→ كتاب الطلاق (مسألة 1964 - 1970) | ابن حزم - المحلى كتاب الطلاق (مسألة 1971 - 1973) ابن حزم |
كتاب الطلاق (مسألة 1974 - 1979) ← |
كتاب الطلاق
1971 - مسألة: ومن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، أو قال: فهي طالق ثلاثا فكل ذلك باطل، وله أن يتزوجها، ولا تكون طالقا.
وكذلك لو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق وسواء عين مدة قريبة أو بعيدة أو قبيلة أو بلدة كل ذلك باطل لا يلزم. وقد اختلف الناس في هذا: فقالت طائفة: يلزمه كل ذلك.
وقالت طائفة: إن عين قبيلة أو بلدة أو امرأة أو مدة قريبة يعيش إليها لزمه، فإن عم لم يلزمه.
وقالت طائفة: يكره له أن يتزوجها، فإن تزوجها لم نمنعه، ولم نفسخه. فممن روي عنه قولنا كما رويناه من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن علي بن أبي طالب قال " لا طلاق إلا من بعد نكاح وإن سماها فليس بطلاق ".
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا هشيم، حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق.
فقال علي: ليس طلاق إلا من بعد ملك.
ومن طريق عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عباس، لا طلاق إلا من بعد نكاح "، قال عطاء: فإن حلف بطلاق ما لم ينكح فلا شيء قال ابن جريج: بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال ابن عباس: أخطأ في هذا إن الله عز وجل يقول: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.
ومن طريق وكيع، عن ابن أبي ذئب عن محمد بن المنكدر، وعطاء بن أبي رباح، كلاهما عن جابر بن عبد الله يرفعه لا طلاق قبل نكاح. وصح عن طاووس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وقتادة والحسن، ووهب بن منبه، وعلي بن الحسين، والقاسم بن عبد الرحمن، وشريح القاضي.
وروي أيضا عن عائشة أم المؤمنين وعكرمة.
وهو قول سفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، والشافعي، وأصحابه، وأحمد، وأصحابه، وإسحاق بن راهويه، وأبي سليمان، وأصحابه، وجمهور أصحاب الحديث.
وأما من كره ذلك ولم يفسخه:
كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر فيمن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فكرهه.
وهو قول الأوزاعي
وروي عنه، أنه قال: إن تزوجها لم آمره بفراقها، وإن كان لم يتزوجها لم آمره أن يتزوجها.
وهو قول سفيان الثوري، فقيل له: أحرام هو فقال: ومن يقول: إنه حرام، من رخص فيه أكثر ممن شدد فيه .
وبه يقول أبو عبيد. والقول الثالث في الفرق بين التخصيص والعموم:
روينا من طريق مالك عن سعيد بن عمرو بن سليم عن القاسم بن محمد أن رجلا قال: إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي، فتزوجها، فقال له عمر بن الخطاب: لا تقربها حتى تكفر.
قال أبو محمد: ليس هذا موافقا لهم، لأنه قد روي عن عمر: أنه وإن عم فهو لازم فذكره بعد هذا إن شاء الله عز وجل، بلغني، عن ابن مسعود، أنه قال: من قال: كل امرأة أنكحها فهي طالق إن لم يسم قبيلة أو قرية أو امرأة بعينها فليس بشيء
وقد ذكرناه قبل، عن ابن مسعود مجملا.
ومن طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عوانة عن محمد بن قيس هو المرهبي قال: سألت إبراهيم النخعي عن رجل قال في امرأة: إن تزوجتها فهي طالق، فذكر إبراهيم عن علقمة أو عن الأسود: أن ابن مسعود قال: هي كما قال ثم سألت الشعبي وذكرت له قول إبراهيم النخعي فقال: صدق.
ومن طريق أبي عبيد عن هشيم، حدثنا مغيرة عن إبراهيم النخعي فيمن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق قال: ليس بشيء، هذا رجل حرم المحصنات على نفسه: فليتزوج، قال: فإن سماها أو نسبها، أو سمى مصرا، أو وقت وقتا، فهي كما قال.
ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: إن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فليس بشيء، فإن وقت لزمه.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا محمد بن كثير عن حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء، قال: من قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فهي كما قال.
وهو قول الحكم بن عتيبة، وربيعة، والحسن بن حي، والليث بن سعد، ومالك، وأصحابه. والقول الرابع أنه يلزمه، وإن عم:
روينا من طريق عبد الرزاق عن ياسين الزيات عن أبي محمد عن عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن رجلا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق فقال له عمر بن الخطاب: هو كما قلت.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري فيمن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق وكل أمة أشتريها فهي حرة قال الزهري: هو كما قال.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون، كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: كان القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز: يرون الطلاق قبل النكاح كما قال.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا مروان عن شجاع عن خصيف قال: سألت مجاهدا عن قول من قال: طلق قبل أن يملك فعابه مجاهد، وقال: ما له طلاق إلا بعدما ملك وهو قول عثمان البتي، وأبي حنيفة.
قال أبو محمد: فنظرنا فيما احتج به من أجازه بكل حال فوجدنا قائلهم قال: لا تخالفوننا فيمن قال لأمرأته: أنت طالق إذا بنت مني: أنه ليس شيئا فصح أن الطلاق معلق بالوقت الذي أضيف إليه.
قال أبو محمد: هذا فاسد، لأنه لم يخرج الطلاق كما أمر، بل لم يوقعه حين نطق به، وأوقعه حيث لا يقع فهو باطل فقط. وقالوا: قسناه على النذر.
قلنا: القياس كله باطل ثم لو صح لكان هذا منه باطلا، لأن النذر جاء فيه النص، ولم يأت في تقديم الطلاق قبل النكاح نص. والنذر شيء يتقرب به إلى الله عز وجل، وليس الطلاق مما يتقرب به إلى الله عز وجل، ولا مما ندب الله تعالى عباده إليه، وحضهم عليه. وهم لا يخالفوننا في أن من قال: علي نذر لله تعالى أن أطلق زوجتي: أنه لا يلزمه طلاقها وهذا يبطل عليهم تمويههم في ذلك بقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} لأن الطلاق عقد لا يلزم الوفاء به لمن عقده على نفسه بمعنى عقد أن يطلق، إلا أنه لم يطلق، فليس الطلاق من العقود التي أمر الله تعالى بالوفاء بها قبل أن توقع وقالوا: قسناه على الوصية.
قال أبو محمد: وهذا من أرذل قياساتهم وأظهرها فسادا، إلا أن الوصية نافذة بعد الموت، ولو طلق الحي بعد موته لم يجز. والوصية قربة إلى الله عز وجل، بل هي فرض والطلاق ليس فرضا، ولا مندوبا إليه وما وجدنا لهم شغبا غير هذا. وهو قول لم يصح عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، لأن الرواية عن عمر موضوعة، فيها ياسين وهو هالك وأبو محمد مجهول ثم هو منقطع بين أبي سلمة، وعمر. ثم نظرنا في قول من ألزمه إن خص، ولم يلزمه إن عم، فوجدناه فرقا فاسدا، ومناقضة ظاهرة، ولم نجد لهم حجة أكثر من قولهم: إذا عم فقد ضيق على نفسه .
فقلنا: ما ضيق، بل له في الشراء فسحة، ثم هبك أنه قد ضيق فأين وجدتم أن الضيق في مثل هذا يبيح الحرام.
وأيضا فقد يخاف في امتناعه من نكاح التي خص طلاقها إن تزوجها أكثر مما يخاف لو عم لكلفه بها فوضح فساد هذا القول لتعريه عن البرهان جملة. ووجدناه أيضا لا يصح عن أحد من الصحابة، لأنه إما منقطع، وأما من طريق محمد بن قيس المرهبي وليس بالمشهور ثم رجعنا إلى قولنا فوجدنا الله تعالى يقول: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} فلم يجعل الله تعالى الطلاق إلا بعد عقد النكاح. ومن الباطل أن لا يقع الطلاق حين إيقاعه، ثم يقع حين لم يوقعه إلا ببرهان واضح ووجدناه إنما طلق أجنبية، وطلاق الأجنبية باطل. والعجب أن المخالفين لنا أصحاب قياس بزعمهم، ولا يختلفون فيمن قال لأمرأته: إن طلقتك فأنت مرتجعة مني، فطلقها: أنها لا تكون مرتجعة حتى يبتدئ النطق بارتجاعه لها. ووجدناهم لا يختلفون فيمن قال: إذا قدم أبي فزوجيني من نفسك فقد قبلت نكاحك فقالت هي وهي مالكة أمر نفسها وأنا إذا جاء أبوك فقد تزوجتك ورضيت بك زوجا، فقدم أبوه، فإنه ليس بينهما بذلك نكاح أصلا. ولا يختلفون فيمن قال لأخر: إذا كسبت مالا فأنت وكيلي في الصدقة به، فكسب مالا، فإنه لا يكون الآخر وكيلا في الصدقة به إلا حتى يبتدئ اللفظ بتوكيله، فلا ندري من أين وقع لهم جواز تقديم الطلاق، والظهار، قبل النكاح وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكذلك لا يختلفون فيمن قال لأخر: زوجني ابنتك إن ولدت لك من فلانة فقال الآخر: نعم، قد زوجتك ابنتي إن ولدتها لي فلانة فولدت له فلانة ابنة، فإنها لا تكون له بذلك زوجة. وقد جاء إنفاذ هذا النكاح، عن ابن مسعود، والحسن: رويناه من طريق حماد بن سلمة أخبرني يحيى بن سعيد التيمي عن الشعبي، عن ابن مسعود بذلك وقضى لها بصداق إحدى نسائها، ولا يعرف لأبن مسعود في ذلك مخالف من الصحابة، رضي الله عنهم ،. ولا يختلفون فيمن قال لأخر: إذا وكلتني بطلاق امرأتك فلانة فقد طلقتها ثلاثا، ثم وكله الزوج بطلاقها، أنها لا تكون بذلك طالقا. ولا يختلفون فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق ثلاثا، فتزوجها فطلقها إثر تمام العقد ثلاثا، ثم أتت بولد لتمام ستة أشهر من حين ذلك، فإنه لاحق به. وهذه كلها مناقضات فاسدة: وبالله تعالى التوفيق.
1972 - مسألة: وطلاق السكران غير لازم.
وكذلك من فقد عقله بغير الخمر. وحد السكر هو أن يخلط في كلامه فيأتي بما لا يعقل، وبما لا يأتي به إذا لم يكن سكران وإن أتى بما يعقل في خلال ذلك لأن المجنون قد يأتي بما يعقل، ويتحفظ من السلطان ومن سائر المخاوف.
وأما من ثقل لسانه وتخبل مخرج كلامه وتخبلت مشيته وعربد فقط إلا أنه لم يتكلم بما لا يعقل فليس هو سكران.
برهان ذلك: قول الله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فبين الله تعالى أن السكران لا يعلم ما يقول، فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران، ومن علم ما يقول فليس بسكران. ومن خلط فأتى بما يعقل وما لا يعقل فهو سكران، لأنه لا يعلم ما يقول. ومن أخبر الله تعالى أنه لا يدري ما يقول فلا يحل أن يلزم شيئا من الأحكام، لا طلاقا، ولا غيره، لأنه غير مخاطب، إذا ليس من ذوي الألباب. وقد اختلف الناس في هذا فمن روي عنه خلاف ما قلنا: كما روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن خراش بن مالك الجهضمي حدثني يحيى بن عبيد عن أبيه: أن رجلا من أهل عمان تملأ من الشراب فطلق امرأته ثلاثا فشهد عليه نسوة فكتب إلى عمر بذلك، فأجاز شهادة النسوة، وأثبت عليه الطلاق.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد أن رجلا طلق امرأته وهو سكران فرفع إلى عمر بن الخطاب وشهد عليه أربع نسوة ففرق عمر بينهما.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا ابن أبي مريم وهو سعيد عن ناجية بن أبي بكر عن جعفر بن ربيعة، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب: أن معاوية أجاز طلاق السكران. ورويناه، عن ابن عباس من طرق لم تصح: لأن في إحدى طريقيه الحجاج بن أرطاة، وفي الأخرى إبراهيم بن أبي يحيى. وصح عن النخعي، وابن سيرين، والحسن، وميمون بن مهران، وحميد بن عبد الرحمن، وعطاء، وقتادة، والزهري إلا أنه فرق بين أحكامه.
وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: يجوز طلاق السكران وعتقه، ولا يجوز نكاحه، ولا شراؤه، ولا بيعه.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب يجوز طلاق السكران، ولا تجوز هبته، ولا صدقته. وصحت إجازة طلاق السكران عن الشعبي، ومجاهد، وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد، وعمر بن عبد العزيز. ورويناه عن عطاء بن أبي رباح، وسليمان بن يسار
وهو قول ابن شبرمة، وتوقف في نكاحه وأجاز ابن أبي ليلى كلا الأمرين. وممن أجاز طلاقه: سفيان الثوري، والحسن بن حي، والشافعي في أحد قوليه.
وقال مالك: طلاق السكران ونكاحه وجميع أفعاله جائزة إلا الردة فقط، فلا يحكم له في شيء من أموره بحكم المرتد. وروى عنه ابن وهب يجوز طلاقه، ولا يجوز نكاحه. وقال مطرف بن عبد الله صاحب مالك: لا يلزم السكران شيء، ولا يؤاخذ بشيء، إلا بأربعة أشياء لا خامس لها هكذا قال، ثم سماها فقال: الطلاق، والعتق، والقتل، والقذف فدل ذلك على أنه لا يحد للزنى، ولا للسرقة.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: يجوز طلاقه، وجميع أفعاله إلا الردة. وقال محمد بن الحسن: ولا إسلامه إن كان كافرا، ولا إقراره بالحدود. وقال أبو يوسف: كل ذلك له لازم.
وأما من روي عنه مثل قولنا: فكما روينا من طريق بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبان بن عثمان عن أبيه عثمان قال: ليس لمجنون، ولا لسكران طلاق.
وقد روينا رجوع الزهري، وعمر بن عبد العزيز إلى هذا.
ومن طريق وكيع عن رباح بن أبي معروف عن عطاء بن أبي رباح قال: طلاق السكران لا يجوز.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاووس عن أبيه: لا يجوز طلاق السكران. وصح عن القاسم بن محمد أنه لا يجوز طلاقه، وأنه لا يقطع إن سرق إلا أن يكون معروفا بالسرقة.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا هشيم، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري أن عمر بن عبد العزيز أتي بسكران طلق امرأته، فاستحلفه بالذي لا إله إلا هو لقد طلقها وهو لا يعقل فحلف، فرد إليه امرأته وضربه الحد قال يحيى بن سعيد: وبهذا يقول القاسم بن محمد بن أبي بكر. وصح عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وحميد بن عبد الرحمن. ورويناه عن ربيعة.
وهو قول عبيد الله بن الحسن، والليث بن سعد. وأحد قولي الشافعي، وقول إسحاق بن راهويه، وأبي ثور، والمزني، وأبي سليمان، وجميع أصحابهم.
وبه يقول أبو جعفر الطحاوي، وأبو الحسن الكرخي من شيوخ الحنفيين وقال عثمان البتي: لا يلزمه عقد، ولا بيع، ولا حد إلا حد الخمر فقط، وإن زنى وقذف وسرق وقال الليث: لا يلزمه طلاق، ولا بيع، ولا نكاح، ولا عتق، ولا شيء بقوله.
وأما ما عمل ببدنه من قتل، أو سرقة، أو زنى، فإنه يقام عليه كل ذلك
فنظرنا فيما يحتج به من خالف قولنا فوجدناهم يقولون: هو أدخل على نفسه ذهاب عقله بمعصيته لله عز وجل .
فقلنا: فكان ماذا ومن أين وجب إذا أدخل ذلك على نفسه أن يؤاخذ بما يجني في ذهاب عقله وهذا ما لا يوجد في قرآن، ولا سنة، ولا خلاف بينكم فيمن تردى ليقتل نفسه عاصيا لله عز وجل، فسلمت نفسه إلا أنه سقط على رأسه ففسد عقله، وفيمن حارب وأفسد الطريق فضرب في رأسه ففسد عقله أنه لا يلزمه شيء مما يلزم الأصحاء وهو الذي أدخل على نفسه الجنون بأعظم المعاصي. ثم لا يختلفون فيمن أمسكه قوم عيارون فضبطت يداه ورجلاه، وفتح فمه بكلوب وصب فيه الخمر حتى سكر أنه مؤاخذ بطلاقه وهو لم يدخل على نفسه شيئا، ولا عصى: فظهر فساد اعتراضهم. وموهوا بالأخبار التي فيها ثلاث هزلهن جد وليس فيها على سقوطها للسكران ذكر، ولا دليل عليه. واحتجوا بالخبر الموضوع لا قيلولة في الطلاق ولو صح هذا لكان ذلك في طلاق من طلاقه طلاق ممن يعقل كما يقولون في طلاق الصبي والمجنون. وبالخبر الكاذب: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه.
قال أبو محمد: قد بينا سقوطه آنفا في باب " طلاق المكره ". ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة، لأنهم لا يجيزون طلاق من لم يبلغ وليس بمعتوه.
وأما السكران الذي لا يدري ما يتكلم به فهو معتوه بلا شك، لأن المعتوه في اللغة: هو الذي لا عقل له، ومن لا يدري ما يتكلم به، فلا عقل له، فهو معتوه بأي وجه كان. وقالوا: قد روي عن علي، وعبد الرحمن بحضرة الصحابة، إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وإذا افترى: جلد ثمانين.
قال أبو محمد: وهذا خبر مكذوب قد نزه الله تعالى عليا، وعبد الرحمن عنه، لأنه لا يصح إسناده، ثم عظيم ما فيه من المناقضة، لأن فيه إيجاب الحد على من هذى، والهاذي لا حد عليه. وهلا قلتم: إذا هذى كفر، وإذا كفر قتل وقالوا: بنفس السكر يجب عليه الحد، فالطلاق كذلك.
قلنا: كذبتم ما وجب قط بالسكر حد، لكن بقصده إلى شرب ما يسكر كثيره فقط، سواء سكر أو لم يسكر.
برهان ذلك: أن من سكر ممن أكره على شربها لا حد عليه. وقالوا: هو مخاطب بالصلاة فطلاقه لازم له.
قلنا: كذبتم، بل نص القرآن يبين أنه غير مخاطب بالصلاة، بل هو منهي عنها حتى يدري ما يقول. وقالوا: لو كان ذلك لكان من شاء قتل عدوه سكر فقتله، ومن يدري أنه سكران.
فقلنا: فقولوا إذا بإقامة الحدود على المجانين، لأنه لو سقط عنهم الحد لكان من شاء قتل عدوه تحامق، ومن يدري أنه أحمق لكن نقول: لا يخفى السكران من المتساكر، ولا الأحمق من المتحامق. ومما يوضح صحة قولنا يقينا: الخبر الثابت الذي رويناه من طريق البخاري، حدثنا عبدان، وأحمد بن صالح قال عبدان :، حدثنا عبد الله بن المبارك وقال أحمد :، حدثنا عنبسة، كلاهما أخبره يونس بن يزيد عن الزهري أخبرني علي بن الحسين أن الحسين بن علي أخبره أن عليا قال في حديث طويل، قال: فطفق رسول الله ﷺ يلوم حمزة فيما فعل: يعني إذ عقر شارفي علي وهو يشرب مع قوم من الأنصار، قال علي: فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه فقال له حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي فعرف رسول الله ﷺ أنه ثمل فنكص عليه الصلاة والسلام على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه. فهذا حمزة رضي الله عنه يقول وهو سكران ما لو قاله غير سكران لكفر، وقد أعاذه الله من ذلك.
فصح أن السكران غير مؤاخذ بما يفعل جملة.
وأما من فرق فلم يلزمه الردة، وألزمه غير ذلك، فمتناقض القول، باطل الحكم بيقين لا إشكال فيه وبالله تعالى التوفيق.
1973 - مسألة : واليمين بالطلاق لا يلزم سواء بر أو حنث لا يقع به طلاق، ولا طلاق إلا كما أمر الله عز وجل، ولا يمين إلا كما أمر الله عز وجل على لسان رسوله ﷺ .
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وجميع المخالفين لنا هاهنا لا يختلفون في أن اليمين بالطلاق، والعتاق والمشي إلى مكة، وصدقة المال فإنه لا كفارة عندهم في حنثه في شيء منه إلا بالوفاء بالفعل، أو الوفاء باليمين. فصح بذلك يقينا أنه ليس شيء من ذلك يمينا، إذ لا يمين إلا ما سماه الله تعالى يمينا. وقول رسول الله ﷺ الذي رويناه من طريق أبي عبيد نا إسماعيل بن جعفر، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال: من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله فارتفع الإشكال في أن كل حلف بغير الله عز وجل فإنه معصية وليس يمينا. وهذا مكان اختلف فيه فصح: عن الحسن فيمن قال لأمرأته: أنت طالق إن لم أضرب غلامي، فأبق الغلام قال: هي امرأته ينكحها ويتوارثان حتى يفعل ما قال، فإن مات الغلام قبل أن يفعل ما قال فقد ذهبت منه امرأته.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن مطر الوراق عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب في رجل طلق امرأته إن لم يفعل كذا قال: لا يقرب امرأته حتى يفعل ما قال، فإن مات قبل أن يفعل فلا ميراث بينهما. وصح خلاف هذا عن طائفة من السلف.
كما روينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عطاء في رجل قال لأمرأته: أنت طالق إن لم أتزوج عليك قال: إن لم يتزوج عليها حتى تموت أو يموت توارثا.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن غيلان بن جامع عن الحكم بن عتيبة قال في الرجل يقول لأمرأته: أنت طالق إن لم أفعل كذا ثم مات أحدهما قبل أن يفعل فإنهما يتوارثان قال سفيان الثوري: إنما وقع الحنث بعد الموت.
قال أبو محمد: هذا عجب ميت يحنث بعد موت
وقد تقصينا هذا في " كتاب الأيمان " من كتابنا هذا. وممن روي عنه مثل قولنا:
كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن رجلا تزوج امرأة وأراد سفرا فأخذه أهل امرأته، فجعلها طالقا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء فلما قدم خاصموه إلى علي
فقال علي: اضطهدتموه حتى جعلها طالقا، فردها عليه.
ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن شريح: أنه خوصم إليه في رجل طلق امرأته إن أحدث في الإسلام حدثا فاكترى بغلا إلى حمام أعين فتعدى به إلى أصبهان فباعه واشترى به خمرا فقال شريح: إن شئتم شهدتم عليه أنه طلقها فجعلوا يرددون عليه القصة ويردد عليهم فلم يره حدثا
قال أبو محمد: لا متعلق لهم بما روي من قول علي رضي الله عنه اضطهدتموه، لأنه لم يكن هنالك إكراه، إنما طالبوه بحق نفقتها فقط فإنما أنكر على اليمين بالطلاق فقط ولم يرد الطلاق يقع بذلك وكذلك لا متعلق لهم بما في خبر شريح من قول أحد من رواه فلم يره حدثا فإنما هو ظن من محمد بن سيرين، أو من هشام بن حسان وهو ظن خطأ أو ما نعلم في الإسلام أكثر ممن تعدى من " حمام أعين " وهو على أميال يسيرة دون العشرة من الكوفة إلى أصبهان، وهي أيام كثيرة من الكوفة، ثم باع بغل مسلم ظلما واشترى بالثمن خمرا.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني ابن طاووس عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئا، قلت: كان يراه يمينا قال: لا أدري فهؤلاء: علي بن أبي طالب، وشريح، وطاووس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة، رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين، كل ذلك لا يلزم وبالله تعالى التوفيق. ولا يكون طلاقا إلا كما أمر الله تعالى به وعلمه، وهو القصد إلى الطلاق وأما ما عدا ذلك فباطل، وتعد لحدود الله عز وجل.
وقد ذكرنا قول عطاء فيمن حلف بطلاق امرأته ثلاثا إن لم يضرب زيدا فمات زيد أو مات هو: أنه لا طلاق عليه أصلا، وأنه يرث امرأته إن ماتت، وترثه إن مات
وهو قول أبي ثور. وقال سفيان: الطلاق يقع بعد الموت وهذا خطأ ظاهر.
وقال الشافعي: الطلاق يقع عليه والحنث في آخر أوقات الحياة وهذه دعوى بلا برهان.
وقال مالك: يوقف عن امرأته، وهو على حنث حتى يبر وهذا كلام فاسد، لأنه إن كان على حنث فهو حانث فيلزمه أن تطلق عليه امرأته، أو أن تلزمه الكفارة باليمين بالله، وإلا فليس حانثا، وإذا لم يكن حانثا فهو على بر لا بد من أحدهما، ولا سبيل إلى حال ثالثة للحالف أصلا.
فصح أن قوله " هو على حنث " كلام لا يعقل وبالله تعالى التوفيق. وليت شعري لأي شيء يوقف عن امرأته، ولا تخلو من أحد وجهين: إما أن تكون حلالا فلا يحل توقفه عن الحلال. أو تكون حراما فلا تحرم عليه إلا بالحنث فليطلقها عليه.
ثم نقول لهم: من أين أجزتم الطلاق بصفة ولم تجيزوا النكاح بصفة والرجعة بصفة كمن قال: إذا دخلت الدار فقد راجعت زوجتي المطلقة أو قال: فقد تزوجتك وقالت هي مثل ذلك، وقال الولي مثل ذلك، ولا سبيل إلى فرق وبالله تعالى التوفيق.