضح فرجه معناه ليغسله بالماء وأمر بغسل الأنثيين استظهارا بزيادة التطهير لأن المذي ربما انتشر فأصاب الأنثيين ويقال إن الماء البارد إذا أصاب الأنثيين رد المذي وكسر من غربه فلذلك أمره بغسلهما.

وفيه من الفقه أن المذي نجس وأنه ليس فيه إلا الوضوء.

1 5/83 ومن باب الإكسال

72- قال أبو داود: حدثنا محمد بن مهران البزاز الرازي حدثنا مبشر الحلبي عن محمد أبي غسان، عَن أبي حازم عن سهل بن سعد حدثني أُبيّ بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله ﷺ في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد.

قال معنى الماء من الماء إنما هو وجوب الاغتسال بالماء من أجل خروج الماء الدافق وكان الحكم في صدر الاسلام أن مخالطة الرجل المرأة حتى يلتقي الختانان منهما من غير إترال لا يوجب الاغتسال فأحد الماءين المذكورين في الخبر هو المني والماء الآخر الغسول الذي يغسل به. ثم نسخ ذلك واستقر الحكم على أن الختانين إذا التقيا فقد وجب الغسل سواء كان هناك إنزال أو لم يكن، وقد بقي على المذهب الأول جماعة من الصحابة لم يبلغهم خبر التقاء الختانين. منهم سعد بن أبي وقاص وأبو أيوب الأنصاري وأبو سعيد الخدري ورافع بن خديج وزيد بن خالد وممن ذهب إلى قولهم سليمان الأعمش ومن المتأخرين داود بن علي. وروى شريك عن داود عن عكرمة عن ابن عباس في قوله الماء من الماء قال إنما ذلك في الاحتلام.

وفي قوله الماء من الماء مستدل لمن ذهب إلى طهارة المني وذلك أنه سماه ماء وهذا الاسم على إطلاقه لا يكون إلا في الطاهر ألا ترى أنه قال لايقولن أحدكم أرقت ماء وليقل بُلْتُ فمنع إطلاق هذا الاسم على النجاسة.

52/89م ومن باب الجنب يؤخر الغسل

73- قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن علي بن مدرك، عَن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير عن عبد الله بن نُجيّ عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب.

قوله لا تدخل الملائكة بيتا يريد الملائكة الذين ينزلون بالبركة والرحمة دون الملائكة الذين هم الحفظة فإنهم لا يفارقون الجنب وغير الجنب.

وقد قيل أنه لم يرد بالجنب ههنا من أصابته جنابة فأخر الاغتسال إلى أوان حضور الصلاة ولكنه الذي يجنب فلا يغتسل ويتهاون به ويتخذه عادة فإن النبي ﷺ قد كان يطوف على نسائه في غسل واحد، وفي هذا تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه. وقالت عائشة كان رسول الله ﷺ ينام وهوجنب من غير أن يمس ماء.

وأما الكلب فهو أن يقتني كلبا ليس لزرع ولا ضرع أو صيد، فأما إذا كان يرتبطه للحاجة إليه في بعض هذه الأمور أو لحراسة داره إذا اضطر إليه فلا حرج عليه. وأما الصورة فهي كل صورة من ذوات الأرواح كانت لها أشخاص منتصبة أو كانت منقوشة في سقف أوجدار أومصنوعة في نمط أومنسوجة في ثوب أو ما كان فإن قضية العموم تأتي عليه فليجتنب وبالله التوفيق.

53/90م ومن باب الجنب يقرأ

74- قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مُرة عن عبد الله بن سلمة قال دخلت على عليّ أنا ورجلان رجل منا ورجل من بني أسد فبعثهما علي رضي الله عنه وجها. وقال إنكما عِلجان فعالجا عن دينكما. فدخل المخرج ثم خرج فدعا بماء فأخذ منه حفنة فتمسح بها ثم جعل يقرأ القرآن فأنكروا ذلك فقال إن رسول الله ﷺ كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويأكل معنا ولم يكن يحجبُه أو قال يحجزُه عن القرآن شيء ليس الجنابة.

قوله إنكما علجان يريد الشدة والقوة على العمل يقال رجل عَلج وعُلج إذا كان قوي الخلقة وثيق البنية، وقوله عالجا عن دينكما أي جاهدا وجالدا.

وقوله ليس الجنابة معناه غير الجنابة، وحرف ليس لها ثلاثة مواضع أحدها أن تكون بمعنى الفعل ترفع الاسم وتنصب الخبر كقولك ليس عبد الله عاق وتكون بمعنى لا كقولك رأيت عبد الله ليس زيدا تنصب به زيدا كما تنصب بلا وتكون بمعنى غير، كقولك ما رأيت أكرم من عمرو ليس زيد أي غير زيد وهو يجر ما بعده.

وفي الحديث من الفقه أن الجنب لا يقرأ القرآن وكذلك الحائض لا تقرأ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة. وكان أحمد بن حنبل يرخص للجنب أن يقرأ الآية ونحنوها وكان يوهن حديث علي هذا ويضعف أمرعبد الله بن سلمة وكذلك قال مالك في الجبنب أنه لا يقرأ الآية ونحوها. وقد حكي عنه أنه قال تقرأ الحائض ولا يقرأ الجبنب لأن الحائض إذا لم تقرأ نسيت القرآن لأن أيام الحيض تتطاول ومدة الجنابة لا تطول، وروي عن ابن المسيب وعكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة الجنب القرآن وأكثر العلماء على تحريمه.

4 5/92م ومن باب الجنب يدخل المسجد

75- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأفلتُ بن خليفة حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة رضي الله عنها تقول جاء رسول الله ﷺ ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب.

وجوه البيوت أبوابها ولذلك قيل لناحية البيت التي فيها الباب وجه الكعبة.

وقوله وجهوا هذه البيوت عن المسجد أي احرفوا وجوهها يقال وجهت الرجل إلى ناحية كذا إذا جعلت وجهه إليها ووجهته عنها إذا صرفته عن جهتها إلى جهة غيرها.

وفي الحديث بيان أن الجنب لا يدخل المسجد وظاهر قوله ﷺ فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب يأتي على مقامه في المسجد ومروره فيه.

وقد اختلف العلماء في ذلك فقال أصحاب الرأي لا يدخل الجنب المسجد إلا بأحد الطهرين وهو قول سفيان الثوري فإن كان مسافرا ومر على مسجد فيه عين ماء تيمم بالصعيد ثم دخل المسجد واستقى. وقال مالك والشافعي ليس له أن يقعد في المسجد وله أن يمر فيه عابر سبيل. وتأول الشافعي قوله تعالى {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [2] الآية. على أن المراد به المسجد وهو موضع الصلاة وعلى هذا تأوله أبوعبيدة معمر بن المثنى. وكان أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الظاهر يجيزون للجنب دخول المسجد إلا أن أحمد كان يستحب له أن يتوضأ إذا أراد دخوله وضعفوا هذا الحديث وقالوا افلتُ راويه مجهول لا يصح الاحتجاج بحديثه، والآية على مذهب هؤلاء الطائفة المتقدمة متأولة على أن عابري سبيل هم المسافرون تصيبهم الجنابة فيتيممون ويصلون، وقد روي ذلك عن ابن عباس.

55/93م ومن باب الجنب يصلي بالقوم وهو ناس

76- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن زياد الأعلم عن الحسن، عَن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أَنْ مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر ماء فصلى بهم.

قلت في هذا الحديث دلالة على أنه إذا صلى بالقوم وهو جنب وهم لا يعلمون بجنابته إن صلاتهم ماضية ولا إعادة عليهم وعلى الإمام الإعادة وذلك أن الظاهر من حكم لفظ الخبر أنهم قد دخلوا في الصلاة معه ثم استوقفهم إلى أن اغتسل وجاء فأتم الصلاة بهم، وإذا صح جزء من الصلاة حتى يجوز البناء عليه جاز سائر أجزائها، والاقتداء بالإمام طريقه الاجتهاد، وإنما كلِفَ المأموم الظاهِرَ من أمره وليس عليه الإحاطة لأنه يتعذر دركها فإذا أخطأ فيما حكمه الظاهر لم ينقض عليه فعله كالحاكم لا ينقض عليه حكمه فيما طريقه الاجتهاد وإن أخطأ فيه ولا سبيل للمأموم إلى معرفة طهاره الإمام ولا عتب عليه إن عزب عنه علمها وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا يعلم له مخالف وإليه ذهب الشافعي.

وفي الحديث دليل على أن افتتاح المأموم صلاته قبل الإمام لا تبطل صلاته وفيه حجة لمن ذهب إلى البناء على الصلاة في الحدث.

56/94م ومن باب في الرجل يجد البِلةَ في منامه

77- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حماد بن خالد الخياط حدثنا عبد الله العمري عن عبيد الله عن القاسم عن عائشة قالت سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلام قال يغتسل وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل قال لا غسل عليه. فقالت أم سليم المرأة ترى ذلك أعليها الغسلُ قال نعم إنما النساء شقائق الرجال.

قلت ظاهر هذا الحديث يوجب الاغتسال إذا رأى البلة وإن لم يتيقن أنها الماء الدافق. وروي هذا القول عن جماعة من التابعين هم عطاء والشعبي والنخعي وقال أحمد بن حنبل أعجب إليّ أن يغتسل إلا رجلا به أبردة.

وقال أكثر أهل العلم لا يجب عليه الاغتسال حتى يعلم أنه بلل الماء الدافق واستحبوا أن يغتسل من طريق الاحتياط ولم يختلفوا أنه إذا لم ير الماء وإن كان رأى في النوم أنه قد احتلم فإنه لا يجب عليه الاغتسال، وعبد الله بن عمر العمري ليس بالقوي عند أهل الحديث.

وقوله النساء شقائق الرجال أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع فكأنهن شققن من الرجال.

وفيه من الفقه إثبات القياس والحاق حكم النظير بالنظير وأن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا بالنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها، وفيه ما دل على فساد قول من زعم من أهل الظاهر أن من أعتق شركا له في جارية بينه وبين شريكه وكان موسرا فإنه لا يقوَّم عليه نصيب شريكه ولا تعتق الجارية لأن الحديث إنما ورد في العبد دون الأمة.

57/97م ومن باب الغسل من الجنابة

78- قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو عاصم عن حنظلة عن القاسم عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ إذا اغتسل من الجنابة جاء بشيء نحو الحِلاب فأخذ بكفيه فبدأ بشِق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه.

الحلاب إناء يسع قدر حلبة ناقة، وقد ذكره محمد بن إسماعيل في كتابه وتأوله على استعمال الطيب في الطهور وأحسبه توهم أنه أريد بالمحلب الذي يستعمل في غسل الأيدي. وليس هذا من الطيب في شيء وإنما هوعلى ما فسرتم لك ومنه قول الشاعر:

صاح هل رأيت أو سمعت براع... رد في الضرع ما قرى في الحلاب

79- قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي حدثنا الحارث بن وجيه حدثنا مالك بن دينار عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله: تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة.

ظاهر هذا الحديث يوجب نقض القرون والضفائر إذا أراد الاغتسال من الجنابة لأنه لا يكون شعره كله شعرة شعرة مغسولا إلا بنقضها وإليه ذهب إبراهيم النخعي وقال عامة أهل العلم إيصال الماء إلى أصول الشعر وإن لم ينقض شعره يجزيه. والحديث ضعيف والحارث بن وجيه مجهول وقد يحتج به من يوجب الاستنشاق في الجنابة لما في داخل الأنف من الشعر.

واحتج بعضهم في إيجاب المضمضة بقوله وأنقوا البشرة وزعم أن داخل الفم من البشرة، وهذا خلاف قول أهل اللغة لأن البشرة عندهم هي ما ظهر من البدن فباشره البصر من الناظر إليه، وأما داخل الأنف والفم فهو الأدمة والعرب تقول فلان مُؤدَم مُبشر إذا كان حسن الظاهر مخبوء الباطن كذلك أخبرني أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى.

58/99م ومن باب في المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل

80- قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة أن امرأة من المسلمين قالت يا رسول اللهإ ني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة. قال إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حَثَيات من ماء ثم تفيضي على ساتر جسدك فإذا أنت قد طهرت.

قولها أشد ضفر رأسي أي فتل الشعر وإدخال بعضه في بعض يقال ضفرت الشعر إذا فعلت ذلك به وضفرت شراك النعل ونحوه والعقائص يقال لها الضفاير.

وفي قوله ﷺ فإذا أنت قد طهرت دليل على أنه إذا انغمس في الماء أوبلل به بدنه من غير دلك باليد وامرار بها عليه فقد أجزأه، وهو قول عامة الفقهاء إلا مالك فانه قال إذا اغتسل من الجنابة فانه لا يجزيه حتى يُمر يده على جسده. وكذلك قال في الوضوء إذا غمس يده أو رجله في الماء لم يجزئه وإن نوى الطهارة حتى يمر يديه على رجليه يتدلك بهما.

وفيه دليل على أن الفيضة الواحدة من الماء إذا عمت تجزيه وأن الغسلات الثلاث إنما هي على الاستحباب وليست على الوجوب.

59/102م ومن باب في مؤاكلة الحائض ومجامعتها

81- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن أسيد بن حُضير وعباد بن بشر أتيا النبي ﷺ فسألاه أن يأذن لهما في وطء النساء في المحيض خلافا لليهود فتمعر وجه رسول الله ﷺ حتى ظننا أنه قد وجد عليهما قال فخرجا واستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله ﷺ فبعث في آثارهما فسقاهما فظننا أنه لم يجد عليهما.

قوله تمعر وجهه معناه تغير والأصل في التمعر قلة النضارة وعدم إشراق اللون ومنه المكان الأمعر وهو الجدب الذي ليس فيه خصب.

وقوله فظننا أنه لم يجد عليهما يريد علمنا فالظن الأول حسبان والآخر علم ويقين، والعرب تجعل الظن مرة حسبانا ومرة علما ويقينا لاتصال طرفيه بهما فمبدأ العلم ظن وآخره يقين قال الله تعالى {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} [3] معناه يوقنون.

82- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن مِسعَر عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة قالت كنت أتعرّق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي ﷺ فيضع فمه في الموضع الذي فيه وضعته.

العظم العراق بما عليه من اللحم تريد أني كنت انتهسه وآخذ ما عليه من اللحم.

60/103م ومن باب الحائض تناول من المسجد

83- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم عن عائشة قالت قال لي رسول الله ﷺ: ناوليني الخمرة من المسجد فقلت إني حائض فقال رسول الله ﷺ إن حيضتك ليست في يدك.

الخمرة السجادة التي يسجد عليها المصلي ويقال سميت خمرة لأنها تخمر وجه المصلي عن الأرض أي تستره. وقوله ليست حيضتك في يدك الحيضة بكسر الحاء الحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض كما قالوا القعدة والجلسة يريدون حال القعود والجلوس.

وأما الحيضة مفتوحة الحاء فهي الدفعة من دفعات دم الحيض.

وفي الحديث من الفقه أن للحائض أن تتناول الشيء بيدها من المسجد وأن من حلف لا يدخل دارا أو مسجدا فإنه لا يحنث بإدخال يده أو بعض جسده فيه ما لم يدخله بجميع بدنه.

1 6/105م ومن باب في اتيان الحائض

84- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن ابن عباس عن النبي ﷺ في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال يتصدق بدينار أو بنصف دينار.

قلت قد ذهب إلى إيجاب الكفارة عليه غير واحد من العلماء منهم قتادة والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وبه قال الشافعي قديما ثم قال في الجديد لا شيء عليه.

قلت ولا ينكر أن يكون فيه كفارة لأنه وطء محظور كالوطء في رمضان وقال أكثر العلماء لا شيء عليه ويستغفر الله وزعموا أن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس ( ولا يصح متصلا مرفوعا والذمم برية إلا أن تقوم الحجة بشغلها وكان ابن عباس ) يقول إن أصابها في فور الدم تصدق بدينار وإن كان في آخره فنصف دينار.

وقال قتادة دينار للحائض ونصف دينار إذا أصابها قبل أن تغتسل وكان أحمد ابن حنبل يقول هو مخير بين الدينار والنصف الدينار. وروي عن الحسن أنه قال عليه ما على من وقع على أهله في شهر رمضان.

62/106م ومن باب في الرجل يصيب

من أهله دون الجماع

85- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ يأمرنا في فوح حيضنا أن نتزر ثم يباشرنا وأيكم كان يملك إربه كما كان رسول الله ﷺ يملك إربه.

فوح الحيض معظمه وأوله ومثله فَوعة الدم، يقال فاح وفاع بمعنى واحد وجاء في الحديث النهي عن السير في أول الليل حتى تذهب فوعته يريد إقبال ظلمته كما جاء النهي عن السير حتى يذهب فحمة العشاء. وقولها أيكم يملك إربه يروى على وجهين. أحدهما الإرب مكسورة الألف والآخر الأرب مفتوحة الألف والراء وكلاهما معناه وطر النفس وحاجتها يقال لفلان عندي أرب وإرب أي بغية وحاجة.

63/107م ومن باب في المرأة تستحاض

ومن قال تدع الصلاة عدد الأيام التي كانت تحيض

86- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسارعن أم سلمة أن امرأة كانت تُهَراقُ الدماء على عهد رسول الله ﷺ فاستفتت لها أم سلمة رسول الله ﷺ قال: لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن في الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفربثوب ثم لتصلّ.

قلت هذا حكم المرأة يكون لها من الشهر أيام معلومة تحيضها في أيام الصحة قبل حدوث العلة، ثم تستحاض فتهريق الدماء ويستمر بها السيلان. أمرها رسول الله ﷺ أن تدع الصلاة من الشهر قدر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها ما أصابها، فإذا استوفت عدد تلك اليام اغتسلت مرة واحدة وصار حكمها حكم الطواهر في وجوب الصلاة والصوم عليها وجواز الطواف إذا حجت وغشيان الزوج إياها، إلا أنها إذا أرادت أن تصلي توضأت لكل صلاة تصليها لأن طهارتها طهارة ضرورية فلا يجوز أن تصلي بها صلاتي فرض كالمتيمم ولولا أنها قد كانت تحفظ عدد أيامها التي كانت تحيضها أيام الصحة لم يكن لقوله ﷺ: لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها معنى. إذ لا يجوز أن يردها إلى رأيها ونظرها في أمر هي غير عارفة بكنهه والاستثفار أن تشد ثوبا تحتجز به يمسك موضع الدم ليمنع السيلان وهومأخوذ من الثفر.

وفيه من الفقه أن المستحاضة يجب عليها أن تستثفر وأن تعالج نفسها بما يسد المسلك ويرد الدم من قطن ونحوه كما قال في حديث حمنة أنعت لك الكرسف وقال لها تلجمي واستثفري.

وفيه دليل على أنها إذا لم تفعل ذلك كان عليها إعادة الوضوء إذا خرج منها دم. وإنما جاء قوله ﷺ تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير فيمن قد تعالجت بالاستثفار ونحوه فإذا جاء بعد ذلك شيء غالب لا يرده الثفر حتى تقطر لم يكن عليها إعادة الوضوء. فأما إذا لم تكن قدمت العلاج فهي غير معذورة وإنما أتيت من قبل نفسها فلزمها الوضوء.

وهكذا حكم من به سلس البول يجب عليه أن يسد المجرى بقطن ونحوه، ثم يشده بالعصائب فإن لم يفعل فقطر أعاد الوضوء.

وفي هذا الباب حروف منها أن عائشة قالت رأيت مِركنها مَلآن دما والمرْكنُ شبه الجفنة الكبيرة ومنها قوله إذا أتاك قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء يريد بالقرء هنا الحيض يقال قرء وقرء ويجمع على القروء وحقيقة القرء الوقت الذي يعود فيه الحيض أو الطهر ولذلك قيل للطهر قرء كما قيل للحيض قرء، وذهب إلى أن الأقراء في العدة الحيض عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإلى أنها الأطهار عائشة. وروي ذلك أيضا عن زيد بن ثابت ومنها قوله ﷺ: إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، يريد أن ذلك علة حدثت بها من تصدع العروق فاتصل الدم وليس بدم الحيض الذي يقذفه الرحم لميقات معلوم فيجري مجرى سائر الأثفال والفضول التي تستغني عنها الطبيعة فتقذفها عن البدن فتجد النفس راحة لمفارقتها وتخلصها عن ثفلها وأذاها.

64/9 10م ومن باب من قال إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة

87- قال أبو داود: حدثنا ابن أبي عقيل ومحمد بن سلمة المصريان قالا: حَدَّثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وعمرة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش ختنة رسول الله ﷺ: استحيضت سبع سنين. فقال رسول الله ﷺ: إن هذه ليست بالحيضة ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي.

قال أبو داود: زاد الأوزاعي في هذا الحديث عن الزهري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها قالت فأمرها النبي إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي.

قلت وهذا خلاف الأول وهو حكم المرأة التي تميز دمها فتراه زمانا أسود ثخينا فذلك إقبال حيضها ثم تراه رقيقا مشرقا فذلك حين إدبار الحيضة ولا يقول لها رسول الله ﷺ هذا القول إلا وهي تعرف إقبالها وإدبارها بعلامة تفصل بها بين الأمرين وبين ذلك حديثه الآخر.

88- قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن محمد، يَعني ابن عمرو حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي ﷺ: إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق.

قال أبو داود: وقد روى أنس بن سيرين عن ابن عباس في المستحاضة قال إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي. قلت فهذا يبين لك أن الدم إذا تميز كان الحكم له وإن كانت لها أيام معلومة. واعتبار الشيء بذاته وبخاص صفانه أولى من اعتباره بغيره من الأشياء الخارجة عنه فإذا عدمت التمييز فالاعتبار للأيام على معنى حديث أم سلمة.

وقول ابن عباس إذا رأت الدم البحراني يريد الدم الغليظ الواسع الذي يخرج من قعر الرحم ونسب إلى البحر لكثرته وسعته والتبحر التوسع في الشيء والانبساط فيه.

89- قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا زهير بن محمد حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت رسول الله ﷺ استفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت يا رسول الله إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم فقال: أنعت لك الكُرسُف فإنه يذهب الدم. قالت هو أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوبا فقالت هو أكثر من ذلك إنما اثُج ثجا قال رسول الله ﷺ سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر وإن قويت عليهما فأنت أعلم وقال لها إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيِّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك. قال رسول الله ﷺ وهذا أعجب الأمرين إليّ.

قال أبو داود: روى هذا الحديث عمرو بن ثابت عن ابن عقيل لم يجعل قوله وهذا أعجب الأمرين إليّ كلام النبي ﷺ جعله كلام حمنة.

قلت وهذا خلاف الحكم الأول في حديث أم سلمة وخلاف الحكم الثاني في حديث عائشة وإنما هي امرأة مبتدأة لم يتقدم لها أيام ولا هي مميزة لدمها وقد استمر بها الدم حتى غلبها فرد رسول الله ﷺ أمرها إلى العرف الظاهر والأمر الغالب من أحوال النساء كما حمل أمرها في تحيضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عاداتهن ويدل على ذلك قوله كما تحيض النساء ويطهرن من ميقات حيضهن وطهرهن، وهذا أصل في قياس أمرالنساء بعضهن على بعض في طب الحيض والحمل والبلوغ وما أشبه هذا من أمورهن ويشبه أن يكون ذلك منه ﷺ على غير وجه التخيير بين الستة والسبعة لكن على معنى اعتبارحالها بحال من هي مثلها وفي مثل سنها من نساء أهل إقليمها فإن كانت عادة مثلها منهن أن تقعد ستا قعدت ستا وإن سبعا فسبعا.

وفيه وجه آخر وذلك أنه قد يحتمل أن تكون هذه المرأة قد ثبت لها فيما تقدم أيام ستة أو سبعة، إلا أنها قد نسيتها فلا تدري أيتهما كانت فأمرها أن تتحرى وتجتهد وتبني أمرها على ما تتيقنه من أحد العددين. ومن ذهب إلى هذا استدل بقوله في علم الله أي فيما علم الله من أمرك من ستة أوسبعة.

وقد ترك بعض العلماء القول بهذا الخبر لأن ابن عقيل راويه ليس بذلك وصار في المبتدأة التي لا تمييز للدم معها إلى أنها تحتاط وتأخذ باليقين فلا تترك الصلاة إلا أقل مدة الحيض عنده وهي يوم وليلة، ثم تغتسل وتصلي سائر الشهرلأن الصلاة لا تسقط بالشك وإلى هذا مال الشافعي في أحد قوليه.

وقوله أنعت لك الكرسف يريد القطن وقولها أثج ثجا، الثج شدة السيلان.

وقوله إنما هي ركضة الشيطان فإن أصل الركض الضرب بالرجل والإصابة بها يريد به الإضرار والإفساد كما تركض الدابة وتصيب برجلها ومعناه والله أعلم أن الشيطان قد وجد بذلك طريقا إلى التلبيس عليها في أمردينها ووقت طهرها وصلاتها حتى أنساها ذلك فصار في التقدير كأنه ركضة نالتها من ركضاته وإضافة النسيان في هذا إلى فعل الشيطان كهو في قوله سبحانه {فأنساه الشيطان ذكر ربه} [4] وكقول النبي ﷺ: إن نساني الشيطان شيئا من صلاتي فسبحوا أوكما قال أي إن لبس علي.

هامش

  1. [البقرة: 128]
  2. [النساء: 43]
  3. [البقرة: 46]
  4. [يوسف: 42]