→ كتاب الطلاق (مسألة 1953) | ابن حزم - المحلى كتاب الطلاق (تتمة مسألة 1953) ابن حزم |
كتاب الطلاق (مسألة 1954 - 1958) ← |
كتاب الطلاق
فإن قالوا: ليس كل مسكوت عن ذكره في الأخبار يكون ترك ذكره حجة. .
فقلنا: نعم، هو حجة لازمة إلا أن يوجد بيان في خبر آخر لم يذكر في هذا الخبر فحينئذ لا يكون السكوت عنه في خبر آخر حجة.
ومن طريق البخاري نا محمد بن بشار، حدثنا يحيى، هو ابن سعيد القطان عن عبيد بن عمر، حدثنا القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين قالت: إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق. فسئل رسول الله ﷺ أتحل للأول قال: لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول فلم ينكر عليه الصلاة والسلام هذا السؤال، ولو كان لا يجوز لاخبر بذلك. وخبر فاطمة بنت قيس المشهور: رويناه من طريق يحيى بن أبي كثير أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن فاطمة بنت قيس أخبرته: أن زوجها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله ﷺ في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا: إن ابن حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها من نفقة فقال رسول الله ﷺ: ليس لها نفقة وعليها العدة وذكر باقي الخبر.
ومن طريق مسلم، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الرحمن، هو ابن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي بكر بن أبي الجهم قال: سمعت فاطمة بنت قيس فذكرت حديث طلاقها قالت وأتيت رسول الله ﷺ فقال: كم طلقك قلت: ثلاثا، فقال: صدق، ليس لك نفقة وذكرت باقي الخبر.
ومن طريق مسلم، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت: قلت: يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا وأنا أخاف أن يقتحم علي قال: فأمرها فتحولت.
ومن طريق مسلم، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن النبي ﷺ في المطلقة ثلاثا قال: ليس لها سكنى، ولا نفقة. فهذا نقل تواتر عن فاطمة بأن رسول الله ﷺ أخبرها هي ونفر سواها بأن زوجها طلقها ثلاثا. وبأنه عليه الصلاة والسلام حكم في المطلقة ثلاثا ولم ينكر عليه الصلاة والسلام ذلك، ولا أخبر بأنه ليس بسنة وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه.
فإن قيل: إن الزهري روى عن أبي سلمة هذا الخبر فقال فيه: إنها ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها فذكر الخبر وفيه: فأرسل مروان إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته وذكر باقي الخبر.
قلنا: نعم، هكذا رواه الزهري، فأما روايته من طريق عبيد الله فمنقطعة، لم يذكر عبيد الله ذلك عنها، ولا عن قبيصة عنها، إنما قال: إن فاطمة طلقها زوجها، وأن مروان بعث إليها قبيصة فحدثته.
وأما خبره عن أبي سلمة فمتصل إلا أن كلا الخبرين ليس فيهما: أن رسول الله ﷺ أخبرته هي، ولا غيرها بذلك إنما المسند الصحيح الذي فيه: أنه عليه الصلاة والسلام سأل عن كمية طلاقها وأنها أخبرته، فهي التي قدمنا أولا وعلى ذلك الإجمال جاء حكمه عليه الصلاة والسلام.
وكذلك كل لفظ روي به خبر فاطمة من " أبت طلاقي "، " وطلقها ألبتة " " وطلقها طلاقا باتا " " وطلاقا بائنا " فليس في شيء منه أن رسول الله ﷺ وقف عليه أصلا. فسقط كل ذلك، وثبت حكمه عليه الصلاة والسلام على ما صح أنه أخبر به من أنه طلقها ثلاثا فقط.
وأما الصحابة، رضي الله عنهم، فإن الثابت عن عمر الذي لا يثبت عنه غيره ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل، حدثنا زيد بن وهب أنه رفع إلى عمر بن الخطاب برجل طلق امرأته ألفا فقال له عمر: أطلقت امرأتك فقال: إنما كنت ألعب، فعلاه عمر بالدرة وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث فإنما ضربه عمر على الزيادة على الثلاث، وأحسن عمر في ذلك، وأعلمه أن الثلاث تكفي ولم ينكرها.
ومن طريق وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفا فقال له علي: بانت منك بثلاث، واقسم سائرهن بين نسائك فلم ينكر جمع الثلاث.
ومن طريق وكيع عن جعفر بن برقان عن معاوية بن أبي يحيى قال: جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال: طلقت امرأتي ألفا فقال: بانت منك بثلاث فلم ينكر الثلاث.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لأبن عباس: طلقت امرأتي ألفا فقال له ابن عباس: ثلاث تحرمها عليك، وبقيتها عليك وزرا، اتخذت آيات الله هزوا لم ينكر الثلاث وأنكر ما زاد. والذي جاء عنه من قوله لمن طلق ثلاثا ثم ندم " لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا " وهو على ظاهره: نعم، إن اتقى الله جعل له مخرجا وليس فيه أن طلاقه الثلاث معصية.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: جاء رجل، عن ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي تسعا وتسعين فقال له ابن مسعود: ثلاث تبينها وسائرهن عدوان. وهذان خبران في غاية الصحة لم ينكر ابن مسعود، وابن عباس الثلاث مجموعة أصلا، وإنما أنكر الزيادة على الثلاث.
ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع وهذا في غاية الصحة، عن ابن مسعود فلم يخص طلقة من طلقتين من ثلاث.
فإن قيل: قد روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود وفيه فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى
قلنا: نعم، هذا أيضا سنة وليس فيه أن ما عدا ذلك حرام وبدعة.
فإن قيل: قد رويتم من طريق حماد بن زيد، حدثنا يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين قال: قال علي بن أبي طالب: لو أن الناس أخذوا بأمر الله تعالى في الطلاق ما يبيح رجل نفسه في امرأة أبدا يبدأ فيطلقها تطليقة، ثم يتربص ما بينها وبين أن تنقضي عدتها، فمتى ما شاء راجعها.
قلنا هذا منقطع عنه، لأن ابن سيرين لم يسمع من علي كلمة، ثم ليس فيه أيضا: أن ما عدا ذلك معصية، ولا بدعة لا يعلم عن الصحابة، رضي الله عنهم، غير ما ذكرنا.
وأما التابعون فروينا من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: قال رجل لشريح القاضي: طلقت امرأتي مائة فقال: بانت منك بثلاث وسبع وتسعون إسراف ومعصية فلم ينكر شريح الثلاث، وإنما جعل الإسراف والمعصية ما زاد على الثلاث.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: طلاق العدة أن يطلقها إذا طهرت من الحيضة بغير جماع.
قال أبو محمد: فلم يخص واحدة من ثلاث، من اثنتين لا يعلم عن أحد من التابعين أن الثلاث معصية صرح بذلك إلا الحسن. والقول بأن الثلاث سنة: قول الشافعي، وأبي ذر، وأصحابهما.
وأما صفة طلاق السنة
فقد ذكرنا قول ابن مسعود آنفا في ذلك من طريق الأعمش عن أبي إسحاق وآخر من طريق علي بن أبي طالب، وهو أن ابن مسعود قال: يطلقها في طهر لم يمسها فيه ثم يدعها حتى تحيض، فإذا طهرت طلقها أخرى ثم يدعها حتى تحيض، فإذا طهرت طلقها ثالثة. وقال علي: له أن يطلقها ثم يدعها حتى تتم عدتها، أو يراجعها في العدة إن شاء. ومن قول ابن مسعود الذي ذكرنا قول رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ومثله عن معمر عن الزهري، وعن قتادة، عن ابن المسيب. ومثله من طريق عبد الرزاق عن أبي حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي وزاد فإن كانت يئست من المحيض فليطلقها عند كل هلال تطليقة.
وهو قول الشعبي. وممن كره أن يطلقها أكثر من واحدة: الليث، والأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة، وعبد العزيز بن الماجشون، والحسن بن حي، وأبو سليمان، وأصحابهم.
وأما قولنا في طلاق الحامل، والتي لم يطأها، والتي لم تحض، والتي يئست من المحيض: فإن النصوص التي ذكرنا قبل وإنما جاءت في اللواتي عدتهن الأطهار.
وأما الحامل فليس لها أقراء تراعى، وقد قال رسول الله ﷺ كما أوردناه قبل في صدر كلامنا في الطلاق ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا فبين عليه الصلاة والسلام في الطاهر أن لا يطأها في ذلك الطهر قبل أن يطلقها، وأجمل طلاق الحامل وما كان ربك نسيا.
وأما التي لم يطأها فلا عدة عليها بنص القرآن، فليست من اللاتي قال الله تعالى فيهن: {فطلقوهن لعدتهن} فله أن يطلقها كما أباح الله تعالى متى شاء قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن}.
وأما التي لم تحض قط، أو التي انقطع حيضها فقد قال من ذكرنا: إنه يطلقها عند استهلال الهلال وهذا شيء لا نوجبه، لأنه لم يأت بإيجابه قرآن، ولا سنة.
فإن قيل: ألم يقل الله عز وجل: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن}.
قلنا: نعم، وقد صح عن رسول الله ﷺ، أنه قال: الشهر تسعة وعشرون يوما فمن حيث ابتدأ بالعدة فإذا أتم تسعة وعشرين يوما فهو شهر.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} فأوجب عز وجل ما قلنا، وهو أن يبدأ بعدد الشهور من أي يوم أو ليلة شاء العاد، أو من حيث تجب العدة بالوفاة، أو بالشهور وبالله تعالى التوفيق.