→ بقية كتاب النكاح (مسألة 1875 - 1880) | ابن حزم - المحلى بقية كتاب النكاح (مسألة 1881 - 1887) ابن حزم |
بقية كتاب النكاح (مسألة 1888 - 1889) ← |
بقية كتاب النكاح
أحكام الخطبة وآدابها
1881 - مسألة: ومن أراد أن يتزوج امرأة حرة أو أمة، فله أن ينظر منها متغفلا لها وغير متغفل إلى ما بطن منها وظهر، ولا يجوز ذلك في أمة يريد شراءها. ولا يجوز له أن ينظر منها إلا إلى الوجه والكفين فقط، لكن يأمر امرأة تنظر إلى جميع جسمها وتخبره.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} فافترض الله عز وجل غض البصر جملة، كما افترض حفظ الفرج، فهو عموم لا يجوز أن يخص منه إلا ما خصه نص صحيح، وقد خص النص نظر من أراد الزواج فقط.
كما روينا من طريق أبي داود، حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن واقد بن عبد الرحمن، هو ابن سعد بن معاذ عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل قال جابر فخطبت امرأة من بني سلمة فكنت أتخبأ تحت الكرب حتى رأيت منها بعض ما دعاني إليها. وقد رويناه أيضا من طرق صحاح: من طريق أبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، فكان هذا عموما مخرجا لهذه الحال من جملة ما حرم من غض البصر.
وأما النظر إلى الجارية يريد ابتياعها فلا نص في ذلك عن رسول الله ﷺ ولا حجة فيما جاء عن سواه. وقد اختلف الناس في ذلك: فصح، عن ابن عمر إباحة النظر إلى ساقها وبطنها وظهرها، ويضع يده على عجزها وصدرها ونحو ذلك عن علي، ولم يصح عنه. وصح عن أبي موسى الأشعري إباحة النظر إلى ما فوق السرة ودون الركبة.
وروي عن سعيد بن المسيب.
وروينا عن الأسود بن يزيد: أنه لم يستجز النظر إلى ساقها.
قال أبو محمد: فبقي أمر الأبتياع على وجوب غض البصر.
وأما الوجه والكفان: فقد جاء فيهما الخبر المشهور الذي أوردناه في غير هذا المكان من أمر الخثعمية التي سألت رسول الله ﷺ عن الحج عن أبيها، وأن الفضل بن العباس جعل ينظر إلى وجهها، فجعل رسول الله ﷺ يصرف وجه الفضل عنها، ولم يأمرها بستر وجهها
ففي هذا إباحة النظر إلى وجه المرأة لغير اللذة.
وأما الكفان: فروينا من طريق مسلم، حدثنا عبد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن عدي، هو ابن ثابت عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خرج يوم أضحى أو فطر، فصلى ركعتين ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي خرصها وتلقي سخابها.
ومن طريق أبي داود، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، ومحمد بن بكر، قالا جميعا: نا ابن جريج أخبرني عطاء قال: " سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله ﷺ خرج يوم الفطر فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب ثم نزل فأتى النساء فذكرهن وبلال باسط ثوبه يلقين فيه النساء صدقة، تلقي المرأة فتخها.
وقال أبو محمد: الفتخ خواتم كبار كن يحبسنها في أصابعهن، فلولا ظهور أكفهن ما أمكنهن إلقاء الفتخ.
1882 - مسألة: ولا يحل لأحد أن ينظر من أجنبية لا يريد زواجها أو شراءها إن كانت أمة لتلذذ إلا لضرورة، فإن نظر في الزنا إلى الفرجين ليشهد بذلك فمباح له، لأنه مأمور بأداء الشهادة، قال عز وجل: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} ولا سبيل لهم إلى أداء الشهادة في الزنا إلا بصحة النظر إلى الفرجين والتثبت في ذلك.
وأما في غير ذلك، فالوجه والكفان كما قدمنا آنفا عند الشهادة عليها أو لها أو منها. وجائز لذي المحرم أن يرى جميع جسم حريمته، كالأم، والجدة، والبنت، وابنة الأبن، والخالة، والعمة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وامرأة الأب، وامرأة الأبن، حاشا الدبر والفرج فقط.
وكذلك النساء بعضهن من بعض.
وكذلك الرجال بعضهم من بعض.
برهان ذلك: قول الله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} الآية. فذكر الله عز وجل في هذه الآية: زينتهن زينة ظاهرة تبدى لكل أحد وهي الوجه والكفان على ما بينا فقط، وزينة باطنة حرم عز وجل إبداءها إلا لمن ذكر في الآية. ووجدناه تعالى قد ساوى في ذلك بين البعولة، والنساء، والأطفال، وسائر من ذكرنا في الآية. وقد أوضحنا في " كتاب الصلاة " أن المرأة كلها عورة إلا الوجه والكفين، فحكم العورة سواء فيما ذكرنا، إلا ما لا خلاف فيه من أنه لا يحل لغير الزوج النظر إليه من الفرج والدبر. ولم نجد لا في قرآن، ولا سنة، ولا معقول: فرقا بين الشعر، والعنق، والذراع، والساق، والصدر، وبين البطن، والظهر، والفخذ إلا أنه لا يحل لأحد أن يتعمد النظر إلى شيء من امرأة لا يحل له: لا الوجه، ولا غيره، إلا لقصة تدعو إلى ذلك لا يقصد منها منكر بقلب أو بعين.
وقد روينا عن طاووس كراهة نظر الرجل إلى شعر ابنته، وأمه، وأخته، ولا يصح عن طاووس، وصح عن إبراهيم: أن لا ينظر من ذات المحرم إلا إلى ما فوق الصدر وهذا تحديد لا برهان على صحته، وليس هذا مكان رأي، ولا استحسان، لأن المخالفين لنا ههنا بأهوائهم لا يختلفون في أنه لا يحل النظر إلى زينة شعر العجوز السوداء الحرة، ولعل النظر إليها يقذي العين، ويميت تهييج النفس. ويجيزون النظر لغير لذة إلى وجه الجارية الجميلة الفتاة ويديها وقد صح في ذلك: ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، هو ابن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: إن أم عطية أم المؤمنين استأذنت رسول الله ﷺ في الحجامة، فأذن لها، فأمر رسول الله ﷺ أبا طيبة أن يحجمها قال: حسبت أنه كان أخاها من الرضاعة، أو غلاما لم يحتلم.
قال أبو محمد: هذا خبر في غاية الصحة، لأنه من رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر.
وقد روينا بأصح طريق: أن كل ما رواه الليث عن أبي الزبير عن جابر، فإن أبا الزبير أخبره أنه سمعه عن جابر.
وأما قول الراوي: حسبت أنه كان أخاها من الرضاعة أو غلاما لم يحتلم فإنما هو ظن من بعض رواة الخبر ممن دون جابر. ثم هو أيضا ظن غير صادق، لأن أم سلمة رضي الله عنها ولدت بمكة، وبها ولدت أكثر أولادها. وأبو طيبة: غلام لبعض الأنصار بالمدينة، فمحال أن يكون أخاها من الرضاعة، وكان عبدا مضروبا عليه الخراج:
كما روينا من طريق مالك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: حجم رسول الله ﷺ أبو طيبة فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه، ولا يمكن أن يحجمها إلا حتى يرى عنقها، وأعلى ظهرها مما يوازي أعلى كتفيها.
1883 - مسألة: وحلال للرجل أن ينظر إلى فرج امرأته زوجته وأمته التي يحل له وطؤها، وكذلك لهما أن ينظرا إلى فرجه، لا كراهية في ذلك أصلا.
برهان ذلك: الأخبار المشهورة من طريق عائشة، وأم سلمة، وميمونة: أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أنهن كن يغتسلن مع رسول الله ﷺ من الجنابة من إناء واحد. وفي خبر ميمونة بيان أنه عليه الصلاة والسلام كان بغير مئزر، لأن في خبرها أنه عليه الصلاة والسلام أدخل يده في الإناء ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله فبطل بعد هذا أن يلتفت إلى رأي أحد. ومن العجب أن يبيح بعض المتكلفين من أهل الجهل وطء الفرج ويمنع من النظر إليه، ويكفي من هذا قول الله عز وجل: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}. فأمر عز وجل بحفظ الفرج إلا على الزوجة، وملك اليمين، فلا ملامة في ذلك، وهذا عموم في رؤيته ولمسه ومخالطته. وما نعلم للمخالف تعلقا إلا بأثر سخيف عن امرأة مجهولة عن أم المؤمنين ما رأيت فرج رسول الله ﷺ قط. وآخر في غاية السقوط عن أبي بكر بن عياش، وزهير بن محمد، كلاهما عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي وهؤلاء: ثلاث الأثافي والديار البلاقع، أحدهم كان يكفي في سقوط الحديث.
1884 - مسألة: ولا يحل لمسلم أن يخطب على خطبة مسلم سواء ركنا وتقاربا أو لم يكن شيء من ذلك، إلا أن يكون أفضل لها في دينه وحسن صحبته، فله حينئذ أن يخطب على خطبة غيره ممن هو دونه في الدين وجميل الصحبة. أو إلا أن يأذن له الخاطب الأول في أن يخطبها فيجوز له أن يخطبها حينئذ. أو إلا أن يدفع الخاطب الأول الخطبة فيكون لغيره أن يخطبها حينئذ. أو إلا أن ترده المخطوبة فلغيره أن يخطبها حينئذ وإلا فلا.
برهان ذلك: ما رويناه من طريق مسلم حدثني أبو الطاهر، حدثنا عبد الله بن وهب عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: " قال رسول الله ﷺ: المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر ففي هذا الخبر تحريم الخطبة على خطبة المسلم حتى يذر.
ومن طريق أحمد بن شعيب، حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصي، حدثنا حجاج، هو ابن محمد قال: قال ابن جريج: سمعت نافعا يحدث أن ابن عمر كان يقول: نهى رسول الله ﷺ أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب.
قال أبو محمد: وأما إذا ردته المخطوبة فقد وجب عليه قطع الخطبة، لأن في تماديه الإضرار بها والظلم لها في منعه بذلك غيره من خطبتها، فكل خطبة تكون معصية فلا حكم لها.
وأما إذا كان فوقه في دينه وحسن صحبته فلحديث فاطمة بنت قيس المشهور أن رسول الله ﷺ قال لها: من خطبك قالت: معاوية ورجل من قريش آخر فقال لها رسول الله ﷺ أما معاوية فإنه غلام من غلمان قريش لا شيء له، وأما الآخر فإنه صاحب شر لا خير فيه، انكحي أسامة قالت: فكرهته، فقال لها ذلك ثلاث مرات: فنكحته.
وروينا من طريق مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس فذكرت حديثها، وفيه أن رسول الله ﷺ قال لها: فإذا حللت فآذنيني قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال لها رسول الله ﷺ: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه
وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد قالت: فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة، فنكحته، فجعل الله فيه خيرا واغتبطت.
قال أبو محمد: فهذا رسول الله ﷺ أشار عليها بالذي هو أجمل صحبة لها من أبي جهم الكثير الضرب للنساء، وأسامة أفضل من معاوية.
فإن قيل: وما يدريك أن هذا الخبر كان قبل خبر النهي عن أن يخطب أحد على خطبة أخيه.
قلنا: قد صح عن رسول الله ﷺ: الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة وهذا حكم باق إلى يوم القيامة. ومن أنصح النصائح: أن يكون مريد يريد خطبة امرأة قد خطبها من هو أحسن صحبة، وأفضل دينا، من الذي خطبها قبله فيخطبها هو.
وأما إن ترك خطبتها من أجل الخاطب قبله فقط فما نصح المسلمة ولقد غشها وهذا لا يجوز. وقد علمنا أن معاوية فتى من بني عبد مناف في غاية الجمال والحلم. وأسامة مولى كلبي أسود كالقار فبالضرورة ندري أنه لا فضل له عليه إلا بالدين الذي هو نهاية الفضل عند الله تعالى ورسوله ﷺ في غاية النصحية لجميع المسلمين بلا شك.
وأما من قال: إن ذلك إذا ركنا وتقاربا فدعوى فاسدة باطل، لأنه لم يعضدها قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول صاحب، ولا نظر صحيح إنما هو رأي ساقط فقط.
1885 - مسألة: ولا يحل التصريح بخطبة امرأة في عدتها. وجائز أن يعرض لها بما تفهم منه أنه يريد نكاحها.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} إلى قوله: {فاحذروه} فأباح تعالى التعريض ومنع من المواعدة سرا.
قال أبو محمد: ومن التعريض قول رسول الله ﷺ الذي ذكرناه آنفا لفاطمة بنت قيس: إذا حللت فآذنيني. وقد صح أيضا أنه عليه الصلاة والسلام قال: لا تفوتيني بنفسك:
روينا من طريق أبي داود، حدثنا قتيبة بن سعيد: أن محمد بن جعفر حدثهم قال: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن فاطمة بنت قيس أن رسول الله ﷺ . ومن التعريض ما رويناه، عن ابن عباس أن يقول: إني أريد الزواج، ولوددت أن الله تعالى يسر لي امرأة صالحة، ونحو هذا.
1886 - مسألة: ولا يحل نكاح من لم يولد بعد، فمن فعل ذلك لم يلزمه، لأنه لا يدري أيولد له ابنة، أم ابن، أم ميتة.
1887 - مسألة: ولا يحل نكاح غائبة إلا بتوكيل منها على ذلك ;، ولا يحل إنكاح غائب إلا بتوكيل منه ورضا. لقول الله عز وجل: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}. وقد تزوج رسول الله ﷺ أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي بأرض الحبشة وهو بالمدينة برضاهما معا.