الرئيسيةبحث

معالم السنن/الجزء الأول/3

33/56م ومن باب في الاستنثار

48- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين قالوا حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صَبرة عن أبيه لقيط بن صبرة. قال كنت وافد بني المُنتفق أو في وفد بني المنتفق إلى رسول الله ﷺ فلما قدمنا على رسول الله ﷺ لم نصادفه في منزله وصادفنا عائشة أم المؤمنين قال فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا. قال واوتينا بقناع قال والقناع طبق فيه تمر. ثم جاء رسول الله ﷺ قال: هل أصبتم شيئا أو أمر لكم بشيء قال قلنا نعم يا رسول الله قال فبينما نحن مع رسول الله ﷺ جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة تيعر. قال ما ولدت يا غلام قال بهمة. قال فاذبح لنا مكانها شاة ثم قال: لا تحسِبن، ولم يقل لا تحسَبن أنا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة. قال: قلت: يا رسول الله إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا،، يَعني البذا، قال: فطلقها إذا، قال: قلت: يا رسول الله إن لها صحبة، ولي منها ولد. قال: فمرها، يقول عظها، فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظَعِينتك كضربك أُميتك. قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائما.

قوله: أمرت لنا بخزيرة، فإن الخزيرة من الأطعمة ما اتخذ بدقيق ولحم، والخزيرة حساء من دقيق ودسم، والقناع الطبق، وسمي قناعا لأن أطرافه أقنعت إلى داخل، أي عطفت.

وقوله تيعر من اليُعار وهو صوت الشاة، وقوله ما ولَّدت هومشددة اللام على معنى خطاب الشاهد. وأصحاب الحديث يروونه على معنى الخبر يقولون ما ولدت خفيفة اللام ساكنة التاء أي ما ولدت الشاة، وهو غلط يقال ولَّدت الشاة إذا أحضرت ولادها فعالجتها حتى يبين منها الولد وأنشدني أبو عمر في ذكر قوم:

إذا ما ولَّدوا يوما تنادوا …أجديٌ تحت شاتك أم غلام

والبهمة ولد الشاة أول ما يولد يقال للذكر والأنثى بهمة. وقوله لا تحسبن أنا من أجلك ذبحناها معناه ترك الاعتداد به على الضيف والتبرؤ من الرياء.

وقوله ولا تحسبن مكسورة السين إنما هو لغة عُليا مضر وتحسبن بفتحها لغة سفلاها وهو القياس عند النحويين لأن المستقبل من فعل مكسورة العين يفعل مفتوحتها كقولهم علم يعلم وعجل يعجل إلا أن حروفا شاذة قد جاءت نحو نعِم ينعِم ويئس ييئس وحسب يحسب، وهذا في الصحيح، فأما المعتل فقد جاء فيه ورِم يرِم ووثق يثق وورع يرِع وورِي يرِي.

وقوله لا تضرب ظعينتك كضربك أميتك فإن الظعينة هي المرأة وسميت ظعينة لأنها تظعن مع الزوج وتنتقل بانتقاله. وليس في هذا ما يمنع من ضربهن أويحرمه على الأزواج عند الحاجة إليه فقد أباح الله تعالى ذلك في قوله {فعظوهن واهجروهن في المضاجع} [1] وإنما فيه النهي عن تبريح الضرب كما يضرب المماليك في عادات من يستجيز ضربهم، ويستعمل سوء الملكة فيهم. وتمثله بضرب المماليك لا يوجب إباحة ضربهم، وإنما جرى ذكره في هذا على طريق الذم لأفعالهم ونهاه عن الاقتداء بها.

وقد نهى ﷺ عن ضرب المماليك إلا في الحدود وأمرنا بالإحسان إليهم وقال: من لم يوافقكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله.

فأما ضرب الدواب فمباح لأنها لا تتأدب بالكلام ولا تعقل معاني الخطاب كما يفعل الإنسان، وإنما يكون تقويمها غالبا بالضرب، وقد ضرب رسول الله ﷺ وحرك بعيره بمحجنه ونخس جمل جابر رضي الله عنه حين أبطأ عليه فسبق الركب حتى مايملك رأسه.

وفي الحديث من الفقه أن الاستنشاق في الوضوء غير واجب ولو كان فرضا فيه لكان على الصائم كهو على المفطر، ونرى أن معظم ما جاء من الحث والتحريض على الاستنشاق في الوضوء إنما جاء لما فيه من المعونه على القراءة وتنقية مجرى النفس النذي يكون به التلاوة. وبإزالة ما فيه من الثفل تصح مخارج الحروف.

وقال ابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه إذا ترك الاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة وكذلك إذا ترك المضمضة.

وفي الحديث دليل على أن ما وصل إلى الدماغ من سعوط ونحوه فإنه يفطر الصائم كما يفطره ما يصل إلى معدته إذا كان ذلك من فعله أو بإذنه.

وفي الحديث دليل على أنه بالغ في الاستنشاق ذاكرا لصومه فوصل الماء إلى دماغه فقد أفسد صومه.

وقوله أخبرني عن الوضوء فان ظاهر هذا السؤال يقتضي الجواب عن جملة الوضوء إلا أنه ﷺ لما اقتصر في الجواب على تخليل الأصابع والاستنشاق علم أن السائل لم يسأله عن حكم ظاهر الوضوء وإنما سأله عما يخفى من حكم باطنه وذلك لأن آخذ الماء قد يأخذه بجمع الكف وضم الأصابع بعضها إلى بعض فيسد خصاص ما بينها فربما لم يصل الماء إلى باطن الأصابع وكذلك هذا في باطن أصابع الرجل لأنها ربما ركب بعضها بعضا حتى تكاد تلتحم فقدم له الوصاة بتخليلها ووكد القول فيها لئلا يغفلها والله أعلم.

34/57م ومن باب تخليل اللحية

49- قال أبو داود: حدثنا أبو توبة حدثنا أبو المليح عن الوليد بن زَرْوان عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه يُخلل به لحيته وقال هكذا أمرني ربي.

قلت قد أوجب بعض العلماء تخليل اللحية وقال إذا تركه عامدا أعاد الصلاة وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي ثور. وذهب عامة العلماء إلى أن الأمر به استحباب وليس بإيجاب ويشبه أن يكون المأمور بتخليله من الحي على سبيل الوجوب ما رق من الشعر منها فتراءى ما تحتها من البشرة.

35/58م ومن باب المسح على العمامة

50- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ثورعن راشد بن سعد عن ثوبان قال بعث رسول الله ﷺ سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله ﷺ أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين.

العصائب العمائم سميت عصائب لأن الرأس يعصب بها والتساخين الخفاف. ويقال إن أصل ذلك كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوه.

وقد اختلف أهل العلم في المسح على العمامة فذهب إلى جوازه جماعة من السلف وقال به من فقهاء الأمصار الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود. وقال أحمد قد جاء ذلك عن النبي ﷺ من خمسة أوجه وشرط من جوز المسح على العمامة أن يعتم الماسح عليها بعد كمال الطهارة كما يفعله من يريد المسح على الخفين.

وروي عن طاوس أنه قال لا يمسح على العمامة التي لا تجعل تحت الذقن. وأبى المسح على العمامة أكثر الفقهاء وتأولوا الخبرفي المسح على العمامة على معنى أنه كان يقتصر على مسح بعض الرأس فلا يمسحه كله مقدمه ومؤخره ولا ينزع عمامته من رأسه ولا ينقضها وجعلوا خبر المغيرة بن شعبة كالمفسر له; وهوأنه وصف وضوءه ثم قال ومسح بناصيته وعلى عمامته فوصل مسح الناصية بالعمامة. وإنما وقع أداء الواجب من مسح الرأس بمسح الناصية إذ هي جزء من الرأس وصارت العمامة تبعا له كما روي أنه مسح أسفل الخف وأعلاه، ثم كان الواجب في ذلك مسح أعلاه وصار مسح أسفله كالتبع له. والأصل أن الله تعالى فرض مسح الرأس وحديث ثوبان محتمل للتأويل فلا يترك الأصل المتيقن وجوبُه بالحديث المحتمل ومن قاسه على مسح الخفين فقد أبعد لأن الخف يشق نزعه ونزع العمامة لا يشق.

51- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن عبد العزيز بن مسلم، عَن أبي معقل عن أنس بن مالك قال رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة.

قلت وهذا يشهد لما تأولوه في معنى الحديث الأول والقِطر نوع من البرود فيه حمرة.

36/0 6م ومن باب المسح على الخفين

52- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا أبي عن الشعبي قال سمعت عروة بن المغيرة بن شعبة يذكرعن أبيه قال كنا مع رسول الله ﷺ في غزوة ومعي إداوة فخرج لحاجته ثم أقبل فتلقيته بالإداوة فأفرغت عليه فغسل كفيه ووجهه ثم أراد أن يخرج ذراعيه وعليه جبة من صوف من جباب الروم ضيقة الكمين فضاقت فادَّرعهما ادراعا ثم أهويت إلى الخفين لأنزعهما فقال دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما.

قوله ادرعهما معناه أنه نزع ذراعيه عن الكمين وأخرجهما من تحت الجبة وزنه افتعل من درع إذ مد ذراعه كما يقال ادكر من ذكر.

وفي قوله أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان دليل على أن المسح على الخفين لا يجوز إلا بأن يلبسا على كمال الطهارة وأنه إذا غسل إحدى رجليه فلبس عليها أحد الخفين ثم غسل رجله الأخرى ثم لبس الخف الآخر لم يجزئه لأنه جعل طهارة القدمين معا قبل لبس الخفين شرطا لجواز المسح عليهما وعلة لذلك والحكم المعلق بشرط لا يصح إلا من جود شرطه وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وفيه جواز الاستعانة في الطهارة والوضوء بالخادم ونحوه.

53- قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا شعبة، عَن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد سمع أبا عبد الله وهومولى بني تيم بن مرة، عَن أبي عبد الرحمن السلمي أن بلالا سأل رسول الله ﷺ فقال كان يخرج يقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته ومُوقيه.

الموق نوع من الخفاف معروف وساقه إلى القصر.

54- قال أبو داود: حدثنا علي بن الحسين الدرهمي حدثنا ابن داود عن بكير بن عامر، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير. أن جريرا بال ثم توضأ ومسح على الخفين قال ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله ﷺ يمسح قالوا إنما كان ذلك قبل نزول المائدة. قال ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة.

أراد القوم بهذا القول أن المسح على الخفين كان رخصة ثم نسخ بقوله سبحانه {وأرجلكم إلىالكعبين} في صورة المائدة. فقال جرير ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة أي ما صحبت رسول الله ﷺ إلا بعد إسلامي. وقد رأيته يمسح على خفيه يريد به إثبات المسح على الخفين وأنه غير منسوخ، وفي هذا من قول الصحابة دلالة على أنهم كانوا يرون نسخ السنة بالقرآن.

وقد روى قوم من الشيعة عن علي رضي الله عنه أنه قال إنما كان المسح على الخفين قبل نزول المائدة ثم نهى عنه فصارت الإباحة منسوخة. هذا أمرلايصح عن على رضى الله عنه. وقد ثبت عنه أنه قال لو كان الدين بالقياس أو بالرأى لكان باطن الخف، أولى بالمسح من ظاهره، إلا أنى رأيت رسول الله ﷺ يمسح ظاهر خفيه.

وقد ذكره أبو داود حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص بن غياث حدثنا الأعمش، عَن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي رضي الله عنه بمعناه.

37/61م ومن باب فى التوقيت في المسح

55- قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق حدثنا يحيى بن أيوب عن عبدالرحمن بن رزين عن محمد بن يزيد وهو ابن أبي زياد عن أيوب بن قَطَن عن أُبَي بن عمارة أنه قال يا رسول الله أمسح على الخفين قال نعم قال يوم قال ويومين قال وثلاثة قال نعم وما شئت.

قلت والأصل في التوقيت أنه للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن هكذا روي في خبر خزيمة بن ثابت وخبر صفوان بن عسال وهو قول عامة الفقهاء غير أن مالكا قال يمسح من غير توقيت قولا بظاهر هذا الحديث.

وتأويل الحديث عندنا أنه جعل له أن يرتخص بالمسح ما شاء وما بدا له كلما احتاج إليه على مر الزمان إلا أنه لا يعدو شرط التوقيبت، والأصل وجوب غسل الرجلين فإذا جاءت الرخصة في المسح مقدرة بوقت معلوم لم يجز مجاوزتها إلا بيقين، والتوقيت في الأخبار الصحيحة إنما هو اليوم والليلة للمقيم والثلاثة الأيام ولياليهن للمسافر.

فأما رواية منصور عن إبراهيم التيمي، عَن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت أنه قال ولو استزدناه لزادنا. فإن الحكم وحمادا قد روياه عن إبراهيم فلم يذكروا فيه هذا الكلام ولو ثبت لم يكن فيه حجة لأنه ظن منه وحسبان، والحجة إنما تقوم بقول صاحب الشريعة لا بظن الراوي.

وقال محمد بن إسماعيل ليس في التوقيت في المسح على الخفين شيء أصح من حديث صفوان بن عسال المرادي.

ورأيت أن أذكر حديث صفوان إذ كان المعول عليه وفيه ألفاظ فيها معان تحتاج إلى شرح وتفسير ونحن نذكر وجوهها إن شاء الله.

حدثنا ابن الأعرابي وإسماعيل بن محمد الصفار، قال: حَدَّثنا سعدان بن نصر حدثنا سفيان بن عيينة عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش. قال أتيت صفوان بن عسال فقال ما جاء بك قلت ابتغاء العلم. قال فإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب قلت حاك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول وكنت امرا من أصحاب النبي ﷺ فأتيتك أسألك هل سمعت منه في ذلك شيئا فقال نعم كان يأمرنا إذا كنا سفرا أو مسافرين لا ننزع خفافنا ثلاثةَ أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم. قلت هل سمعته يذكر الهوى، قال نعم بينما نحن في مسير إذ ناداه أعرابي بصوت له جَهوري يا محمد فأجابه على نحو ذلك هاؤم قلنا ويحك أوويلك اغضُض من صوتك فإنك قد نهيت عن ذلك. فقال والله لا أغضض من صوتي، قال أرأيتَ رجلا أحب قوما ولما يلحق بهم قال المرء مع من أحب. قال ثم لم يزل يحدثنا حتى قال إن من قِبَل المغرب بابا للتوبة مسيرة أربعين سنة أو سبعين سنة فتحه الله للتوبة يوم خلق السموات والأرض فلا يغلقه حتى تطلع الشمس منه.

قوله إن الملائكة تضع أجنحتها فيه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون معنى وضع الجناح من الملائكة بسط أجنحتها وفرشها لطالب العلم لتكون وطاءً له ومعونة إذا مشى في طلب العلم.

والوجه الثاني أن يكون ذلك بمعنى التواضع من الملائكة تعظيما لحقه وتوقيرا لعلمه فتضم أجنحتها له وتخفضها عن الطيران كقوله تعالى {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} [2].

والوجه الثالث أن يكون وضع الجناح يراد به النزول عند مجالس العلم والذكر وترك الطيران كما روي أنه قال ﷺ قال: ما من قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده.

قلت وهذه الكلمة لم يرفعها سفيان في هذه الرواية ورفعها حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن صفوان بن عسال وقد رواه أيضا أمن الدرداء عن رسول الله ﷺ.

وقوله سفرا هوجمع سافر كما يقال تاجر وتجر وراكب وركب. وقوله لكن من غائط وبول كلمة لكن موضوعة للاستدراك وذلك لأنه قد تقدمه نفي واستثناء وهو قوله كان يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ثم قال لكن من بول وغائط ونوم فاستدركه بلكن ليعلم أن الرخصة إنما جاءت في هذا النوع من الأحداث دون الجنابة فإن المسافر الماسح على خفه إذا أجنب كان عليه نزع الخف وغسل الرجل مع سائر البدن وهذا كما تقول ما جاءني زيد لكن عمرو وما رأيت زيدا لكن خالدا.

ويشبه أن يكون رفع النبي ﷺ صوته في جواب الأعرابي. وقوله هاؤم يمد به صوته من ناحية الشفقة عليه لئلا يحبط عمله وذلك لما جاء من الوعيد في قوله تعالى {ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [3] فعذره عليه السلام لجهله وقلة علمه ورفع صوته حتى كان فوق صوته أومثله لفرط رأفته وشفقته على أمته.

وفيه أنه أقام المحبة والمشايعة في الخير والطاعة مقام العمل بهما وجعل المرء مع من أحب.

وفيه دليل على استحباب احتمال دالة التلامذة والصبر على أذاهم لما يُرجى من عاقبته من النفع لهم.

38/62م ومن باب المسح على الجوربين

56- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان، عَن أبي قيس الأودي عن هذيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ توضأ ومسح على الجوربين والنعلين.

قوله والنعلين هو أن يكون قد لبس النعلين فوق الجوربين. وقد أجاز المسح على الجوربين جماعة من السلف وذهب إليه نفر من فقهاء الأمصار منهم سفيان الثوري وأحمد وإسحاق وقال مالك والأوزاعي والشافعى لا يجوز المسح على الجوربين قال الشافعي إلا إذا كانا منعلين يمكن متابعة المشي فيهما. وقال أبو يوسف ومحمد يُمسح عليهما إذا كانا ثخينين لا يشقان. وقد ضعف أبو داود هذا الحديث وذكر أن عبد الرحمن بن مهدي كان لا يحدث به.

39/4 6م ومن باب في الانتضاح

57- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن سفيان بن الحكم الثقفي أو الحكم بن سفيان قال كان رسول الله ﷺ إذا بال توضأ وينتضح.

الانتضاح ههنا الاستنجاء بالماء وكان من عادة أكثرهم أن يستنجوا بالحجارة لا يمسون الماء، وقد يتناول الانتضاح أيضا على رش الفرج بالماء بعد الاستنجاء به ليرفع بذلك وسوسة الشيطان.

0 4/66م ومن باب في تفريق الوضوء

58- قال أبو داود: حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب عن جريربن حازم أنه سمع قتادة، قال: حَدَّثنا أنس بن مالك أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ وتوضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله ﷺ: ارجع فأ حسن وضوءك.

دلالة هذا الحديث أنه لا يجوز تفريق الوضوء وذلك لأنه قال ارجع فأحسن وضوءك وظاهر معناه إعادة الوضوء في تمام، ولوكان تفريقه جائزا لأشبه أن يقتصر فيه على الأمر بغسل ذلك الموضع أو كان يأمرة بإمساسه الماء في ذلك وأن لا يأمره بالرجوع إلى المكان الذي يتوضأ فيه.

41/76م ومن باب إذا شك في الحديث

59- قال ابوداود: حدثنا قتيبه حدثنا سفيان عن الزهرى عن سعيد بن المسيب وعباد بن تميم عن عمه شكا إلى النبي ﷺ الرجل يجد الشيء في الصلاة حتى يخيل إليه قال لا ينفتل حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا.

قوله حتى يسمع صوتا او يجد ريحا معناه حتى يتيقن الحدث ولم يرد به الصوت نفسه ولا الريح نفسها حسب وقد يكون أطروشا لا يسمع الصوت وأخشم لا يجد الريح ثم تنتقض طهارته إذا تيقن وقوع الحدث منه كقوله ﷺ في الطفل إذا استهل صلى عليه ومعناه أن تعلم حياته يقينا والمعنى إذا كان أوسع من الاسم كان الحكم له دون الاسم.

وفي الحديث من الفقه أن الشك لا يزحم اليقين.

وفيه دليل على أنه إذا تيقن النكاح وشك في الطلاق كان على النكاح المتقدم إلى أن يتيقن الطلاق.

وقال مالك: إذا شك في الحدث لم يصل إلا مع تجديد الوضوء إلا أنه قال إذا كان في الصلاة فاعترضه الشك مضى في صلاته وأحد قوليه حجة عليه في الآخر.

43/68م ومن باب الوضوء من القبله

60- قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا: حَدَّثنا سفيان، عَن أبي رَوق عن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قبلها ولم يتوضأ.

قال يحتج به من يذهب إلى أن الملامسة المذكورة في الآية معناها الجماع دون اللمس بسائر البدن إلا أن أبا داود ضعف هذا الحديث فقال هو منقطع لأن التيمي لم يسمع من عائشة وضعف حديث الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة. وحكي عن يحيى بن سعيد أنه قال هو شبه لا شيء قال وليس هذا بعروة بن الزبير إنما هو عروة المزني.

43/69م ومن باب الوضوء من مس الذكر

61- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عروة بن الزبير عن مروان عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله ﷺ قال: من مس ذكره فليتوضأ.

قد ذهب إلى إيجاب الوضوء من مس الذكر جماعة من السلف منهم عمر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة رضوان الله عليهم.

وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق إلا أن الشافعي لا يرى نقص الطهارة إلا أن يمسه بباطن كفه0وقال الأوزاعي وأحمد إذا مسه بساعده أو بظهركفه انتقض طهره كهو إذا مسه ببطن كفه سواء.

وكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار وحذيفة وأبو الدرداء رضوان الله عليهم لا يرون مسه نا قضا للطهر. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو قول سفيان الثوري.

وكان مالك بن أنس يذهب إلى أن الأمر فيه على الاستحباب لا على الإيجاب وروى أبو داود في الرخصة فيه حديث قيس بن طلق، قال: حَدَّثنا مسدد حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي حدثنا عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه، قال قدمنا على نبي الله ﷺ فجاء رجل كأنه بدوي فقال يا رسول ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ فقال وهل هو إلا مضغة منه أو بضعة منه.

قال أبو داود ورواه الثوري وشعبة وابن عيينة عن محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه بإسناده ومعناه، وقال في الصلاة واحتج من رأى فيه الوضوء بأن خبر بسرة متأخر لأن أبا هُرَيْرَة رواه عن النبي ﷺ وهو متأخر الإسلام وكان قدوم طلق على رسول الله ﷺ في بدء الإسلام وهو إذ ذاك يبني مسجد المدينة أول زمن الهجرة، وإنما يؤخذ بآخر الأمرين. وتأولوا خبر طلق على أنه أراد به المس ودونه حائل. واستدلوا على ذلك برواية الثوري وشعبة وابن عيينة أنه سأله عن مسه في الصلاة والمصلي لا يمس فرجه من غير حائل بينه وبينه.

وحدثنا الحسن بن يحيى حدثنا أبو بكر بن المنذر قال بلغني عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين أنهما اجتمعا فتذاكرا الوضوء من الذكر وكان أحمد يرى فيه الوضوء ويحيى لا يرىذلك وتكلما في الأخبار التي رويت في ذلك فحصل أمرهما على أن اتفقا على إسقاط الإحتجاج بالخبرين معا خبر بسره وخبر طلق، ثم صارا إلى الآثار المرويه عن الصحابه في ذلك فصار أمرهما ألى أن احتج أحمد بحديث ابن عمر فلم يمكن يحيى دفعه.

44/71م ومن باب الوضوء من لحوم الابل

62- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاويه حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال سئل رسول الله ﷺ عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضؤوا منها. وسئل عن لحوم الغنم فقال لا تتوضؤوا منها وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين. وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة.

قلت قد ذهب عامة أصحاب الحديث إلى إيجاب الوضوء من أكل لحوم الإبل قولا بظاهر هذا الحديث وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وأما عامة الفقهاء فمعنى الوضوء عندهم متأول على الوضوء الذي هو النظافة ونفى الزهومة كما ُروي توضؤوا من اللبن فان له دسما وكما قال صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل وليس ذلك من أإجل أن بين الأمرين فرقا في باب الطهارة والنجاسة لأن الناس على أحد قولين: إما قائل يرى نجاسة الأبوال كلها أو قائل هى طهارة بول ما يؤكل لحمه والغنم والإبل سواء عند الفريقين في القضيتين معا.

وإنما نهى عن الصلاة في مبارك الإبل لأن فيها نفارا وشرادا لا يؤمن أن تتخبط المصلي إذا صلى بحضرتها أو تفسد عليه صلاته، وهذا المعنى مأمون من الغنم لما فيها من السكون وقلة النفار، ومعلوم أن في لحوم الإبل من الحرارة وشدة الزهومة ما ليس في لحوم الغنم فكان معنى الأمر بالوضوء منه منصرفا إلى غسل اليد لوجود سببه دون الوضوء الذي هو من أجل رفع الحدث لعدم سببه والله أعلم.

هامش

  1. [النساء: 34]
  2. [الإسراء: 24 ]
  3. [الحجرات: 2]