الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الخامس/الصفحة التاسعة والثلاثون

كتاب الطلاق

1962 - مسألة : في الألفاظ التي جاءت فيها عن رسول الله ﷺ وهي الحقي بأهلك واعتدي، وألبتة، والبائن فأما الحقي بأهلك فكما روينا من طريق البخاري ثنا الحميدي ثنا سفيان الثوري، قال: حدثني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله ﷺ ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك قال لها: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك.

قال أبو محمد: وليس في هذا الخبر حجة لمن ادعى أن " الحقي بأهلك " لفظ يقع به الطلاق: لما رويناه من طريق البخاري، حدثنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه: أنه كان مع رسول الله ﷺ وقد أوتي بالجونية فأنزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل في نخل ومعها دابتها فدخل عليه الصلاة والسلام عليها فقال لها: هبي لي نفسك قالت: وهل تهب الملكة نفسها لسوقة فأهوى ليضع يده عليها لتسكن فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذت بمعاذ، ثم خرج فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيتين وألحقها بأهلها.

ومن طريق مسلم حدثني محمد بن سهل، حدثنا ابن أبي مريم هو سعيد نا محمد، هو ابن مطرف أبو غسان أخبرني أبو حازم عن سهل بن سعد قال: ذكرت لرسول الله ﷺ امرأة من العرب فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها: فأرسل إليها، فقدمت فنزلت في أجم بني ساعدة، فدخل رسول الله ﷺ فلما كلمها قالت: أعوذ بالله منك قال: قد أعذتك مني، فقالوا لها: أتدرين من هذا قالت: لا، قالوا: هذا رسول الله ﷺ جاءك ليخطبك قالت: أنا كنت أشقى من ذلك. فهذه كلها أخبار عن قصة واحدة، في امرأة واحدة، في مقام واحد، فلاح أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن تزوجها بعد، وإنما دخل عليها ليخطبها. فبطل تعلقهم بقوله عليه الصلاة والسلام: الحقي بأهلك. ثم لو صح أنه عليه الصلاة والسلام كان قد تزوجها فليس فيه: أنه عليه الصلاة والسلام ذكر أنه إنما طلقها بقوله الحقي بأهلك، ولا تحل النكاحات الصحاح إلا بيقين. وقد

روينا من طريق أحمد بن شعيب، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا ابن وهب عن يونس بن يزيد قال: قال ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن عبد الرحمن بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديث تخلفه عن تبوك، فذكر فيه أن رسول الله ﷺ أرسل إليه يأمره أن يعتزل امرأته قال: فقلت لرسوله: أطلقها أم ماذا أفعل قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربها قال كعب فقلت لأمرأتي: الحقي بأهلك فكوني فيهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فهذا كعب لم ير " الحقي بأهلك " من ألفاظ الطلاق، ولا يعرف له مخالف في ذلك من الصحابة، رضي الله عنهم.

وروينا عن قتادة أيضا: أنه ليس ذلك شيء. وجاءت عن التابعين في ذلك آثار:

روينا عن الشعبي، والحسن: أن من قال لأمرأته: الحقي بأهلك، فهو على ما نوى.

وهو قول مالك، والشافعي. وصح عن الحسن: إن نوى طلاقا فهي واحدة رجعية، وإلا فليس بشيء ورويناه عن الشعبي أيضا.

وروي عن عكرمة: أنها طلقة واحدة رجعية فقط وعن الزهري: أنها طلقة واحدة.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه: إن نوى واحدة أو اثنتين، فهي طلقة واحدة بائنة، ولا بد، وإن نوى ثلاثا فهي ثلاث، وإن لم ينو طلاقا فليس طلاقا. قال زفر: وإن نوى اثنتين فهي اثنتان.

وأما البائن ففيه الخبر الثابت: من طريق أحمد بن شعيب، حدثنا أحمد بن عبد الله بن الحكم، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي بكر بن أبي الجهم، قال: دخلت على فاطمة بنت قيس فذكرت الحديث، وفي آخره: وكان زوجها طلقها طلاقا بائنا.

قال أبو محمد: وهذا لا حجة فيه، لأنه ليس من لفظها، إنما هو من لفظ من دونها، وليس فيه: أن رسول الله ﷺ سمع هذه اللفظة فجعلها طلاقا، ولا حجة فيمن دونه عليه الصلاة والسلام.

وقد ذكرنا في " باب طلاق الثلاث " مجموعة كيف أن طلاق فاطمة بنت قيس. واختلف عن السلف من ذلك: فصح عن علي ما رويناه عن شعبة، حدثنا عطاء بن السائب حدثني أبو البحتري عن علي بن أبي طالب، أنه قال في البائنة: هي ثلاث.

ومن طريق قتادة عن الحسن عن زيد بن ثابت، أنه قال في البائنة: هي ثلاث.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الحسن، والزهري أنهما كانا يجعلان البائنة بمنزل الثلاث وهو قول ابن أبي ليلى والأوزاعي، وأبي عبيد.

وروينا غير هذا:

كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب قال في البائنة: هي طلقة واحدة وهو أحق بها.

ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج أن عمرو بن دينار قال في البائنة: هي طلقة واحدة ويدين، قال ابن جريج فقلت له: فإن نوى بها ثلاثا قال: هي واحدة.

ومن طريق حماد بن سلمة عن قيس، هو ابن عباد عن عطاء بن أبي رباح، أنه قال في البائنة: هي واحدة وهو أحق بها.

وهو قول أبي ثور إلا، أنه قال: لا ينوي وسواء نوى ثلاثا أو اثنتين أو واحدة

وهو قول إسحاق بن راهويه، وأبي سليمان، إلا أنهما قالا: إن قال: لم أنو طلاقا لم يكن طلاقا. وقول ثالث رويناه من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال في البائنة: هي واحدة بائنة. وقول رابع له نيته، فإن نوى ثلاثا فهي ثلاث؛ وإن نوى اثنتين فهي اثنتان، وإن نوى واحدة فواحدة، وإن قال: لم أنو طلاقا فليس طلاقا رويناه من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عطاء

وهو قول الشافعي. وقول خامس وهو أنه في المدخول بها ثلاث، ولا بد، وفي غير المدخول بها واحدة فقط وروي عن ربيعة وهو قول الليث بن سعد. وقول سادس إنها في المدخول بها ثلاث، ولا بد، وفي غير المدخول بها ما نوى من واحدة أو اثنتين أو ثلاث وهو قول مالك وأصحابه، ولا نعلم هذا القول عن أحد ممن قبله. وقول سابع أنه إن قال لها ذلك في غضب أو في غير غضب، ما لم يكن في ذكر طلاق فإنه ينوي، فإن قال: لم أنو طلاقا، فليس طلاقا، وإن قال: نويت طلاقا بلا عدد، أو قال: نويت واحدة رجعية، أو قال: نويت واحدة بائنة، أو قال: نويت اثنتين رجعيتين أو بائنتين فهي في كل ذلك طلقة واحدة بائنة، ولا بد، فلو كان ذلك في ذكر طلاق فكذلك سواء سواء، إلا أنه لا يصدق في قوله: لم أنو طلاقا فقط وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن. وقول ثامن

وهو قول سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة سواء سواء، في كل ما ذكرنا، إلا أنه لم يفرق بين ذكر طلاق وغير ذكره، ولا بين غضب وغيره. وقول تاسع

وهو قول زفر بن الهذيل مثل قول أبي حنيفة، إلا، أنه قال: إن نوى اثنتين فهي اثنتان بائنتان، ولا بد.

وأما البات، وألبتة فروينا من طريق مسلم، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة ثنا أبو بكر، هو ابن أبي الجهم أنه دخل على فاطمة بنت قيس فحدثته أن زوجها طلقها طلاقا باتا ومن طريق مسلم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس قالت: كنت عند رجل من بني مخزوم فطلقني ألبتة وذكرت الحديث.

ومن طريق مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطت فقال: والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له فقال لها: ليس لك عليه نفقة، وذكرت الحديث.

ومن طريق مسلم، حدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي ﷺ فقالت كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فقال عليه الصلاة والسلام: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.

ومن طريق أحمد بن شعيب، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أن امرأة رفاعة قالت: يا رسول الله إني كنت تحت رفاعة فطلقني ألبتة وذكرت الحديث كما أوردناه آنفا حرفا حرفا.

ومن طريق أبي داود نا أبو ثور إبراهيم بن خالد الفقيه، حدثنا محمد بن إدريس الشافعي حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع عن عجير بن عبد يزيد عن ركانة بن عبد يزيد أنه طلق امرأته سهيمة ألبتة، فأخبر رسول الله ﷺ بذلك، وقال: والله ما أردت بذلك إلا واحدة فقال له عليه الصلاة والسلام: والله ما أردت إلا واحدة فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله ﷺ .

ومن طريق أبي داود، حدثنا سليمان بن داود العتكي، حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد هو الهاشمي عن جده أنه طلق امرأته ألبتة فأتى رسول الله ﷺ فقال: ما أردت قال: واحدة، قال: آلله، قال: آلله قال عليه الصلاة والسلام: هو على ما أردت.

وأما من دونه عليه الصلاة والسلام فمن طريق شعبة، حدثنا عطاء بن السائب أخبرني أبو البختري عن علي بن أبي طالب، أنه قال في ألبتة: هي ثلاث.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أنه قال في ألبتة: هي ثلاث.

ومن طريق ابن وهب أخبرنا مسلمة بن علي عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري قال: من بت امرأته لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره قال الزبيدي: وقال الخلفاء مثل ذلك وهذا منقطع. ورويناه أيضا منقطعا عن عمر بن الخطاب، وعن ابن عباس، والقاسم بن محمد، وربيعة، ومكحول، والحسن. ولا يصح شيء من ذلك إلا عن علي، وابن عمر. وصح عن الزهري، وقتادة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز وروي عن سعيد بن المسيب

وهو قول ابن أبي ليلى، والأوزاعي، وأبي عبيد. وقول ثان رويناه من طريق شعبة عن أبي إسحاق الشيباني عن عبد الله بن شداد بن الهادي عن عمر بن الخطاب قال: ألبتة واحدة وهو أحق بها.

ومن طريق عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أخبرني محمد بن عباد بن جعفر المخزومي أن المطلب بن حنطب جاء إلى عمر بن الخطاب فقال له: إني قلت لأمرأتي: أنت طالق ألبتة، فتلا عمر يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ثم تلا: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم الواحدة تبت ارجع إلى أهلك وصح هذا عن أبان بن عثمان، وسعيد بن جبير، وأبي ثور، وأبي سليمان، إلا أن أبا سليمان قال: إن لم ينو طلاقا فليس طلاقا، فإن نوى ثلاثا أو اثنتين فهي واحدة رجعية. وقول ثالث أنه ينوي فيكون ما نوى صح ذلك عن شريح

وهو قول الشافعي، وأصحابه. وقول رابع صح عن إبراهيم النخعي: أن " ألبتة " إن نواها طلقة فهي واحدة بائنة، وإن نواها ثلاثا فهي ثلاث. وقول خامس وهو أنه إن قال ذلك لمدخول بها، فهي ثلاث، ولا بد، وإن قالها لغير مدخول بها فهو على ما نوى: إن واحدة فواحدة، وإن اثنتين فاثنتان، وإن ثلاثا فثلاث وإن لم ينو عددا فهي ثلاث وهو قول مالك، ولا يعرف هذا عن أحد من السلف قبله نعني هذا الفرق. وقول سادس أنه إن قال ذلك في ذكر طلاق، فإن نوى واحدة أو اثنتين، أو لم ينو عددا فهي واحدة بائنة، فإن قال: أنوي طلاقا لم يصدق، فإن قال لها ذلك في غير ذكر طلاق فكذلك سواء سواء، إلا أنه إن قال: لم أنو طلاقا فصدق.

وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر بن الهذيل فإنه وافقهم في كل ذلك، إلا، أنه قال: إن نوى اثنتين فهي اثنتان بائنتان.

قال أبو محمد: وقد قلنا ونقول: لا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ لا سيما في أقوال مختلفة لا برهان على صحة شيء منها، فلم يبق إلا الآثار عن النبي ﷺ:

فأما التي من طريق فاطمة فقد بينا قبل أنه قد صح طلاق زوجها لها كان ثلاثا هكذا، أو آخر ثلاث، فوجب ضرورة أن قول من قال في خبرها ألبتة، أو بت طلاقها، أو بائنا أنه إنما عنى من عند نفسه آخر ثلاث طلقات فبطل التعلق بها.

وأما حديث امرأة رفاعة فكذلك أيضا: لما رويناه من طريق مسلم، حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين أن رفاعة القرظي طلق امرأته فجاءت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله: إن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات وذكرت الخبر ففسر عبد الرزاق عن معمر ما أجمله غيره وصح أن طلاقه لها كان آخر ثلاث تطليقات. ثم نظرنا في خبر ركانة فوجدناه من طريق عبد الله بن علي بن يزيد عن نافع عن عجير وكلاهما مجهول ولو صح لقلنا به مبادرين إليه. ثم نظرنا في حديث الزبير بن سعيد فوجدناه ضعيفا، والزبير هذا متروك الحديث، فبطل التعلق بكل أثر في هذه المسألة، ولا يحل تحريم فرج على من أباحه الله عز وجل له، وإباحته لمن حرمه الله عليه بغير قرآن، ولا سنة، لا سيما قول مالك، وأبي حنيفة لا يعرف أحد قال بهما قبلهما.