→ كتاب الطلاق (تتمة مسألة 1962 - 1963) | ابن حزم - المحلى كتاب الطلاق (مسألة 1964 - 1970) ابن حزم |
كتاب الطلاق (مسألة 1971 - 1973) ← |
كتاب الطلاق
1964 - مسألة: ومن كتب إلى امرأته بالطلاق فليس شيئا. وقد اختلف الناس في هذا: فروينا عن النخعي والشعبي والزهري إذا كتب الطلاق بيده فهو طلاق لازم .
وبه يقول الأوزاعي، والحسن بن حي، وأحمد بن حنبل.
وروينا عن سعيد بن منصور، حدثنا هشيم أنا يونس، ومنصور عن الحسن، في رجل كتب بطلاق امرأته ثم محاه فقال: ليس بشيء إلا أن يمضيه، أو يتكلم به.
وروينا عن الشعبي مثله وصح أيضا عن قتادة وقال أبو حنيفة: إن كتب طلاق امرأته في الأرض لم يلزمه طلاق وإن كتبه في كتاب ثم قال: لم أنو طلاقا صدق في الفتيا ولم يصدق في القضاء.
وقال مالك إن كتب طلاق امرأته فإن نوى بذلك الطلاق فهو طلاق وإن لم ينو به طلاقا فليس بطلاق وهو قول الليث، والشافعي.
قال أبو محمد: قال الله تعالى: {الطلاق مرتان}
وقال تعالى: {فطلقوهن لعدتهن}، ولا يقع في اللغة التي خاطبنا الله تعالى بها ورسوله ﷺ اسم تطليق على أن يكتب إنما يقع ذلك اللفظ به
فصح أن الكتاب ليس طلاقا حتى يلفظ به إذ لم يوجب ذلك نص وبالله تعالى التوفيق.
1965- مسألة: ويطلق من لا يحسن العربية بلغته باللفظ الذي يترجم عنه في العربية بالطلاق ويطلق الأبكم والمريض بما يقدر عليه من الصوت أو الإشارة التي يوقن بها من سمعها قطعا أنهما أرادا الطلاق.
وبرهان ذلك: قول الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقول رسول الله إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. فصح أن ما ليس في وسع المرء، ولا يستطيعه فقد سقط منه، وأنه يؤدي مما أمر به ما استطاع فقط وبالله تعالى التوفيق.
1966 - مسألة: ومن طلق امرأته وهو غائب: لم يكن طلاقا، وهي امرأته كما كانت، يتوارثان إن مات أحدهما، وجميع حقوق الزوجية بينهما سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها ثلاثا أو أقل إلا حتى يبلغ إليها، فإذا بلغها الخبر من تصدقه أو بشهادة تقبل في الحكم فحينئذ يلزمها الطلاق إن كانت حاملا أو طاهرا في طهر لم يمسها فيه.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} فهذه صفة طلاق المدخول بها.
وقال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا}.
وقال تعالى: {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن}. فهذه صفة طلاق غير المدخول بها، ويدخل فيه طلاق الثلاث المجموعة، وآخر الثلاث، وبالضرورة يوقن كل ذي حس سليم أن من طلقها فلم يبلغها الطلاق فقد ضارها، ومضارتها حرام، ففعله مردود باطل، والمعصية لا تنوب عن الطاعة، وبالضرورة يوقن كل أحد أن من فعل ذلك فلم يسرحها سراحا جميلا، ومن لم يطلق للعدة، ولم يحص العدة فلم يطلق كما أمره الله تعالى، ومن لم يطلق كما أمره الله تعالى فلم يطلق أصلا. فإن ذكر ذاكر ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب قال: نا عبيد الله بن قدامة السرخسي، حدثنا عبد الرحمن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي بكر، هو ابن أبي الجهم قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: أرسل إلي زوجي بطلاقي، فشددت علي ثيابي ثم أتيت النبي ﷺ فقال: كم طلقك قلت: ثلاثا وذكر الحديث
قلنا: نعم، وهذا قولنا، ولم نقل قط: إنه لا يلزمها الطلاق إذا بلغها وسنذكر إن شاء الله تعالى في " باب العدد " من قال من السلف: إن من طلقها زوجها وهو غائب فإنها لا تلزمها العدة، إلا من حين يبلغها الخبر. وهذا يدل على أنها لم يلزمها الطلاق إلا من حين لزمتها العدة، لا قبل ذلك، إذ لا يجوز في دين الإسلام أن يحال بزمان بين الطلاق وبين أول عدتها. ولا يجوز أن تكون امرأة ذات زوج موطوءة منه خارجة عن الزوجية بطلاقه، وفي غير عدة هذا خلاف القرآن والسنة، فكيف وقد جاء خبر فاطمة بخلاف ما ذكر أبو بكر بن أبي الجهم:
كما روينا من طريق مسلم حدثني محمد بن رافع، حدثنا حسين بن محمد، حدثنا شيبان، هو ابن فروخ عن يحيى، هو ابن أبي كثير أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن أبا حفص بن المغيرة طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن وذكرت الخبر.
فإن قيل: فأنتم لا تجيزون الطلاق إلى أجل، ولا الطلاق بصفة، وتحتجون بأن كل طلاق لا يقع حين يوقع، فمن المحال أن يقع حين لم يقع، فكيف أجزتم طلاق الغائب.
قلنا: لأن الله عز وجل علمنا الطلاق في كل صنف من المطلقات، وفي المطلقة الصغيرة التي لم تخاطب، والمجنونة، وهما لا يلزم خطابهما بالطلاق، وقد يطلق المطلق عند باب الدار ويبعث إليها الخبر، وعلى أذرع منها، وإذا جاز ذلك فلا فرق بين الطلاق في البعد ولو أقصى المعمور وبين الطلاق خلف حائط وليس ذلك طلاقا إلى أجل، إنما هو كله طلاق لازم إذا بلغها، أو بلغ أهلها إن كانت ممن لا تخاطب، فيقع بذلك حل النكاح، كما يقع بالفسخ، ولا فرق وبالله تعالى التوفيق.
1967 - مسألة: ومن طلق في نفسه لم يلزمه الطلاق.
برهان ذلك: الخبر الثابت عن رسول الله عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تخرجه بقول أو عمل أو كما قال عليه الصلاة والسلام فصح أن حديث النفس ساقط ما لم ينطق به.
وكذلك العتق في النفس، والمراجعة في النفس، والهبة والصدقة في النفس، والإسلام في النفس، كل ذلك ليس بشيء. وللسلف في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها كما
قلنا: روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري، عن ابن جريج عن عطاء قال: إذا طلق في نفسه فليس بشيء.
وبه إلى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد قال: إذا طلق في نفسه فليس بشيء.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عطاء: ليس طلاقه، ولا عتاقه في نفسه شيئا قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أن رجلا طلق امرأته في نفسه فانتزعت منه فقال جابر بن زيد: لقد ظلم.
وروينا ذلك أيضا عن الشعبي.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والحسن قالا جميعا: من طلق في نفسه فليس طلاقه ذلك بشيء.
وبه يقول أبو حنيفة، والشافعي، وأبو سليمان، وأصحابهم. وقول ثان
كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر قال سئل عنها ابن سيرين فقال: أليس قد علم الله ما في نفسك قال: بلى، قال: فلا أقول فيها شيئا فهذا توقف. وقول ثالث إنه طلاق، روي عن الزهري، ورواه أشهب عن مالك.
قال أبو محمد: الفرض والورع أن لا يحكم حاكم، ولا يفتي مفت بفراق زوجة عقد نكاحها بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد ﷺ بغير قرآن أو سنة ثابتة.
واحتج من ذهب إلى هذا القول بالخبر الثابت عن رسول الله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
قال أبو محمد: وهذا الخبر حجة لنا عليهم، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفرد فيه النية عن العمل، ولا العمل عن النية، بل جمعهما جميعا، ولم يوجب حكما بأحدهما دون الآخر وهكذا نقول: إن من نوى الطلاق ولم يلفظ به، أو لفظ به ولم ينوه فليس طلاق، إلا حتى يلفظ به وينويه، إلا أن يخص نص شيئا من الأحكام بإلزامه بنية دون عمل، أو بعمل دون نية؛ فنقف عنده وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا أيضا بأن قالوا: إنكم تقولون: من اعتقد الكفر بقلبه فهو كافر وإن لم يلفظ به وتقولون: إن المصر على المعاصي عاص آثم معاقب بذلك وتقولون: إن من قذف محصنة في نفسه فهو آثم، ومن اعتقد عداوة مؤمن ظلما فهو عاص لله عز وجل وإن لم يظهر ذلك بقول أو فعل. ومن أعجب بعلمه أو راءى فهو هالك.
قلنا: أما اعتقاد الكفر، فإن القرآن قد جاء بذلك نصا، قال تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} فخرج هؤلاء بنصوص القرآن والسنن عما عفي عنه.
وأيضا فإن العفو عن حديث النفس إنما هو عن أمة محمد ﷺ فضيلة لهم بنص الخبر، ومن أسر الكفر فليس من أمته عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن هذه الفضيلة.
وأما المصر على المعاصي فليس كما ظننتم صح عن النبي ﷺ، أنه قال: من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه.
فصح أن المصر الآثم بإصراره هو الذي عمل السيئة ثم أصر عليها فهذا جمع نية السوء والعمل السوء معا.
وأما من قذف محصنة في نفسه فقد نهاه الله عز وجل عن الظن السوء، وهذا ظن سوء، فخرج عما عفي عنه بالنص، ولا يحل أن يقاس عليه غيره فيخالف النص الثابت في عفو الله عز وجل عن ذلك.
وأما من اعتقد عداوة مسلم فإن لم يضر به بعمل، ولا بكلام فإنما هو بغضة والبغضة التي لا يقدر المرء على صرفها عن نفسه لا يؤاخذ بها، فإن تعمد ذلك فهو عاص، لأنه مأمور بموالاة المسلم ومحبته، فتعدى ما أمره الله تعالى به، فلذلك أثم. وهكذا الرياء والعجب قد صح النهي عنهما، ولم يأت نص قط بإلزام طلاق، أو عتاق، أو رجعة، أو هبة، أو صدقة بالنفس، لم يلفظ بشيء من ذلك، فوجب أنه كله لغو وبالله تعالى التوفيق.
1968 - مسألة: ومن طلق وهو غير قاصد إلى الطلاق، لكن أخطأ لسانه فإن قامت عليه بينة قضي عليه بالطلاق، وإن لم تقم عليه بينة لكن أتى مستفتيا لم يلزمه الطلاق.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}. وقول رسول الله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فصح أن لا عمل إلا بنية، ولا نية إلا بعمل.
وأما إذا قامت بذلك بينة فإنه حق قد ثبت، وهو في قوله: لم أنو الطلاق، مدع بطلان ذلك الحق الثابت، فدعواه باطل.
روينا من طريق وكيع، عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: قالت امرأة لزوجها: سمني فسماها الظبية، قالت: ما قلت شيئا قال: فهات ما أسميك به قالت: سمني خلية طالق، قال: فأنت خلية طالق، فأتت عمر بن الخطاب فقالت: إن زوجي طلقني فجاء زوجها فقص عليه القصة فأوجع عمر رأسها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها.
قال أبو محمد: أما مثل هذا فحتى لو قامت به بينة لم يكن طلاقا.
وروي قولنا عن إياس بن معاوية.
وقال مالك: إذا قال: أنت طالق ألبتة وهو يريد أن يحلف على شيء ثم بدا له فترك اليمين فليست طالقا، لأنه لم يرد أن يطلقها.
وهو قول الليث بن سعد.
وقال الشافعي: ما غلب المرء على لسانه بغير اختيار منه لذلك فهو كلا قول، لا يلزمه به طلاق، ولا غيره. قال أبو حنيفة وأصحابه: من أراد أن يقول شيئا لأمرأته فسبقه لسانه فقال: أنت طالق، لزمه الطلاق في القضاء، وفي الفتيا، وبينه وبين الله عز وجل.
وكذلك لو أراد أن يقول: أنت طالق ثلاثا إن دخلت الدار، فقال: أنت طالق ثلاثا، ثم بدا له عن اليمين، أو قطع به عن ذلك قاطع فلم يلفظ بما أراد أن يقول فهي طالق في الفتيا، والقضاء، وبينه وبين الله عز وجل سواء دخلت الدار أو لم تدخل. قال أبو حنيفة: فلو أراد أن يقول: أنت حرة إن دخلت الدار، فقال: أنت حرة، ثم بدا له عن اليمين، أو قطعه عنه قاطع، فهي حرة في الفتيا: وفي القضاء، وبينه وبين الله عز وجل دخلت الدار أو لم تدخل. فلو أراد أن يقول لها كلاما فأخطأ فسبقه لسانه فقال: أنت حرة قال أبو حنيفة: لا تكون بذلك حرة، ولا يلزمه العتق، بخلاف الطلاق، وبخلاف المسألة في العتق التي ذكرنا آنفا وقال أصحابه: كل ذلك سواء.
قال أبو محمد: أما قول أبي حنيفة ففي غاية الفساد والمناقضة.
وأما قول مالك فمناقض لقوله في التحريم، وفي حبلك على غاربك، وسائر ما رأى التحريم يدخل فيه بأرق الأسباب وبالله تعالى التوفيق.
1969 - مسألة: ولا يلزم المشرك طلاقه، وأما نكاحه، وبيعه، وابتياعه، وهبته، وصدقته، وعتقه، ومؤاجرته: فجائز كل ذلك.
برهان ذلك: قول النبي عليه الصلاة والسلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. وقول الله عز وجل: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} فصح بهذين النصين أن كل من عمل بخلاف ما أمر الله عز وجل به، أو رسوله ﷺ فهو باطل لا يعتد به. ولا شك في أن الكافر مأمور بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ملزم ذلك، متوعد على تركه بالخلود بين أطباق النيران فكل كلام قاله، وترك الشهادة المذكورة: فقد وضع ذلك الكلام غير موضعه، فهو غير معتد.
فإن قيل: فمن أين أجزتم سائر عقوده التي ذكرتم.
قلنا: أما النكاح فلأن رسول الله ﷺ أجاز نكاح أهل الشرك، وأبقاهم بعد إسلامهم عليه.
وأما بيعه، وابتياعه: فلأن رسول الله ﷺ كان يعامل تجار الكفار، ومات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في أصواع شعير.
وأما مؤاجرته فلأن رسول الله ﷺ استأجر ابن أرقط ليدل به إلى المدينة وهو كافر وعامل يهود خيبر على عمل أرضها وشجرها بنصف ما يخرج الله عز وجل من ذلك.
وأما هبته، وصدقته وعتقه فلقول حكيم بن حزام يا رسول الله، أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من عتاقة وصلة رحم وصدقة فقال له رسول الله ﷺ أسلمت على ما أسلفت من خير. فسمى عليه الصلاة والسلام كل ذلك خيرا، وأخبر: أنه معتد له به: فبقي الطلاق لم يأت في إمضائه نص: فثبت على أصله المتقدم.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}.
قلنا: نعم، وهذا الذي حكمنا به بينهم هو مما أنزل الله تعالى كما ذكرنا. وقد اختلف الناس في هذا: فرويناه من طريق قتادة أن رجلا طلق امرأته طلقتين في الجاهلية، وطلقة في الإسلام فسأل عمر فقال له عمر: لا آمرك، ولا أنهاك فقال له عبد الرحمن بن عوف: لكنني آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشيء وبهذا كان يفتي قتادة. وصح عن الحسن، وربيعة.
وهو قول مالك، وأبي سليمان، وأصحابهما. وصح عن عطاء، وعمرو بن دينار، وفراس الهمداني، والزهري، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان إجازة طلاق المشرك هو قول الأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي، وأصحابهما.
فإن قيل: فقد رويتم من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عمرو بن دينار، قال: لقد طلق رجال نساء في الجاهلية ثم جاء الإسلام فما رجعن إلى أزواجهن
قال أبو محمد: هذا لا حجة فيه لوجوه:
أولها أنه مرسل، وأن عمرو بن دينار من الجاهلية.
وثانيها أنه ليس فيه أن رسول الله ﷺ منع من ذلك.
وثالثها أننا لم نمنع نحن من أن يكون قوم رأوا أن ذلك نافذ، ولا حجة في ذلك، إلا أن يعلمه عليه الصلاة والسلام فيقره.
1970 - مسألة: وطلاق المكره غير لازم له. وقد اختلف الناس في هذا: فروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سليمان الشيباني عن علي بن حنظلة عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب ليس الرجل بأمين على نفسه إذا أخفته أو ضربته أو أوثقته.
ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الملك بن قدامة الجمحي حدثني أبي أن رجلا تدلى بحبل ليشتار عسلا فأتت امرأته فقالت له: لاقطعن الحبل، أو لتطلقني فناشدها الله تعالى فأبت، فطلقها، فلما ظهر أتى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال له عمر: ارجع إلى امرأتك، فإن هذا ليس بطلاق.
ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن: أن علي بن أبي طالب كان لا يجيز طلاق المكره.
ومن طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ثابت الأعرج، قال: سألت ابن عمر، وابن الزبير عن طلاق المكره فقالا جميعا: ليس بشيء.
ومن طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا هشيم، حدثنا عبيد الله بن طلحة الخزاعي، حدثنا أبو يزيد المدني، عن ابن عباس قال: ليس لمكره، ولا لمضطر طلاق.
ومن طريق عبد الرزاق عن عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن عباس أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئا. وصح عن الحسن البصري: طلاق المكره لا يجوز وهو أحد قولي عمر بن عبد العزيز وصح أيضا عن عطاء، وطاووس، وأبي الشعثاء جابر بن زيد وعن الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن المغيرة عن إبراهيم قال: الطلاق ما عني به الطلاق
وهو قول مالك، والأوزاعي، والحسن بن حي، والشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهم وأحد قولي الشافعي.
وروي خلاف ذلك عن عمر: كما روينا عن سعيد بن منصور نا فرج بن فضالة حدثني عمرو بن شراحيل المعافري أن امرأة سلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت: والله لانفذنك أو لتطلقني فطلقها ثلاثا، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمضى طلاقها. وعن ابن عمر روينا عنه أنه سأله رجل فقال له: إنه وطئ فلان على رجلي حتى أطلق امرأتي، فطلقتها، فكره له الرجوع إليها وهذا يخرج على أنه لم ير ذلك إكراها
وروي أيضا عن عمر بن عبد العزيز.
وروينا عن علي بن أبي طالب كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه، وقد
روينا عنه قبل إبطال طلاق المكره.
وروي أيضا عن إبراهيم وصح عن أبي قلابة، والزهري، وقتادة، وسعيد بن جبير. وبه أخذ أبو حنيفة، وأصحابه. وقول ثالث وهو أن طلاق المكره إن أكرهه اللصوص لم يلزمه، وإن أكرهه السلطان لزمه: رويناه عن الشعبي. وقول رابع رويناه عن إبراهيم، أنه قال: من أكره ظلما على الطلاق فورك إلى شيء آخر لم يلزمه، فإن لم يورك لزمه، ولا ينتفع الظالم بالتوريك وهو أحد قولي سفيان.
قال أبو محمد: احتج من أجازه بخبر رويناه من طريق بقية عن الغازي بن جبلة عن صفوان بن عمرو الأصم الطائي عن رجل من أصحاب رسول الله ﷺ: أن رجلا جلست امرأته على صدره وجعلت السكين على حلقه وقالت له: طلقني أو لاذبحنك فناشدها الله تعالى فأبت، فطلقها ثلاثا، فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: لا قيلولة في الطلاق.
ومن طريق سعيد بن منصور حدثني الوليد بن مسلم عن الغازي بن جبلة الجبلاني أنه سمع صفوان يقول: إن رجلا جلست امرأته على صدره فوضعت السكين على فؤاده وهي تقول: لتطلقني أو لاقتلنك فطلقها، ثم أتى رسول الله ﷺ فقال له عليه الصلاة والسلام: لا قيلولة في الطلاق وهذا خبر في غاية السقوط، صفوان منكر الحديث وبقية ضعيف والغازي بن جبلة مغمور. وذكروا خبرا آخر من طريق عطاء بن عجلان عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله. وهذا شر من الأول؛ لأن عطاء بن عجلان مذكور بالكذب والعجب أن المحتجين به أول المخالفين له لأصل فاسد لهم: أما أصلهم فإنهم يقولون في الأخبار الثابتة: إذا خالف شيئا منها راويه فهو دليل على سقوطه، وهذا خبر إنما ذكر من طريق ابن عباس، والثابت، عن ابن عباس إبطال طلاق المكره كما ذكرنا آنفا.
وأما خلافهم له فإنهم لا يجيزون طلاق الصبي الذي لم يبلغ، وعموم هذا الخبر الملعون يقتضي جوازه، كما يقتضي عندهم جواز طلاق المكره. فإن ادعوا في إبطال طلاق الصبي الإجماع على عادتهم في استسهال الكذب في دعوى الإجماع بين كذبهم.
ما روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عمن سمع علي بن أبي طالب أنه كان يقول " اكتموا الصبيان النكاح ". من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا هشيم، حدثنا المغيرة عن إبراهيم أنه كان لا يهاب شيئا من أمر الغلام إلا الطلاق.
ومن طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب في طلاق الصبي قال: إذا صام رمضان وأحصى الصلاة جاز طلاقه. من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكتمون الصبيان النكاح إذا زوجوهم مخافة الطلاق.
فإن قيل: ففي هذا الخبر " وكان إذا وقع لم يره شيئا ".
قلنا: نعم، هذه حكاية عن إبراهيم، لا عن أصحابه الذين حكي عنهم كتمان الصبيان زواجهم مخافة الطلاق. واحتجوا أيضا بآثار فيها ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة وهي أخبار موضوعة، لأنها إنما فيها حكم الهازل، والجاد، لا ذكر للمكره فيها وبعد: فإنما رويناها من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك وهو منكر الحديث مجهول لأن قوما قالوا: عن عبد الرحمن بن حبيب، وقوما قالوا: حبيب بن عبد الرحمن، وهو مع ذلك متفق على ضعف روايته.
ومن طريق وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي بردة، أن رسول الله ﷺ قال: ما بال رجال يلعبون بحدود الله، يقول أحدهم: قد طلقت ثم راجعت وهذا مرسل، ولا حجة في مرسل، وليس فيه أيضا جواز طلاق مكره. أو عن الحسن أن رسول الله ﷺ قال: من طلق لاعبا أو أنكح لاعبا أو نكح لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز، ولا حجة في مرسل، وليس فيه أيضا لطلاق مكره أثر. ومن طريق فيها إبراهيم بن محمد بن أبي ليلى وهو مذكور بالكذب ثم ليس فيه إلا من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا. وليس فيه للمكره ذكر. أو من طريق ابن جريج أن رسول الله ﷺ وهذا فاحش الأنقطاع، ثم ليس للمكره ذكر، وإنما فيه من نكح لاعبا أو طلق لاعبا.
وإن قالوا: هو طلاق
قلنا: كلا، ليس طلاقا إنما الطلاق ما نطق به المطلق مختارا بلسانه قاصدا بقلبه، كما أمر الله تعالى، وأنتم تسمون نكاح المتعة، ونكاح عشر: نكاحا فأجيزوه لذلك فإذ قد بطل كل ما موهوا به فعلينا إيراد البرهان بحول الله وقوته على بطلان طلاق المكره: فمن ذلك قول رسول الله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
فصح أن كل عمل بلا نية فهو باطل لا يعتد به، وطلاق المكره عمل بلا نية، فهو باطل، وإنما هو حاك لما أمر أن يقوله فقط، ولا طلاق على حاك كلاما لم يعتقده. وقد صح عن رسول الله ﷺ: إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه رويناه من طريق الربيع بن سليمان المؤذن، حدثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس عن النبي ﷺ . ومن أعظم تناقضهم: أنهم يجيزون طلاق المكره، ونكاحه، وإنكاحه، ورجعته، وعتقه، ولا يجيزون بيعه، ولا ابتياعه، ولا هبته، ولا إقراره وهذا تلاعب بالدين ونعوذ بالله من الخذلان.