→ السابق | معالم السنن للإمام الخطابي
|
اللاحق ← |
5 1/23م ومن باب الاستنجاء بالماء
23- قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ دخل حائطا ومعه غلام معه ميْضأةٌ وهو أصغرنا فوضعها عند السدرة فقضى حاجته فخرج علينا وقد استنجى بالماء.
الميضأة شبه المطهرة تسع من الماء قدر ما يتوضأ به وفيه من العلم أن حمل الخادم الماء إلى المغتسل غير مكروه وأن الأدب فيه أن يليه الأصاغر من الخدم دون الكبار. وفيه استحباب الاستنجاء بالماء وإن كانت الحجارة مجزية. وقد كره قوم من السلف الاستنجاء بالماء وزعم بعض المتأخرين أن الماء نوع من المطعوم فكرهه لأجل ذلك، والسنة تقضي على قوله وتبطله، وكان بعض القراء يكره الوضوء في مشارع المياه الجارية وكان يستحب أن يؤخذ له الماء في ركوة أو ميضأة، وزعم أنه من السنة لأنه لم يبلغه أن النبي ﷺ توضأ على نهر أو شرع في ماء جار، قلت وهذا عندي من أجل أنه لم يكن بحضرته المياه الجارية والأنهار المطردة، فأما من كان في بلاد ريف وبين ظهراني مياه جارية فأراد أن يشرع فيها ويتوضأ منها كان له ذلك من غير حرج في حق دين ولا سنة.
16/25م ومن باب السواك
24- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد عن سفيان، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة يرفعه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء وبالسواك عند كل صلاة.
فيه من الفقه أن السواك غير واجب وذلك أن لولا كلمة تمنع الشيء لوقوع غيره فصار الوجوب بها ممنوعا ولو كان السواك واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق.
وفيه دليل أن أصل أوامره على الوجوب ولولا أنه إذا أمرنا بالشيء صار واجبا لم يكن لقوله لأمرتهم به معنى وكيف يشفق عليهم من الأمر بالشيء وهو إذا أمر به لم يجب ولم يلزم فثبت أنه على الوجوب ما لم يقم دليل على خلافه.
وأما تأخيره العشاء فالأصل أن تعجيل الصلوات كلها أولى وأفضل وإنما اختار لهم تأخير العشاء ليقل حظ النوم وتطول مدة انتظار الصلاة وقد قال ﷺ: إن أحدكم في صلاة ما
دام ينتظر الصلاة.
25- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال قلت: أرأيت توضؤ ابن عمر لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر عم ذلك فقال حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثها أن رسول الله ﷺ أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة.
قال يحتج بهذا الحديث من يرى أن المتيمم لا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد وأن عليه أن يتيمم لكل صلاة فريضة. قال وذلك لأن الطهارة بالماء كانت مفروضة عليه لكل صلاة وكان معلوما أن حكم التيمم الذي جعل بدلا عنها مثلها في الوجوب فلما وقع التخفيف بالعفو عن الأصل ولم يذكر سقوط التيمم كان باقيا على حكمه الأول وهو قول علي بن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهما والنخعي وقتادة وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. فإن سئل على هذا فقيل فهلا كان التيمم تبعا له في السقوط كهو في الوجوب ؟ قيل الأصل أن الشيء إذا ثبت وصار شرعا لم يزل عن محله إلا بيقين نسخ وليس مع من أسقطه إلا معنى يحتمل ما ادعاه ويحتمل غيره، والنسخ لا يقع بالقياس ولا بالأمور التي فيها احتمال.
17/27م- ومن باب الرجل يستاك بسواك غيره
26- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا عنبسة بن عبد الواحد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ يستن وعنده رجلان أحدهما أكبر من الآخر فأوحى إليه في فضل السواك أن كَبِّر أي أعط السواك أكبرهما.
قوله يستن معناه يستاك وأصله مأخوذ من السن، وهو إمرارك الشيء الذي فيه حزونة على شيء آخر ومنه المسن الذي يشحذ به الحديد ونحوه يريد أنه كان يدلك أسنانه.
وفيه من الأدب تقديم حق الأكبر من جماعة الحضور وتبديته على من هو أصغر منه وهو السنة في السلام والتحية والشراب والطيب ونحوها من الأمور. وفي معناه تقديم ذي السن بالركوب والحذاء والطست وما أشبه ذلك من الإرفاق.
وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه على ما يذهب إليه بعض من يتقزز إلا أن السنة فيه أن يغسله ثم يستعمله.
18/29م- ومن باب غسل السواك
27- قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب، عَن أبي الزبير عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ: عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك والاستنشاق بالماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء،، يَعني الاستنجاء بالماء.
قال مصعب بن شيبة ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. وفي رواية عمار بن ياسر أن رسول الله قال إن من الفطرة المضمضة والاستنشاق وذكر نحوه ولم يذكر إعفاء اللحية وزاد والختان قال والانتضاح ولم يذكر انتقاص الماء.
قوله ﷺ: عشر من الفطرة فسر أكثر العلماء الفطرة في هذا الحديث بالسنة وتأويله أن هذه الخصال من سنن الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم لقوله سبحانه {فبهداهم اقتده} [1] وأول من أُمر بها إبراهيم صلوات الله عليه وذلك قوله تعالى {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} [2]. قال ابن عباس أمره بعشر خصال ثم عددهن فلما فعلهن قال إني جاعلك للناس إماما أي ليقتدي بك ويستن بسنتك وقد أمرت هذه الأمة بمتابعته خصوصا وبيان ذلك في قوله تعالى {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} [3] ويقال إنها كانت عليه فرضا وهن لنا سنة.
وأما إعفاء اللحية فهو إرسالها وتوفيرها كره لنا أن نقصها كفعل بعض الأعاجم وكان من زي آل كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب فندب ﷺ أمته إلى مخالفتهم في الزي والهيئة.
ويقال عفا الشعر والنبات إذا وفا وقد عفوته وأعفيته لغتان قال تعالى {حتى عفوا} [4] أي أكثروا.
وأما غسل البراجم فمعناه تنظيف المواضع التي تتشنج ويجتمع فيها الوسخ وأصل البراجم العقد التي تكون في ظهور الأصابع، والرواجب ما بين البراجم وواحدة البراجم بُرجمة.
وأما الختان فإنه وإن كان مذكورا في جملة السنن فإنه عند كثير من العلماء على الوجوب وذلك أنه شعار الدين وبه يعرف المسلم من الكافر، وإذا وجد المختون بين جماعة قتلى غير مختتنين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين.
وحكي، عَن أبي العباس بن شريح أنه كان يقول لا خلاف أن ستر العورة واجب فلولا أن الختان فرض لم يجز هتك حرمة المختون بالنظر إلى عورته.
وأما انتضاح الماء الاستنجاء وأصله من النضح وهو الماء القليل، وانتقاص الماء الاستنجاء به أيضا كما فسروه.
وقد يستدل بهذا الحديث من يرى المضمضة والاستنشاق غير واجبين في شيء من الطهارات ويراهما سنه كنظائرهما المذكورة معهما، إلا أنه قد يجوز أن يفرق بين القراين التي يجمعها نظم واحد بدليل يقوم على بعضها فيحكم له بخلاف حكم صواحباتها.
وقد روي أنه كره من الشاة سبعا: الدم، والمرارة، والحيا، والغدة، والذكر والأنثيين، والمثانة. والدم حرام بالإجماع وعامة المذكورات معه مكروهه غير محرمة.
19/30م- باب
28- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن منصور وحُصين عن أبى وائل عن حذيفة أن رسول الله ﷺ كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك.
قوله يشوص معناه يغسل يقال شاصه يشوصه، وماصه يموصه بمعنى واحد إذا غسله.
ومن باب فرض الوضوء
29- قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن قتادة، عَن أبي المليح عن أبيه عن النبي ﷺ قال لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غُلول.
فيه من الفقه أن الصلوات كلها مفتقرة إلى الطهارة وتدخل فيها صلاة الجنازة والعيدين وغيرهما من النوافل كلها.
وفيه دليل أن الطواف لا يجزي بغير طهور لأن النبي ﷺ سماه صلاة فقال الطواف صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام.
وفي قوله ولا صدقة من غلول بيان أن من سرق مالا أو خانه ثم تصدق به لم يجز وإن كان نواه عن صاحبه وفيه مستدل لمن ذهب إلى أنه إن تصدق به على صاحب المال لم تسقط عنه تبعته. وإن كان طعاما فأطعمه إياه لم يبرأ منه ما لم يعلمه بذلك. وإطعام الطعام لأهل الحاجة صدقة ولغيرهم معروف وليس من أداء للحقوق ورد الظلامات.
30- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان، عَن أبي عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال. قال رسول الله ﷺ مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم.
فيه من الفقه أن تكبيرة الافتتاح جزء من إجراء الصلاة وذلك لأنه أضافها إلى الصلاة كما يضاف إليها سائر أجزائها من ركوع وسجود، وإذا كان كذلك لم يجز أن تعري مباديها عن النية لكن تضامها كما لا يجزيه إلا بمضامة سائر شرائطها من استقبال القبلة وستر العورة ونحوهما.
وفيه دليل أن الصلاة لا يجوز افتتاحها إلا بلفظ التكبير دون غيره من الأذكار وذلك لأنه قد عينه بالألف واللام اللتين هما للتعريف والألف واللام مع الإضافة يفيدان السلب والإيجاب وهو أن يسلبا الحكم فيما عدا المذكور ويوجبان ثبوت المذكور، كقولك فلان مبيته المساجد أي لا مأوى له غيرها، وحيلة الهم الصبر أي لا مدفع له إلا بالصبر ومثله في الكلام كثير.
وفيه دليل على أن التحليل لا يقع بغير السلام لما ذكرنا من المعنى ولو وقع بغيره لكان ذلك خُلْفا في الخبر.
21/33م- ومن باب الماء يكون في الفلاة
31- قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي وغيرهم قالوا حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عمر عن أبيه قال سئل رسول الله ﷺ عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال ﷺ إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث.
هذا لفظ ابن العلاء وقال عثمان والحسن بن علي ومحمد بن عباد بن جعفر قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زُريع عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ سئل عن الماء يكون في الفلاة فذكر معناه.
32- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال حدثني أبي أن رسول الله ﷺ قال: إذا كان الماء قلتين لا ينجس.
قلت قد تكون القلة الإناء الصغير الذي تقله الأيدي ويتعاطى فيه الشرب كالكيزان ونحوها، وقد تكون القلة الجرة الكبيرة التي يقلها القوي من الرجال إلا أن مخرج الخبر قد دل على أن المراد به ليس النوع الأول لأنه إنما سئل عن الماء الذي يكون بالفلاة من الأرض في المصانع والوهاد والغدرَان ونحوها. ومثل هذه المياه لاتحمل بالكوز والكوزين في العرف والعادة لأن أدنى النجس إذا أصابه نجسه فعلم أنه ليس معنى الحديث.
وقد روي من غير طريق أبي داود من رواية ابن جريج إذا كان الماء قلتين بقلال هجر. أخبرناه محمد بن هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج. وذكر الحديث مرسلا وقال في حديثه بقلال هجر قال وقلال هجر مشهورة الصنيعة معلومة المقدار لا تختلف كما لا تختلف المكائل والصيعان والقرب المنسوبة إلى البلدان المحدودة على مثال واحد وهي أكبر ما يكون من القلال وأشهرها لأن الحد لا يقع بالمجهول ولذلك قيل قلتين على لفظ التثنية ولوكان وراءها قلة في الكبر لأشكلت دلالته فلما ثناها دل على أنه أكبر القلال لأن التثنية لا بد لها من فائدة وليست فائدتها إلا ما ذكرناه، وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب، ومنهم من قدرها بخمسمائة رطل.
ومعنى قوله لم يحمل الخبث أي يدفعه عن نفسه كما يقال فلان لا يحتمل الضيم إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه فأما من قال معناه أنه يضعف عن حمله فينجس فقد أحال لأنه لو كان كما قال لم يكن إذا فرق بين ما بلغ من الماء قلتين وبين ما لم يبلغهما، وإنما ورد هذا مورد الفصل والتحديد بين المقدار الذي ينجس والذي لا ينجس ويؤكد ذلك قوله ﷺ فإنه لا ينجس من رواية عاصم بن المنذر.
وممن ذهب إلى هذا في تحديد الماء، الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور وجماعة من أهل الحديث، منهم محمد بن إسحاق بن خزيمة.
وقد تكلم بعض أهل العلم في إسناده من قبل أن بعض رواته، قال عن عبد الله بن عبد الله، وقال بعضهم عبيد الله بن عبد الله، وليس هذا باختلاف يوجب توهينه لأن الحديث قد رواه عبيد الله وعبد الله معا. وذكروا أن الرواة قد اضطربوا فيه، فقالوا مرة عن محمد بن جعفر بن الزبير ومرة عن محمد بن عباد بن جعفر، وهذا اختلاف من قبل أبي أسامة حماد بن أسامة القرشي.
ورواه محمد بن إسحاق بن يسار عن محمد بن جعفر بن الزبير، فالخطأ من إحدى روايتيه متروك والصواب معمول به وليس في ذلك ما يوجب توهين الحديث وكفى شاهدا على صحته أن نجوم الأرض من أهل الحديث قد صححوه وقالوا به وهم القدوة وعليهم المعول في هذا الباب.
وقد يستدل بهذا الحديث من يرى سؤر السباع نجسا لقوله وما ينوبه من الدواب والسباع فلولا أن شرب السباع منه ينجسه لم يكن لمسألتهم عنه ولا لجوابه إياهم بهذا الكلام معنى، وقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن السباع إذا وردت المياه خاضتها وبالت فيها وتلك عادتها وطباعها وقل ماتخلو أعضاؤها من لوث أبوالها ورجيعها، وقد ينتابها أيضا في جملة السباع الكلاب وأسْآرها نجسة ببيان السنة.
22/34م- ومن باب في بئر بضاعة
33- قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثيرعن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج، عَن أبي سعيد الخدري أنه قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر تطرح فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن. فقال رسول الله ﷺ الماء طهور لا ينجسه شيء.
قد يتوهم كثير من الناس إذا سمع هذا الحديث ان هذا كان منهم عادة وأنهم كانوا يأتون هذا الفعل قصدا وتعمدا وهذا ما لا يجوز أن يظن بذمي بل بوثني فضلا عن مسلم ولم يزل من عادة الناس قديما وحديثا مسلمهم وكافرهم تنزيه المياه وصونها عن النجاسات فكيف يظن بأهل ذلك الزمان وهم أعلى طبقات أهل الدين وأفضل جماعة المسلمين. والماء في بلادهم أعز والحاجة إليه أمس أن يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانهم له، وقد لعن رسول الله ﷺ من تغوط في موارد الماء ومشارِعِه فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه رصدا لأنجاس ومطرحا للأقذار، هذا ما لا يليق بحالهم، وإنما كان هذا من أجل أن هذه البئر موضعها في حَدور من الأرض وأن السيول كانت تكسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها فتلقيها فيها وكان الماء لكثرته لا يؤثر فيه وقوع هذه الأشياء ولا يغيره فسألوا رسول الله ﷺ عن شأنها ليعلموا حكمها في الطهارة والنجاسة فكان من جوابه لهم أن الماء لا ينجسه شيء يريد الكثير منه الذي صفته صفة ماء هذه البئر في غزارته وكثرة جمامه لأن السؤال إنمّا وقع عنها بعينها فخرج الجواب عليها، وهذا لا يخالف حديث القلتين إذ كان معلوما أن الماء في بئر بضاعة يبلغ القلتين فأحد الحديثين يوافق الآخر ولا يناقضه والخاص يقضي على العام ويبينه ولا ينسخه.
34- قال أبو داود: حدثنا مسدد نا أبو الأحوص حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال اغتسل بعض أزواج النبي ﷺ في جفنة فجاء النبي ﷺ ليتوضأ منها أو ليغتسل فقالت له يا رسول الله إني كنت جنبا فقال رسول الله: إن الماء لا يُجنب.
قوله لا يجنب، معناه لا ينجس وحقيقته أنه لا يصير بمثل هذا الفعل إلى حال يجتنب فلا يستعمل، وأصل الجنابة البعد، ولذلك قيل للغريب جنب أي بعيد وسمي المجامع ما لم يغتسل جنبا لمجانبته الصلاة وقراءة القرآن كما سمي الغريب جنبا لبعده عن أهله ووطنه.
وقد روي أربع لا يجنبن: الثوب والإ نسان والأرض والماء، وفسروه أن الثوب إذا أصابه عرق الجنب والحائض لم ينجس. والإنسلن إذا أصابته الجنابة لم ينجس وإن صافحه جنب أو مشرك لم ينجس. والماء إن أدخل يده فيه جنب أو اغتسل فيه لم ينجس. والأرض إن اغتسل عليها جنب لم تنجس.
23/36م- ومن باب البول في الماء الراكد
35- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن محمد بن عجلان قال سمعت أبي يحدث، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة. الماء الدائم هو الراكد الذي لا يجري، ونهيه عن الاغتسال فيه يدل على أنه يسلبه حكمه كالبول فيه يسلبه حكمه إلا أن الاغتسال فيه لا ينجسه لأن بدن المؤمن ليس بنجس والبول ينجسه لنجاسته في نفسه.
وفيه دليل على أن الوضوء بالماء المستعمل غير جائز وإنما ينجس الماء بالبول فيه إذا كان دون القلتين بدليل ما تقدم من الحديث.
وفيه دليل على أن حكم الماء الجاري بخلاف الراكد لأن الشيء إذا ذكر بأخص أوصافه كان حكم ما عداه بخلافه. والمعنى فيه أن الماء الجاري إذا خالطه النجس دفعه الجزء الثاني الذي يتلوه فيه فيغلبه فيصير في معنى المستهلك ويخلفه الطاهر الذي لم يخالطه النجس والماء الراكد لا يدفع النجس عن نفسه إذا خالطه لكن يداخله ويقارُّه فمهما أراد استعمال شيء منه كان النجس فيه قائما والماء في حد القلة فكان محرما.
4 2/37م- ومن باب الوضوء بسؤر الكلب
36- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة في حديث هشام عن محمد، عَن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرارا أولاهن بالتراب. قال أبو داود وكذلك أيوب وحبيب بن الشهيد عن محمد.
في هذا الحديث من الفقه أن الكلب نجس الذات ولولا نجاسته لم يكن لأمره بتطهير الإناء من ولوغه معنى. والطهور يقع في الأصل إما لرفع حدث أو لازالة نجس والإناء لا يلحقه حكم الحدث فعلم أنه قصد به إزالة النجس وإذا ثبت أن لسانه الذي يتناول به الماء نجس يجب تطهير الإناء منه علم أن سائر أجزائة وأبعاضه في النجاسة بمثابة لسانه فبأي جزء من أجزاء بدنه ماسه وجب تطهيره وفيه البيان الواضح أنه لا يطهره أقل من عدد السبع وأن تعفيره بالتراب واجب. وإذا كان معلوما أن التراب أنمّا ضم إلى الماء استظهارا في التطهير وتوكيدا له لغلظ نجاسة الكلب فقد عقل أن الأشنان وما أشبهه من الأشياء التي فيها قوة الجلاء والتهير بمنزلة التراب في الجواز.
وفي دليل على أن الماءالمولوغ فيه نجس لأن الذي قد مسه الكلب هو الماء دون الإناء فلولا أن الماء نجس لم يجب تطهير الإناء منه.
ويؤيد ذلك قوله في رواية أخرى إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله سبعا من طريق علي بن مُسهر عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة عن النبي ﷺ حدثناه غير واحد من أصحابنا قالوا حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا محمد بن يحيى حدثنا إسماعيل بن خليل حدثنا علي بن مسهر. ولو كان المولوغ فيه باقيا على طهارته لم يأمر بإراقته، وقد يكون لبنا وزيتا ونحو ذلك من المطعوم وقد نهى ﷺ عن إضاعة المال. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن الماء طاهر وأن غسل الإناء تعبد، وقد دل الحديث على فساد هذا القول وبطلانه.
وذهب مالك والأوزاعي إلى أنه إذا لم يجد ماءً غيره توضأ به، وكان سفيان الثوري يقول يتوضأ به إذا لم يجد ماء غيره. ثم يتيمم بعده. فدل هذا من فتواهم على أن الماء المولوغ فيه عندهم ليس على النجاسة المحضة، وخالفهم من سواهم من أهل العلم ومنعوا التطهير به وحكموا بنجاسته.
وفي الخبر دليل على أن الماء القليل إذا حلته نجاسة فسد، وفيه دليل على تحريم بيع الكلب إذ كان نجس الذات فصار كسائر النجاسات.
25/38م- ومن باب في سؤر الهرة
37- قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءا فجاعت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين ما بنت أخي فقلت نعم. فقال إن رسول الله ﷺ قال لها: إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات.
فيه من الفقه أن ذات الهرة طاهرة وأن سؤرها غير نجس وأن الشرب منه والوضوء به غير مكروه.
وفيه دليل على أن سؤر كل طاهر الذات من السباع والدواب والطير وإن لم يكن مأكول اللحم طاهر.
وفيه دليل على جواز بيع الهر إذ قد جمع الطهارة والنفع.
وقوله إنها من الطوافين أو الطوافات عليكم يتأول على وجهين أحدهما أن يكون شبهها بخدم البيت وبمن يطوف على أهله للخدمة ومعالجة المهنة كقوله تعالى {طوافون عليكم بعضكم على بعض} [5]، يَعني المماليك والخدم وقال تعالى {يطوف عليهم ولدان مخلدون} [6] وقال ابن عمر إنمّا هي ربيطة من ربائط البيت والوجه الآخر أن يكون شبهها بمن يطوف للحاجة والمسألة يريد أن الأجر في مواساتها كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة ويتعرض للمسألة.
26/39م- ومن باب الوضوء بفضل وضوء المرأة
38- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيىعن سفيان حدثني منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كنت اغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد ونحن جنبان.
فيه دليل على أن الجنب ليس بنجس، وأن فضل وضوء المرأة طاهركفضل وضوء الرجل. وروى أبو داود في هذا الباب حديثا آخر في النهي عن فضل طهور المرأة.
39- قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار نا أبو داود [ زاد في المتن، يَعني الطيالسي ] حدثنا شعبة عن عاصم، عَن أبي حاجب عن الحكم بن عمرو وهو الأقرع أن رسول الله ﷺ نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة.
فكان وجه الجمع بين الحديثين أن ثبت حديث الأقرع أن النهي إنما وقع عن التطهير بفضل ما تستعمله المرأة من الماء وهو ما سال وفضل عن أعضائها عند التطهر به دون الفضل الذي تسئره في الإناء، وفيه حجة لمن رأى أن الماء المستعمل لا يجوز الوضوء به. ومن الناس من يجعل النهي في ذلك على الاستحباب دون الإيجاب، وكان ابن عمر يذهب إلى النهي عن فضل وضوء المرأة، إنما هو إذا كانت جنبا أو حائضا فإذا كانت طاهرا فلا بأس به.
وإسناد حديث عائشة في الإباحة أجود من إسناد خبر النهي. وقال محمد بن إسماعيل: خبر الأقرع لا يصح. والصحيح في هذا الباب حديث عبد الله بن سرجس وهو موقوف ومن رفعه فقد أخطأ.
27/1 4م- ومن باب الوضوء بماء البحر
40- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل الأزرق أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبدالدار أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفتوضأ بماء البحر ؟ فقال ﷺ هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
في هذا الحديث أنواع من العلم منها أن المعقول من الطهور والغسول المضمنين في قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [7] الآية إنما كان عند السامعين له والمخاطبين به الماء المفطور على خلقته السليم في نفسه الخلي من الأعراض المؤثرة فيه ألا تراهم كيف ارتابوا بماء البحر لما رأوا تغيره في اللون وملوحة الطعم حتى سألوا رسول الله ﷺ واستفتوه عن جواز التطهير به.
وفيه أن العالم والمفتي إذا سئل عن شيء وهو يعلم أن بالسائل حاجة إلى معرفة ما وراءه من الأمور التي يتضمنها مسألته أو تتصل بمسألته كان مستحبا له تعليمه إياه والزيادة في الجواب عن مسألته ولم يكن ذلك عدوانا في القول ولا تكلفا لما لا، يَعني من الكلام ألا تراهم سألوه عن ماء البحر حسب، فأجابهم عن مائه وعن طعامه لعلمه بأنه قد يعوزهم الزاد في البحر كما يعوزهم الماء العذب، فلما جمعتهم الحاجة منهم انتظمهما الجواب منه لهم.
وأيضا فإن علم طهارة الماء مستفيض عند الخاصة والعامة، وعلم ميتة البحر وكونها حلالا مشكل في الأصل، فلما رأى السائل جاهلا بأظهر الأمرين غير مستبين للحكم فيه علم أن أخفاهما أولاهما بالبيان ونظير هذا قوله للرجل الذي أساء الصلاة بحضرته فقال له صل فإنك لم تصل فأعادها ثلاثا كل ذلك يأمره بإعادة الصلاة إلى أن سأله الرجل أن يعلمه الصلاة فابتدأ فعلمه الطهارة ثم علمه الصلاة وذلك والله أعلم لأن الصلاة شيء ظاهر تشتهره الأبصار، والطهارة أمر يستخلي به الناس في ستر وخفاء فلما رآه ﷺ جاهلا بالصلاة حمل أمره على الجهل بأمر الطهارة فعلمه إياها.
وفيه وجه آخر وهوأنه لما أعلمهم بطهارة ماء البحر وقد علم أن في البحر حيوانا قد يموت فيه والميتة نجس احتاج إلى أن يعلمهم أن حكم هذا النوع من الميتة حلال بخلاف سائر الميتات لئلا يتوهموا أن ماءه ينجس بحلولها إياه.
وفيه دليل على أن السمك الطافي حلال وأنه لا فرق بين ما كان موته في الماء وبين ما كان موته خارج الماء من حيوانه.
وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن حكم جميع أنواع الحيوان التي تسكن البحر إذا ماتت فيه الطهارة، وذلك بقضية العموم إذا لم يستثن نوعا منها دون نوع.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن ما كان له في البر مثل ونظير مما لا يؤكل لحمه كالإنسان المائي والكلب والخنزير فإنه محرم، وما له مثل في البر يؤكل فإنه مأ كول.
وذهب آخرون إلى أن هذا الحيوان وإن اختلف صورها فإنها كلها سموك، والجريث يقال له حية الماء وشكله شكل الحيات ثم أكله جائز فعلم أن اختلافها في الصور لا يوجب اختلافها في حكم الإباحة، وقد استثنى هؤلاء من جملتها الضفدع لأن النبي ﷺ نهى عن قتل الضفدع.
28/43م- ومن باب أيصلي الرجل وهو حاقن
41- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد، عَن أبي حزرة، قال: حَدَّثنا عبد الله بن محمد أخو القاسم بن محمد قال كنا عند عائشة فجيء بطعامها فقام القاسم بن محمد يصلي فقالت سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يصلي بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان.
إنما أمر ﷺ أن يبدأ بالطعام لتأخذ النفس حاجتها منه فيدخل المصلي في صلاته وهو ساكن الجأش لا تنازعه نفسه شهوة الطعام فيعجله ذلك عن إتمام ركوعها وسجودها وإيفاء حقوقها وكذلك إذا دافعه البول فإنه يصنع به نحوا من هذا الصنيع، وهذا إذا كان في الوقت فضل يتسع لذلك، فأما إذا لم يكن فيه متسع له ابتدأ الصلاة ولم يعرج على شيء سواها.
42- قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد حدثنا أحمد بن علي حدثنا ثور عن يزيد بن شريح الحضرمي، عَن أبي حي المؤذن، عَن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال ( لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حاقن حتى يتخفف ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم ).
قوله لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلا بإذنهم يريد أنه إذا لم يكن باقرئهم ولا بافقههم لم يجز له الاستبداد عليهم بالإمامة فأما إذا كان جامعا لأوصاف الإمامة بأن يكون أقرأ الجماعة وأفقههم فإنهم عند ذلك يأذنون له لا محالة في الإمامة بل يسألونه ذلك ويرغبون إليه فيها وهو إذ ذاك أحقهم بها أذنوا له أو لم يأذنوا.
وإنما هذا كقوله ﷺ: من تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله، والمعنى أنه لا يجوز له أن يتولى غير مواليه إلا أنه إذا أراد أن يوالي قوما فاستأذن مواليه فلم يأذنوا له ومنعوه امتنع من ذلك وبقي على أصل ولائه لم يحدث عنه انتقالا ولا له استبدالا، وليس معناه أنه لو أذنوا له في ذلك جازت موالاته إياهم، ولكن الإشارة وقعت بالاذن إلى المنع مما يقع الاستئذان له.
وقد قيل إن النهي عن الإمامة إلا بالاستئذان انما هو إذا كان في بيت غيره فأما إذا كان في سائر بقاع الأرض فلا حاجة به إلى الاستئذان وأولاهم بالإمامة أقرؤهم وأفقههم على ماجاء معناه في حديث أبي مسعود البدري.
29/46م- ومن باب اسباغ الوضوء
43- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا منصور عن هلال بن يساف، عَن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ رأى قوما تلوح أعقابهم فقال: ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء.
فيه من الفقه أن المسح لا يجوز على النعلين وأنه لا يجوز ترك شيء من القدم وغيره من أعضاء الوضوء لم يمسه الماء قل ذلك أوكثر لأنه ﷺ لا يتوعد على ما ليس بواجب.
30/48م ومن باب التسمية على الوضوء
44- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا محمد بن موسى عن يعقوب بن سلمة عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه.
قلت قد ذهب بعض أهل العلم إلى ظاهر لفظ الحديث فأوجب إعادة الوضوء إذا ترك التسمية عامدا وهو قول إسحاق بن راهويه.
قال آخرون معناه نفي الفضيلة دون الفريضة كما روي لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد أي في الأجر والفضيلة، وتأوله جماعة من العلماء على النية وجعلوه ذكر القلب. وقالوا وذلك أن الأشياء قد تعتبر بأضدادها فلما كان النسيان محله القلب كان محل ضده الذي هو الذكر بالقلب وإنما ذكرُ القلب النية والعزيمة.
31/49م ومن باب يدخل يده في الاناء قبل أن يغسلها
45- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي رزين وأبي صالح، عَن أبي هريرة قال. قال رسول الله ﷺ إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده.
قلت: قد ذهب داود ومحمد بن جربر إلى إيجاب غسل اليد قبل غمسها في الإناء ورأيا أن الماء ينجس به إن لم تكن اليد مغسولة، وفرق أحمد بين نوم الليل ونوم النهار. قال وذلك لأن الحديث إنما جاء في ذكر الليل في قوله إذا قام أحدكم من الليل ولأجل أن الانسان لا يتكشف لنوم النهار ويتكشف غالبا لنوم الليل فتطوف يده في أطراف بدنه فربما أصابت موضع العورة وهناك لوث من أثر النجاسة لم ينقه الاستنجاء بالحجارة فإذا غمسها في الماء فسد الماء بمخالطة النجاسة إياه، وإذا كان بين اليد وبين موضع العورة حائل من ثوب أو نحوه كان هذا المعنى مأمونا.
وذهب عامة أهل العلم إلى أنه غمس يده في الإناء قبل غسلها فإن الماء طاهر ما لم يتيقن نجاسة بيده وذلك لقوله فإنه لا يدري أين باتت يده فعلقه بشكل وارتياب، والأمر المضمن بالشك والارتياب لا يكون واجبا وأصل الماء الطهارة وبدن الإنسان على حكم الطهارة كذلك، وإذا ثبتت الطهارة يقينا لم تزل بأمر مشكوك فيه.
وفي الخبر دليل على أن الماء القليل إذا وردت عليه النجاسة وإن قلت غيرت حكمه لأن الذي يعلق باليد منها من حيث لا يرى قليل، وكان من عادة القوم في طهورهم استعمال ما لطف من الآنية كالمخاضب والمراكن والركاء والأداوي ونحوها من الآنية التي تقصر عن قدر القلتين.
وفيه من الفقه أن القليل من الماء إذا ورد على النجاسة على حد الغلبة والكثرة أزالها ولم يتنجس بها لأن معقولا ان الماء الذي أمره رسول الله ﷺ أن يصبه من الإناء على يده أقل من الماء الذي أبقاه في الإناء; ثم قد حكم للأقل بااطهارة والتطهير وللأكثر بالنجاسة فدل على الفرق بين الماء واردا على النجاسة ومورودا عليه النجاسة.
وفيه دليل على أن غسل النجاسة سبعا مخصوص به بعض النجاسات دون بعض وأن ما دونها من العدد كاف لإزالة سائر الأنجاس، والعدد الثلاثة في هذا الخبر احتياط واستظهار باليقين لأن الغالب أن الغسلات الثلاث إذا توالت على نجاسة عين أزالتها وأذهبتها، وموضع النجاسة ههنا غير مرئي العين فاحتيج إلى الاستظهار بالعدد ليتيقن إزالتها ولو كانت عينها مرئية لكانت الكفاية واقعة بالغسلة الواحدة مع الإزالة.
وفيه من الفقه أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه وأن ما عداه غير مقيس عليه.
وفي الحديث من العلم أن الأخذ بالوثيقة والعمل بالاحتياط في طب العبادات أولى.
32/1 5م ومن باب صفة وضوء النبي ﷺ
46- قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا محمد، يَعني ابن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن طلحة عن يزيد بن ركانة عن عبيد الله الخولاني عن ابن عباس قال دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد أهرق الماء فدعا بوضو فأتيناه بتور فيه ماء فقال يا بن عباس ألا أريك كيف كان رسول الله ﷺ يتوضأ قلت بلى فأصغى الإناء على يده فغسلها ثم أدخل يده اليمنى فأفرغ بها على الأخرى ثم غسل كفيه ثم تمضمض واستنثر ثم أدخل يديه في الإناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه ثم ألقم إبهامه مأقبل من أُذُنيه ثم الثانية ثم الثالثة مثل ذلك ثم أخذ بكفه اليمنى قبضةً من ماء فصبها على ناصيته فتركها تستن على وجهه ثم غسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاثا ثلاثا ثم مسح رأسه وظهور أذنيه ثم أدخل يديه جميعا فأخذ حفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيه النعل ففتلها بها ثم الأخرى مثل ذلك قال قلت وفي النعلين قال في النعلين قال قلت وفي النعلين قال وفي النعلين قال قلت وفي النعلين قال وفي النعلين.
قوله استنثر معناه استنشق الماء ثم أخرجه من أنفه وأصله مأخوذ من النثرة وهي الأنف، ويقال نثر الرجل نثرا إذا عطس.
وقوله تستن على وجهه معناه تسيل وتنصب يقال سننت الماء إذا صببته صبا سهلا، وفيه أن مسح باطن الأذن مع الوجه وظاهرهما مع الرأس، وكان الشعبي يذهب إلى أن باطن الأذنين من الوجه وظاهرهما من الرأس.
وأما مسحه على الرجلين وهما في النعلين فإن الروافض ومن ذهب مذهبهم في خلاف جماعة المسلمين يحتجون به في إباحة المسح على الرجلين في الطهارة من الحدث واحتج بذلك أيضا بعض أهل الكلام وهو الجُبائي زعم أن المرء مخير بين غسل الرجل ومسحها.
وحكي ذلك أيضا عن محمد بن جرير محتجين بقوله تعالى {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [8] قالوا والقراءة بالخفض في أرجلكم مشهورة وموجبها المسح.
وهذا تأويل فاسد مخالف لقول جماعة الأمة.
فأما احتجاجهم بالقراءة في الآية فلا درَكَ لهم فيها لأن العطف قد يقع مرة على اللفظ المجاور ومرة على المعنى المجاور، فالأول كقولهم جحر ضبٍ خربٍ والخرب من نعت الجحر وهو مرفوع وكقول الشاعر: كأن نسج العنكبوت المرمل
وقول الآخر:
معاوي إننا بشر فاسجح... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وإذا كان الأمر في ذلك على مذهب اللغة وحكم الاعراب سواء في الوجهين وجب الرجوع إلى بيان النبي ﷺ وقد ثبت عنه أنه قال: ويل للأعقاب من النار.
فثبت أن استيعاب الرجلين غسلا واجب.
قلت وقد يكون المسح في كلام العرب بمعنى الغسل.
أخبرني الأزهري حدثنا أبو بكر بن عثمان، عَن أبي حازم، عَن أبي زيد الأنصاري. قال المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه قد تمسح، ويقال مسح الله ما بك أي أذهبه عنك وطهرك من الذنوب.
وأما هذا الحديث فقد تكلم الناس فيه، قال أبو عيسى سألت محمد بن إسماعيل عنه فضعفه، وقال ما أدري ما هذا. وقد يحتمل أن ثبت الحديث أن يكون تلك الحفنة من الماء قد وصلت إلى ظاهر القدم وباطنه وإن كان في النعل ويدل على ذلك قوله ففتلها بها ثم الأخرى مثل ذلك، والحفنة من الماء إنما كفت مع الرفق في مثل هذا. فأما من أراد المسح على بعض القدم فقد يكفيه ما دون الحفنة وقد روي في غير هذه الرواية عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح علي نعليه وقال هذا وضوء من لم يحدث. وإذا احتمل الحديث وجها من التأويل يوافق قول الأمة فهو أولى من قول يكون فيه مفارقتهم والخروج من مذاهبهم.
والعجب من الروافض تركوا المسح على الخفين مع تظاهر الأخبار فيه عن النبي ﷺ واستفاضة علمه على لسان الأمة وتعلقوا بمثل هذا التأويل من الكتاب وبمثل هذه الرواية من الحديث ثم اتخذوه شعارا حتى إن الواحد من غلاتهم ربما تألى فقال برئت من ولاية أمير المؤمنين ومسحت على خفي إن فعلت كذا.
وحدثني إبراهيم بن فراس حدثنا أحمد بن علي المروزي حدثنا ابن أبي الجوال أن الحسن بن زيد عتب على كاتب له فحبسه وأخذ ماله فكتب إليه من الحبس.
أشكو إلى الله ما لقيت... أحببت قوما بهم بليت
لا أشتم الصالحين جهرا …ولا تشيعت ما بقيت
أمسح خفي ببطن كفي... ولو على جيفة وطيت
قال فدعا به من الحبس ورد عليه ماله وأكرمه.
47- قال أبو داود: حدثنا مسدد وقتيبة عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب، عَن أبي أمامة وذكر وضوء رسول الله ﷺ قال كان رسول الله ﷺ يمسح الماقين قال وقال الأذنان من الرأس.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة قال حماد لا أدري هو قول النبي ﷺ أو من أبي أمامة، يَعني قصة الأذنين.
الماق طرف العين الذي يلي الأنف، وفيه ثلاث لغات ماق ومأق مهموز وموق، فالماق يجمع على الآماق وموق يجمع على المآقي.
وقوله الأذنان من الرأس فيه بيان أنهما ليستا من الوجه كما ذهب إليه الزهري وأنه ليس باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس كما ذهب إليه الشعبي.
وممن ذهب إلى أنهما من الرأس ابن المسيب وعطاء والحسن وابن سيرين وسعيد بن جبير والنخعي وهو قول الثوري وأصحاب الرأي ومالك وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي هما سنة على حيالهما ليستا من الوجه ولا من الرأس. وتأول أصحابه الحديث على وجهين: أحدهما: أنهما يمسحان مع الرأس تبعا له ؛ والآخر: أنهما يمسحان كما يمسح الرأس ولا يغسلان كالهمجه وإضافتهما إلى الرأس إضافة تشبيه وتقريب، لا إضافة تحقيق، وإنما هو في معنى دون معنى، كقول: مولى القوم منهم، أي في حكم النصرة والموالاة، دون حكم النسب واستحقاق الإرث. ولو أوصى رجل لبني هاشم لم يعط مواليهم ومولى اليهودي لا يؤخذ بالجزية.
وفائدة الكلام ومعناه عندهم إبانة الأذن عن الوجه في حكم الغسل وقطع الشبهة فيها لما بينهما من الشبه في الصورة، وذلك أنهما وجدتا في أصل الخلقة بلا شعر وجعلتا محلا لحاسة من الحواس ومعظم الحواس محله الوجه فقيل الأذنان من الرأس ليعلم أنهما ليستا من الوجه.
هامش
- ↑ [الأنعام: 90]
- ↑ [البقرة: 124]
- ↑ [النحل: 123]
- ↑ [الأعراف: 95]
- ↑ [النور: 58]
- ↑ [ الواقعة: 17 ]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [المائدة: 6]