→ كتاب الطلاق (مسألة 1954 - 1958) | ابن حزم - المحلى كتاب الطلاق (مسألة 1959 - 1961) ابن حزم |
كتاب الطلاق (مسألة 1962) ← |
كتاب الطلاق
1959 - مسألة: فلو رغب المطلق ثلاثا إلى من يتزوجها ويطؤها ليحلها له فذلك جائز إذا تزوجها بغير شرط لذلك في نفس عقده لنكاحه إياها، فإذا تزوجها فهو بالخيار إن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها، فإن طلقها حلت للأول، فلو شرط في عقد نكاحها أنه يطلقها إذا وطئها، فهو عقد فاسد مفسوخ أبدا، ولا تحل له به، ولا فرق بين هذا وبين ما ذكرنا قبل في كل نكاح فاسد.
قال أبو محمد: وقال بعض القائلين: لا تكون حلالا إلا بنكاح رغبة لا ينوي به تحليلها للذي طلقها. واحتجوا في ذلك بأثر رويناه من طريق أحمد بن شعيب، حدثنا عمرو بن منصور نا أبو نعيم هو الفضل بن دكين عن سفيان الثوري عن أبي قيس هو عبد الرحمن بن ثروان عن هذيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: ولعن رسول الله ﷺ الواشمة، والمستوشمة، والواصلة، والموصولة وآكل الربا ومؤكله، والمحل والمحلل له. وهذا خبر لا يصح في هذا الباب سواه، ثم آثار بمعناه إلا أنها هالكة إما من طريق الحارث الأعور الكذاب، أو من طريق إسحاق الفروي، ولا خير فيه.
قال أبو محمد: اختلف الناس في المحلل الآثم الملعون، والمحلل له الآثم الملعون، من هما فروينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر قال: قال عمر بن الخطاب: لا أوتى بمحل، ولا بمحلل إلا رجمته.
ومن طريق ابن وهب أخبرني يزيد بن عياض بن جعدبة أنه سمع نافعا يقول: إن رجلا سأل ابن عمر عن التحليل فقال له ابن عمر: عرفت عمر بن الخطاب لو رأى شيئا من ذلك لرجم فيه.
قال أبو محمد: يزيد بن عياض بن جعدبة كذاب مذكور بوضع الحديث. وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الله بن شريك العامري، قال: سمعت ابن عمر يسأل عمن طلق امرأته ثم ندم، فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له فقال له ابن عمر: كلاهما زان، ولو مكثا عشرين سنة.
ومن طريق وكيع عن أبي غسان المدني عن عمر بن نافع عن أبيه: أن رجلا سأل ابن عمر عمن طلق امرأته ثلاثا فتزوجها هذا السائل عن غير مؤامرة منه، أتحل لمطلقها قال ابن عمر: لا، إلا بنكاح رغبة، كنا نعده سفاحا على عهد رسول الله ﷺ .
ومن طريق ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن محمد بن عبد الرحمن المرادي أنه سمع أبا مرزوق التجيبي يقول: إن رجلا طلق امرأته ثلاثا ثم ندما، وكان له جار فأراد أن يحلل بينهما بغير علمهما، فسألت عن ذلك عثمان فقال له عثمان: لا، إلا بنكاح رغبة، غير مدالسة.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث عن عبد الله بن مسعود، قال: آكل الربا ومؤكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به، والواصلة، والمستوصلة ولاوي الصدقة، والمعتدي، والمرتد أعرابيا بعد هجرته، والمحلل له: ملعونون على لسان محمد ﷺ يوم القيامة.
ومن طريق عبد الرزاق عن هشيم عن خالد الحذاء عن مروان الأصفر عن أبي رافع قال: سئل عثمان، وعلي، وزيد بن ثابت: عن الأمة، هل يحلها سيدها لزوجها إذا كان لا يريد التحليل يعني: إذا بت طلاقها فقال عثمان، وزيد: نعم، فقام علي غضبان وكره قولهما. وعن علي: لعن المحلل والمحلل له
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري، ومعمر، كلاهما: عن الأعمش عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس: أن رجلا سأل عمن طلق امرأته، كيف ترى في رجل يحلها له فقال ابن عباس: من يخادع الله يخدعه. وصح عن قتادة، والحسن، والنخعي، قالوا: إن نوى واحد من الناكح، أو المنكح أو المرأة التحليل، فلا يصلح، فإن طلقها فلا تحل للذي طلقها، ويفرق بينهما إذا كان نكاحه على وجه التحليل.
وروي عن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال: اتق الله، ولا تكن مسمار نار في حدود الله و، أنه قال: كان المسلمون يقولون: هو التيس المستعار وعن سعيد بن جبير: المحلل ملعون.
وروي أيضا عن سعيد بن المسيب، وطاووس.
وروينا ذلك من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أيضا.
ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم أنا مغيرة، ويونس بن عبيد، قال مغيرة عن إبراهيم وقال يونس عن الحسن ثم ذكره نصا كما أوردناه. وقال سفيان الثوري: إن تزوجها ليحلها للذي طلقها فأعجبته قال سفيان: يجدد نكاحا.
وقال مالك: إن نوى الزوج الثاني أن يتزوجها ليحلها للأول فهو نكاح فاسد مفسوخ، ولها عليه المهر الذي سمي لها، ولا تحل بوطئه للأول. وذهب آخرون إلى إجازة ذلك.
كما روينا من طريق عبد الرزاق عن هشام، هو ابن حسان عن محمد بن سيرين، قال: أرسلت امرأة إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها فأمره عمر بن الخطاب أن يقيم عليها، ولا يطلقها، وأوعده أن يعاقبه إن طلقها.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يرى بأسا بالتحليل إذا لم يعلم أحد الزوجين به. وقال الليث بن سعد: إن تزوجها ثم فارقها لترجع إلى زوجها ولم يعلم المطلق، ولا هي بذلك، وإنما كان ذلك منه احتسابا فلا بأس بأن ترجع إلى الأول، فإن بين الثاني ذلك للأول بعد دخوله بها لم يضره ذلك.
وهو قول سالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر. وصح عن عطاء فيمن نكح امرأة عامدا محللا ثم رغب فيها فأمسكها قال: لا بأس بذلك:
وروينا عن الشعبي: لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج.
وبه يقول الشافعي، وأبو ثور، قالا جميعا: المحلل الذي يفسد نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح أنه إنما يتزوجها ليحلها ثم يطلقها
فأما من لم يشترط ذلك عليه في عقد النكاح فهو عقد صحيح لا داخلة فيه، سواء شرط ذلك عليه قبل العقد أو لم يشترط نوى ذلك في نفسه أو لم ينوه قال أبو ثور: وهو مأجور.
وأما أبو حنيفة، وأصحابه: فروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي سواء سواء.
وروي أيضا عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه إذا نوى الثاني تحليلها للأول لم تحل له بذلك.
وهو قول أبي يوسف، ومحمد.
وروي عن زفر بن الهذيل، وأبي حنيفة: أنه وإن اشترط عليه في نفس العقد أنه إنما يتزوجها ليحلها للأول، فإنه نكاح صحيح، ويحصنان به ويبطل الشرط، وله أن يمسكها، فإن طلقها حلت للأول.
وروي ذلك عن زفر عن أبي حنيفة، والحسن بن زياد.
قال أبو محمد: أما احتجاج المالكيين بمن ذكرنا من الصحابة، رضي الله عنهم، فهو كله عليهم لا لهم. أما عمر فلم يأت عنه بيان من هو المحلل الملعون الذي يستحق الرجم فليسوا أولى به من غيرهم ثم قد خالفوا عمر في ذلك فلا يرون فيه الرجم. ثم قد أوردنا عن عمر إجازة طلاق المحلل فبطل تعلقهم به.
وكذلك الرواية عن علي، وابن مسعود ليس فيها " عنهما " أي المحللين هو الملعون ونحن نقول: إن الملعون هو الذي يعقد نكاحه معلنا بذلك فقط.
وأما عثمان، وزيد فهم مخالفون لهما في تلك الفتيا بعينها في أن وطء السيد بملك اليمين يحللها للذي بتها، ومن الباطل أن يحتج بقولهم في موضع، ولا يحتج به في آخر هذا تلاعب بالدين.
وأما ابن عمر فقد خالفوه في أنه زنى.
وأما ابن عباس فليس عنه بيان أن النكاح فاسد، ولا أنها لا تحل به، وكم قضية خالفوا فيها ابن عباس مع أنه لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ .
وأما الخبر عن رسول الله ﷺ بأنه لعن المحلل والمحلل له، فنعم، كل ما قاله عليه الصلاة والسلام فهو حق، إلا أننا وجميع خصومنا لا نختلف في أن هذا اللفظ منه عليه الصلاة والسلام ليس عموما لكل محل، ولكل محلل له،
ولو كان ذلك وأعوذ بالله، وقد أعاذنا الله تعالى من ذلك للعن كل واهب وكل موهوب له، وكل بائع وكل مبتاع له، وكل ناكح وكل منكح، لأن هؤلاء كلهم محلون لشيء كان حراما ومحلل لهم أشياء كانت حراما عليهم، هذا ما لا شك فيه. فصح يقينا أنه عليه الصلاة والسلام إنما أراد بعض المحلين وبعض المحلل لهم، فإذا هذا كالشمس وضوحا ويقينا لا يمكن سواه فلا يحل لمسلم أن ينسب إليه عليه الصلاة والسلام أنه أراد أمر كذا إلا بيقين من نص وارد لا شك فيه، وإلا فهو كاذب على رسول الله ﷺ ومقول له ما لم يقله، ومخبر عنه بالباطل، فإذا هذا كله يقين فالمحل الملعون، والمحلل له كذلك: إنما هما بلا شك من أحل حراما لغيره بلا نص. ثم نظرنا: هل يدخل في ذلك من تزوج وفي نيته أن يحلها لمطلقها ثلاثا، أم لا يدخل فوجدنا كل من يتزوج مطلقة ثلاثا فإنه بوطئه لها محل والمطلق محلل له نوى ذلك أو لم ينوه فبطل أن يكون داخلا في هذا الوعيد، لأنه حتى إن اشترط ذلك عليه قبل العقد فهو لغو من القول ولم ينعقد النكاح إلا صحيحا بريا من كل شرط، بل كما أمر الله عز وجل؛
وأما بنيته لذلك: فقد قلنا فيها الآن ما كفى. والعجب أن المخالفين لنا يقولون فيمن تزوج امرأة وفي نيته أن لا يمسكها إلا شهرا ثم يطلقها، إلا أنه لم يذكر ذلك في عقد النكاح، فإنه نكاح صحيح لا داخلة فيه، وهو مخير إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها، وأنه لو ذكر ذلك في نفس العقد لكان عقدا فاسدا مفسوخا فأي فرق بين ما أجازوه، وبين ما منعوا منه، وليس هذا قياسا لأحد الناكحين على صاحبه، لكنه كله باب واحد يبين حكمه قول رسول الله ﷺ الذي قد ذكرناه بإسناده: عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يخرج ذلك بقول أو عمل لا سيما وقد جاء في ذلك الخبر الثابت عنه عليه الصلاة والسلام من قوله للتي طلقها رفاعة القرظي وتزوجها عبد الرحمن بن الزبير أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فلم يجعل عليه الصلاة والسلام إرادتها الرجوع إلى الذي طلقها ثلاثا مانعا من رجوعها إذا وطئها الثاني فصح بذلك قولنا، وبقي قولهم وتأويلهم عاريا من كل
برهان ودعوى لا حجة على صحتها. وصح أن المحلل الملعون هو الذي يتزوجها ببيان أنه إنما يتزوجها ليحلها ثم يطلقها، ويعقدان النكاح على هذا فهذا حرام مفسوخ أبدا، لأنهما تشارطا شرطا يلتزمانه ليس في كتاب الله تعالى إباحة التزامه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. وصح أن كل عقد نكاح أو غيره عقد على أن لا صحة له إلا بصحة ما لا صحة له فهو باطل لا صحة له وبالله تعالى نتأيد.
فإن ذكروا: ما حدثناه أحمد بن قاسم، حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، حدثنا جدي قاسم بن أصبغ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي، حدثنا جدي قاسم بن أصبغ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل الفروي عن داود حدثني عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ سئل عن المحلل فقال لا نكاح إلا نكاح رغبة، لا نكاح إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا مستهزئ بكتاب الله تعالى، ثم تذوق العسيلة. فهذا حديث موضوع، لأن إسحاق بن محمد الفروي ضعيف جدا متروك الحديث ثم عن إبراهيم بن إسماعيل وهو بلا شك أما ابن مجمع،
وأما ابن أبي حبيبة كلاهما أنصاري مدني ضعيف لا يحتج بهما. ثم لو صح لم يكن فيه علينا حجة، لأنهم لا يأتوننا بأي المحللين أراد عليه السلام وقد بينا قيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يرد كل محلل، وإنما في هذا الخبر أنه لا نكاح إلا نكاح رغبة وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم كما أمر الله عز وجل: {حتى تنكح زوجا غيره} وهو زوج غيره بلا شك. وكما بين عليه الصلاة والسلام حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة الآخر فهو إذا وطئها قد ذاق كل واحد عسيلة الآخر. وفيه: لا نكاح دلسة وليس هذا نكاح دلسة إنما الدلسة: أن يدلس له بغير التي تزوج أو الذي يتزوج، لا رغبة في نكاح، لكن ليضر بها في نفسها أو مالها، وهم يبيحون نكاح من لا تنكح إلا لمالها أو لحسبها أو لوجاهة أبيها أو أخيها، لا رغبة فيها، وهذا تناقض منهم. وفيه: ولا مستهزئ بكتاب الله عز وجل وهذان ليس منهم أحد مستهزئا بكتاب الله عز وجل، بل كل واحد منهم طائع لكتاب الله عز وجل، عاملون به ممتنعون من خلافه، إذ قصدوا ما لا يحل له مراجعتها إلا بما أمر الله تعالى به، إنما المستهزئ بكتاب الله عز وجل من يخالف ما فيه، أو لو تزوجها قبل زوج.
فصح أن هذا الخبر على سقوطه عليهم لا لهم. وخبر آخر: رويناه من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج ومعمر أن ابن شهاب أخبرهما عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها أخبرته بخبر امرأة رفاعة القرظي إذ طلقها ثلاثا، وذكرها للنبي ﷺ أنه ليس معه إلا مثل هدبة من ثوبها وقوله عليه الصلاة والسلام: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
ثم روينا عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أتت امرأة إلى النبي ﷺ فعقدت، ثم جاءته بعد فأخبرته: أنه قد مسها، فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول، وقال: اللهم إن كان إنما بها أن يحلها لرفاعة لا يتم له نكاحها مرة أخرى، ثم أتت أبا بكر، وعمر في خلافتهما فمنعاها.
قال أبو محمد: فهذه حجة قاطعة لنا عليهم، لأن فيه: أن رسول الله ﷺ لم يبطل نكاحها لعبد الرحمن مع تقديره أنه إنما يريد إحلالها لرفاعة، لكن لما أنكرت أن عبد الرحمن وطئها، ثم لما علمت أنها لا تحل له إلا بعد أن يطأها عبد الرحمن رجعت عن ذلك الإنكار، وأقرت بأنه وطئها. وقوله عليه الصلاة والسلام: إن كان إنما بها أن يحلها لرفاعة فلا يتم له نكاحها مرة أخرى، إنما هو بلا شك أنه لا يتم لرفاعة نكاحها مرة أخرى. والمالكيون لا يختلفون إذا لم تكن نية الزوج الثاني إحلالها للأول وكانت هي لم تنو قط بزواجها إياه إلا لتحليلها للأول، فإنها تحل بذلك العقد وبالوطء فيه وهذا خلاف لهذا الخبر بيقين. وإنما في هذا الخبر: أنها لا تصدق إذا أنكرت مس الثاني لها، ثم علمت أنها لا تحل له إلا بوطئه إياها، فأقرت بأنه وطئها وبهذا نقول: إنها لا تصدق، إلا حتى يجتمع إقرارها وإقرار الزوج بالوطء، أو تقوم بوطئه لها بينة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ولو أخذ لذلك أجرة فهي أجرة حرام، فرض ردها.
قال أبو محمد: وما نعلم لمن خالف قولنا حجة أصلا، لا من قرآن، ولا سنة صحيحة، ولا سقيمة، ولا قياس، ولا سيما قول مالك الذي خص نية الزوج الثاني دون نيتها، ودون نية المطلق.
1960 - مسألة: لا يقع طلاق إلا بلفظ من أحد ثلاثة ألفاظ: إما الطلاق، وأما السراح، وأما الفراق. مثل أن يقول: أنت طالق، أو يقول: مطلقة، أو قد طلقتك أو أنت طالقة، أو أنت الطلاق أو أنت مسرحة، أو قد سرحتك، أو أنت السراح أو أنت مفارقة، أو قد فارقتك، أو أنت الفراق. هذا كله إذا نوى به الطلاق، فإن قال في شيء من ذلك كله: لم أنو الطلاق، صدق في الفتيا، ولم يصدق في القضاء في الطلاق، وما تصرف منه، وصدق في سائر ذلك في القضاء أيضا.
برهان ذلك: قوله عز وجل: {ثم طلقتموهن}.
وقوله تعالى: {فطلقوهن وللمطلقات متاع}.
وقوله تعالى: {وسرحوهن سراحا جميلا}.
وقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}.
وقوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}. وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته. لم يذكر الله تعالى حل الزوج للزوجة إلا بهذه الألفاظ، فلا يجوز حل عقدة عقدت بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ إلا بما نص الله عز وجل عليه: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}.
وأما قولنا: إن نوى مع ذلك الطلاق فلقول رسول الله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
وأما تفريقنا بين ألفاظ الطلاق، فلم يوجب أن يراعى قوله فيها: لم أنو الطلاق في القضاء خاصة وراعينا ذلك في ألفاظ " السراح، والفراق " فلأن لفظة " الطلاق " وما تصرف منها لا يقع في اللغة التي خاطبنا الله، عز وجل، بها في أحكام الشريعة إلا على عقد الزواج فقط، لا معنى آخر ألبتة، فلا يجوز أن يصدق في دعواه في حكم قد ثبت بالبينة عليه وفي إسقاط حقوق وجبت يقينا للمرأة بالطلاق قبله. وراعينا دعواه تلك في الفتيا، لأنه قد يريد لفظا آخر فيسبقه لسانه إلى ما لم يرده، فإذا لم يعرف ذلك إلا بقوله، فقوله كله مقبول لا يجوز أخذ بعضه وإسقاط بعضه.
وأما " السراح، والفراق " فإنهما تقع في اللغة التي بها خاطبنا الله، عز وجل، في شرائعه على حل عقد النكاح، وعلى معان أخر وقوعا مستويا ليس معنى من تلك المعاني أحق بتلك اللفظة من سائر تلك المعاني، فيكون: أنت مسرحة، أي: أنت مسرحة للخروج إذا شئت، وبقوله قد فارقتك، وأنت مفارقة، في شيء مما بينهما ما لم توافقه فيه. فلما كان ذلك كذلك لم يجز أن يحكم بحل عقد صحيح بكلمة الله عز وجل بغير يقين ما يوجب حلها وبالله تعالى التوفيق.
1961- مسألة: وما عدا هذه الألفاظ فلا يقع بها طلاق ألبتة نوى بها طلاقا أو لم ينو لا في فتيا، ولا في قضاء: مثل: الخلية، والبرية، وأنت مبرأة، وقد بارأتك، وحبلك على غاربك، والحرج، وقد وهبتك لأهلك، أو لمن يذكر غير الأهل، والتحريم، والتخيير، والتمليك. وهذه ألفاظ جاءت فيها آثار مختلفة الفتيا عن نفر من الصحابة، رضي الله عنهم، ولم يأت فيها عن رسول الله ﷺ شيء أصلا، ولا حجة في كلام غيره عليه الصلاة والسلام، لا سيما في أقوال مختلفة ليس بعضها أولى من بعض.
فأما التحريم، والتخيير، والتمليك، وقد وهبتك فقد ذكرناها قبل ونذكر ههنا إن شاء الله عز وجل ما يسر لنا من أقوال السلف في سائر الألفاظ التي لم نذكرها قبل. ههنا أيضا ألفاظ جاءت فيها آثار عن النبي ﷺ وهي: البائن، وألبتة، واعتدي، وألحقي بأهلك وأمرك بيدك.
فأما أمرك بيدك فقد ذكرناه قبل فلا بد من ذكر الآثار التي جاءت في سائر هذه الألفاظ وبيان حكمها إن شاء الله عز وجل. ههنا أيضا ألفاظ لم يأت في شيء منها أثر عن النبي ﷺ لا صحيح، ولا سقيم، ولا عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، ولكن جاءت فيها فتاوى مختلفة عن نفر من التابعين، فنذكر إن شاء الله عز وجل من ذلك ما يسر الله تعالى لنا ذكره.
وأما الألفاظ التي لم يأت فيها أثر لا عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين رحمهم الله وإنما جاءت فيها فتاوى عن فقهاء الأمصار بآرائهم، فلا معنى للأشتغال بها، لأنه لا يستحل تفريق نكاح مسلم، وإباحة فرج مسلمة لغير من أباحه الله تعالى له إلا مقلد ضال بتقليده، مستهلك هالك ونعوذ بالله من الخذلان.