الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الصلاة/باب صلاة الخوف


باب صلاة الخوف


قد صلاها رسول الله (ﷺ) على صفات مختلفة قيل على ستة عشر ، وقيل سبعة عشرة ، وقيل ثمانية عشر ، وقيل أقل من ذلك . وقد صح منها أنواع . فمنها أنه (ﷺ) بكل طائفة ركعتين ، فكان للنبي (ﷺ) أربع وللقوم ركعتان ، وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث جابر . ومنها أنه صلى بكل طائفة ركعة ، فكان له ركعتان وللقوم ركعة ، وهذه الصفة أخرجها النسائي بإسناد رجاله ثقات . ومنها أنه صلى بهم جميعاً ، فكبر وكبروا ، وركع وركعوا ، ورفع ورفعوا ، ثم سجد وسجد معه الصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى النبي (ﷺ) السجود والصف الذي يليه ، إنحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم وفعلوا كالركعة الأولى ، ولكنه قد صار الصف المؤخر مقدماً والمقدم مؤخراً ، ثم سلم النبي (ﷺ) وسلموا جميعاً . وهذه الصفة ثابتة في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر ومن حديث أبي عياش الزرقي عند أحمد وأبي داود والنسائي . ومنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقيلين على العدو وجاء أولئك ، ثم صلى النبي (ﷺ) ثم قضى هؤلاء ركعة . وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر . ومنها أنها قامت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة ، فكبر فكبروا جميعاً الذين معه والذين مقابل العدو ، ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ، ثم سجد فسجدت التي تليه والآخرون قيام مقابل العدو ، ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم ، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما هو ، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد ومن معه ، ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعاً ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتان ، وللقوم لكل طائفة ركعتان ، وهذه الصفة أخرجها وأحمد والنسائي وأبو داود . ومنها أنه (ﷺ) صلى بطائفة ركعة وطائفة وجاه العدو ، ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته فأتموا لأنفسهم فسلم بهم ، وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة ، وإنما اختلفت صلاته (ﷺ) في الخوف ، لأنه كان في كل موطن يتحرى ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة .

وكلها مجزئة لأنها وردت على أنحاء كثيرة وكل نحو روى عن النبي (ﷺ) ، فهو جائز يفعل الإنسان ما هو أخف عليه وأوفق بالمصلحة حالتئذ كذا في الحجة .

أقول : من زعم من أهل العلم أن المشروع من صلاة الخوف ليس إلا صفة من الصفات الثابتة دون ماعداها ، فقد أهدر شريعة ثابتة وأبطل سنة قائمة بلا حجة نيرة . وغالب ما يدعو إلى ذلك ويوقع فيه قصور الباع وعدم الإعتناء بكتب السنة المطهرة . فالحق الحقيق بالقبول جواز جميع ماثبت من الصفات . وقد ذكر هنا صاحب المنتقى أنواعاً هي حاصل ما ذكره المحدثون مما بلغ إلى رتبة الصحيح ، وثم صفات أخر ليست ببالغة إلى تلك الرتبة . فإن قلت : ما الحكمة في وقوع هذه الصلاة على أنواع مختلفة ؟ قلت : أمران : الأول اقتضاء الحادثة لذلك والمقتضيات مختلفة ، ففي بعض المواطن تكون بعض الصفات أنسب من بعض لما يكون فيها من أخذ الحذر والعمل بالحزم ما يناسب الخوف العارض ، فقد يكون الخوف في بعض المواطن شديداً والعدو متصلاً أو قريباً ، وفي بعض المواطن قد يكون الخوف خفيفاً والعدو بعيداً فتكون هذه الصفة أولى بهذا الموطن . وهذه أولى بهذا الموطن . فالأمر الثاني أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فعلها متنوعة إلى تلك الأنواع لقصد التشريع وإرادة البيان للناس ، وأما صلاة المغرب فقد وقع الإجماع على أنه لا يدخلها القصر ، ووقع الخلاف هل الأولى أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين والثانية ركعة أو العكس ، ولم يثبت في ذلك شئ عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقد روي أن علياً رضي الله تعالى عنه صلاها ليلة الهرير واختلفت الرواية في حكاية فعله كما إختلفت الأقوال . والظاهر أن الكل جائز وأن صلى لكل طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات وللقوم ثلاث ركعات فهو صواب قياساً على فعله في غيرها . وقد تقرر صحة إمامة المتنفل بالمفترض كما سبق .

وإذا اشتد الخوف والتحم القتال صلاها الراجل والراكب ولو إلى غير القبلة ولو بالإيماء ويقال لصلاة الخوف عند إلتحام القتال صلاة المسايف . أخرج البخاري عن ابن عمر في تفسير سورة البقرة بلفظ فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم ، أو ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . قال مالك قال نافع : لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله (ﷺ) وهو في مسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك . وقد رواه ابن ماجه عن ابن عمر أن النبي (ﷺ) وصف صلاة الخوف وقال : فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالا وركباناً وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن أنيس قال : بعثني رسول الله (ﷺ) إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرنة وعرفات فقال : إذهب فاقتله . قال : فرأيته وقد حضرت صلاة العصر فقلت : إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أوميء إيماء نحوه فلما دنوت منه الحديث . ومن البعيد أن لا يخبر النبي (ﷺ) بذلك ولو أنكره لذكر ذلك .