الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الصلاة/باب صلاة الجمعة


باب صلاة الجمعة


تجب على كل مكلف لأن الجمعة فريضة من فرائض الله تعالى ، وقد صرح بذلك كتاب الله عز وجل وما صح من السنة المطهرة ، كحديث أنه (ﷺ) هم بإحراق من يتخلف عنها وهو في الصحيح من حديث ابن مسعود ، وكحديث أبي هريرة لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين أخرجه مسلم وغيره ، ومن ذلك حديث حفصة مرفوعاً رواح الجمعة واجب على كل محتلم أخرجه النسائي بإسناد صحيح ، وحديث طارق بن شهاب الجمعة حق واجب على كل مسلم أخرجه أبو داود وسيأتي . وقد واظب عليها النبي (ﷺ) من الوقت الذي شرعها الله تعالى فيه إلى أن قبضه الله عز وجل . وقد حكى ابن المنذر الاجماع على أنها فرض عين . وقال ابن العربي : الجمعة فرض بإجماع الأمة وقال ابن قدامة في المغني : أجمع المسلمون على وجوب الجمعة وإنما الخلاف هل هي من فروض الأعيان ، أو من فروض الكفايات ؟ ومن نازع في فرضية الجمعة فقد أخطأ ولم يصب . قال في المسوى : اتفقت الأمة على فرضية الجمعة وأكثرهم على أنها من فروض الأعيان ، واتفقوا على أنه لا جمعة في العوالي ، وأنه يشترط لها الجماعة ، وأن الوالي إن حضر فهو الإمام . ثم اختلفوا في الوالي وشرط الموضع والجماعة . قال الشافعي : كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً أحراراً مقيمين تجب عليهم الجمعة ولا تنعقد إلا بأربعين رجلاً كذلك ، والوالي ليس بشرط . وقال أبو حنيفة : لا جمعة إلا في مصر جامع أو في فنائه وتنعقد بأربعة ، والوالي شرط . وقال مالك : إذا كان جماعة في قرية بيوتها متصلة وفيها سوق ومسجد يجمع فيه وجبت عليهم الجمعة . وفي مختصر ابن الحاجب لا تجزيء الأربعة ونحوها ، ولا بد من قوم تتقري بهم القرية ، ولا يشترط السلطان على الأصح . قال في العالمكيرية : القروي إذا دخل المصر ونوى أن يخرج في يومه ذلك قبل دخول الوقت أو بعد دخوله لا جمعة عليه انتهى .

إلا المرأة والعبد والمسافر والمريض لحديث الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك ، أو امرأة ، أو صبي ، أو مريض أخرجه أبو داود من حديث طارق بن شهاب عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وقد أخرجه الحاكم من حديث طارق عن أبي موسى قال الحافظ : وصححه غير واحد وفي حديث أبي هريرة وحديث جابر ذكر المسافر . وفي الحديثين مقال معروف ، والغالب أن المسافر لا يسمع النداء وقد ورد أن الجمعة على من سمع النداء ، كما في حديث ابن عمر وعند أبي داود . قال في المسوى : واتفقوا على أنه لا جمعة على مريض ولا مسافر ولا امرأة ولا عبد ، وأنه إن صلاها منهم أحد سقط الفرض ، وعلى أنه إن أم مريض أو مسافر جاز . وفي المنهاج ، وتصح خلف العبد والصبي والمسافر في الأظهر إذا تم العدد بغيره ، وفيه أيضاً ولا جمعة على معذور مرخص في ترك الجماعة . وفي العالمكيرية المطر الشديد والاختفاء من السلطان الظالم مسقط . قال في المنح : وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يرخص في تركها وقت المطر ولو لم يبتل أسفل النعلين ، وكان يرخص في السفر يوم الجمعة لا سيما للجهاد انتهى .

وهي كسائر الصلوات لا تخالفها لكونه لم يأت ما يدل على أنها تخالفها في غير ذلك ، وفي هذا الكلام إشارة إلى رد ما قيل أنه يشترط في وجوبها الإمام الأعظم ، والمصر الجامع ، والعدد المخصوص ، فإن هذه الشروط لم يدل عليها دليل يفيد استحبابها فضلاً عن وجوبها فضلاً عن كونها شروطاً ، بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعة فقد فعلا ما يجب عليهما ، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة وإن تركا الخطبة فهي سنة فقط ، ولولا حديث طارق بن شهاب المذكور قريباً من تقييد الوجوب على كل مسلم بكونه في جماعة ومن عدم اقامتها (ﷺ) في زمنه في غير جماعة لكان فعلها فرادي مجزئاً كغيرها من الصلوات . وأما ما يروي من أربعة إلى الولاة ، فهذا قد صرح أئمة الشأن بأنه ليس من كلام النبوة ولا من كلام من كان في عصرها من الصحابة حتى يحتاج إلى بيان معناه أو تأويله ، وإنما هو من كلام الحسن البصري . ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله تعالى عليهم في الأسبوع وجعلها شعاراً من شعائر الإسلام ، وهي صلاة الجمعة من الأقوال الساقطة والمذاهب الزائغة والاجتهادات الداحضة قضى من ذلك العجب ، فقائل يقول : الخطبة كركعتين وأن من فاتته لم تصح جمعته ، وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من طرق متعددة يقوي بعضها بعضاً ويشد بعضها من عضد بعض أن من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته ولا بلغه غير هذا الحديث من الأدلة . وقائل يقول : لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام . وقائل يقول : بأربعة . قائل يقول : بسبعة . وقائل يقول : بتسعة . وقائل يقول : باثنى عشر . وقال يقول بعشرين . وقائل يقول بثلاثين . وقائل يقول : لا تنعقد إلا بأربعين . وقائل يقول : بخمسين . وقائل يقول : لا تنعقد إلا بسبعين . وقائل يقول : فيما بين ذلك . وقائل يقول : بجمع كثير من غير تقييد . وقائل يقول : إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع وحده بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من آلاف . وآخر قال : أن يكون فيه جامع وحمام . وآخر قال : أن يكون فيه كذا وكذا . وآخر قال: إنها لا تجب إلا مع الإمام الأعظم فإن لم يوجد أو كان مختل العدالة بوجه من الوجده لم تجب الجمعة ولم تشرع ، ونحو هذه الأقوال التي ليس عليها أثارة من علم ، ولا يوجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله (ﷺ) حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة شروطاً لصحة الجمعة ، أو فرضاً من فرائضها ، أو ركناً من أركانها فيالله العجب ما يفعل الرأي بأهله ، ومن يخرج من رؤوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم وما يخبرونه في اسمارهم من القصص والأحاديث الملفقة وهي عن الشريعة المطهرة بمعزل يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة، وكل متصف بصفة الإنصاف وكل من ثبت قدمه ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال ، ومن جاء بالغلط فغلطه رد عليه مضروب به في وجهه ، والحكم بين العباد هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما قال سبحانه : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا . فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً فهذه الآيات ونحوها تدل أبلغ دلالة ، وتفيد أعظم فائدة ، أن المرجع مع الاختلاف إلى حكم الله ورسوله ، وحكم الله هو كتابه ، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله تعالى هو سنته ليس غير ذلك ، ولم يجعل الله تعالى لأحد من العباد وإن بلغ في العلم أعلى مبلغ وجمع منه ما لا يجمع غيره ، أن يقول في هذه الشريعة بشئ لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ، والمجتهد وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل ، فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائناً من كان ، وإني كما علم الله ، لا أزال أكثر التعجب من وقوع مثل هذا للمصنفين ، تصديره في كتب الهداية ، وأمر العوام والمقصرين باعتقاده والعمل به ، وهو على شفا جرف هار ، ولم يختص هذا بمذهب من المذاهب ، ولا بقطر من الأقطار ، ولا بعصر من العصور ، بل تبع فيه الآخر ، الأول كأنه أخذه من أم الكتاب وهو حديث خرافة ، وقد كثرت التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الإشارة إليها بلا برهان ولا قرآن ولا شرع ولا عقل والبحث في هذا يطول جداً قال الماتن رح : وقد جمعت فيه مصنفين مطولاً ومختصراً ولله الحمد .

إلا في مشروعية الخطبتين قبلها لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سن في الجمعة خطبتين يجلس بينهما ، وما صلى بأصحابه جمعة من الجمع إلا وخطب فيها . إنما دعوى الوجوب أن كانت بمجرد فعله المستمر فهذا لا يناسب ما تقرر في الأصول ، ولا يوافق تصرفات الفحول ، وسائر أهل المذهب المنقول ، وأما الأمر بالسعي إلى ذكر الله ، فغايته أن السعي واجب ، وإذا كان هذا الأمر مجملاً فبيانه واجب ، فما كان متضمناً لبيان نفس السعي إلى الذكر يكون واجباً فأين وجوب الخطبة ، فإن قيل أنه لما وجب السعي إليها كانت واجبة بالأولى ، فيقال ليس السعي لمجرد الخطبة بل إليها وإلى الصلاة ، ومعظم ما وجب السعي لأجله هو الصلاة فلا تتم هذه الأولوية وهذا النزاع في نفس الوجوب ، وأما في كون الخطبة شرطاً للصلاة ، فعدم وجود دليل يدل عليه لا يخفى على عارف ، فإن شأن الشرطية أن يؤثر عدمها في عدم المشروط ، فهل من دليل يدل على أن عدم الخطبة يؤثر في عدم الصلاة . ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم ، فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت . وأما اشتراط الحمد لله ، أو الصلاة على رسول الله ، أو قراءة شئ من القرآن ، فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة ، واتفاق مثل ذلك في خطبته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم . ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وقد كان عرف العرب المستمر ، أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً ويقول مقالاً ، شرع بالثناء على الله وعلى رسوله ، وما أحسن هذا وأولاه ، ولكن ليس هو المقصود ، بل المقصود ما بعده . ولو قال قائل أن من قام في محفل من المحافل خطيباً ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولاً ، بل كل طبع سليم يمجه ويرده . إذا تقرر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث ، فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع ، إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتم وأحسن .

ووقتها وقت الظهر لكونها بدلاً عنه ، وقد ورد ما يدل على أنها تجزيء قبل الزوال كما في حديث أنس أنه كان صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الجمعة ثم يرجعون إلى القائلة يقيلون وهو في الصحيح ، ومثله من حديث سهل بن سعد في الصحيحين وثبت في الصحيح من حديث جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها حين تزول الشمس وهذا فيه التصريح بأنهم صلوها قبل زوال الشمس ، وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وهو الحق . وذهب الجمهور إلى أن أول وقتها أول وقت الظهر .

وعلى من حضرها أن لا يتخطى رقاب الناس إلا إذا كان إماماً أو كان بين يديه فرجة لا يصلها إلا بتخط كما نقله المحلى عن الروضة ، لحديث عبد الله بن بسر قال : جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي (ﷺ) يخطب فقال له رسول الله (ﷺ) إجلس فقد آذيت أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره ، ولحديث أرقم بن أبي أرقم المخزومي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : الذي يتخطى الناس يوم الجمعة ويفرق بين الإثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار أخرجه أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده مقال . وفي الباب أحاديث منها عن معاذ بن أنس عند الترمذي وابن ماجه قال : قال رسول الله (ﷺ)  : من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم قال الترمذي : حديث غريب ، والعمل عليه عند أهل العلم ، وفي تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين . ومنها تخطي رقاب الناس يوم الجمعة كذا عده الشيخ شمس الدين بن القيم من الكبائر ، وقد صرح النووي وغيره بأنه حرام إنتهى . قلت : وفي الباب عن عثمان وأنس أيضاً .

وأن ينصت حال الخطبتين لحديث أبي هريرة أن النبي (ﷺ) قال : إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت وهو في الصحيحين وغيرهما . وأخرج أحمد وأبو داود من حديث علي قال : من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت كان عليه كفل من الوزر ، ومن قال صه فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له ، ثم قال : هكذا سمعت نبيكم (ﷺ) وفي إسناده مجهول ، وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة .

أقول : وحاصل ما يستفاد من الأدلة أن الكلام منهي عنه حال الخطبة نهياً عاماً ، وقد خصص هذا النهي بما يقع من الكلام في صلاة التحية من قراءة وتسبيح وتشهد ودعاء والأحاديث المخصصة لمثل ما ذكر صحيحه ، فلا محيص لمن دخل المسجد حال الخطبة من صلاة ركعتي التحية إن أراد القيام بهذه السنة المؤكدة والوفاء بما دلت عليه الأدلة ، فإنه (ﷺ) أمر سليكاً الغطفاني لما وصل إلى المسجد حال الخطبة فقعد ولم يصل التحية بأن يقوم فيصلي ، فدل هذا على كون ذلك من المشروعات المؤكدة ، بل من الواجبات كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني في رسالة مستقلة . وبينت أنا في دليل الطالب إلى أرجح المطالب وجوب صلاة التحية . ومن جملة مخصصات صلاة التحية حديث إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين وهو حديث صحيح متضمن للنص في محل النزاع ، وأما ما عدا صلاة التحية من الأذكار والأدعية والمتابعة للخطيب في الصلاة على النبي (ﷺ) فلم يأت ما يدل على تخصيصها من ذلك العموم ، والمتابعة في الصلاة عليه (ﷺ) وإن وردت بها أدلة قاضية بمشروعيتها فهي أعم من أحاديث منع الكلام حال الخطبة من وجه ، وأخص منها من وجه ، فيتعارض العمومان وينظر في الراجح منهما ، وهذا إذا كان اللغو المذكور في حديث ومن لغا فلا جمعة له يشمل جميع أنواع الكلام ، وأما إذا كان مختصاً بنوع منه وهو ما لا فائدة فيه ، فليس فيه ما يدل على منع الذكر والدعاء والمتابعة في الصلاة عليه (ﷺ) ، وأما حديث : إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام فقد أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر ، وفي سنده ضعف كما قاله صاحب مجمع الزوائد ، فلا تقوم به الحجة ولكنه قد روي ما يقويه ، فأخرج أبو يعلي والبزار عن جابر قال : قال سعد بن أبي وقاص لرجل لا جمعة لك فقال النبي (ﷺ) لم يا سعد ؟ فقال : لأنه تكلم وأنت تخطب ، فقال النبي (ﷺ) صدق سعد وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف عند الجمهور ، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة . وقد ذكر العلامة الشوكاني في شرح المنتقى أحاديث تفيد معنى هذا الحديث فليراجع . ويقويها ما يقال أن المراد باللغو المذكور في الحديث التلفظ وإن كان أصله ما لا فائدة فيه بقرينة أن قول من قال لصاحبه أنصت لا يعد من اللغو ، لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد سماه النبي (ﷺ) لغواً . ويمكن أن يقال أن ذلك الذي قال : أنصت لم يؤمر في ذلك الوقت بأن يقول هذه المقالة ، فكان كلامه لغواً حقيقة من هذه الحيثية .

وندب له التبكير لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله (ﷺ) قال : من إغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر وفي الباب أحاديث في شروعية التبكير قال في المسوى شرح الموطأ : الأصح أن هذه الساعات ساعات لطيفة بعد الزوال ، لا الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار انتهى .

والتطيب والتجمل لحديث أبي سعيد عن النبي (ﷺ) قال : على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه وإن كان له طيب مس منه أخرجه أحمد وأبو داود ، وهو في الصحيحين بلفظ الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيباً إن وجد وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما من حديث سلمان الفارسي قال : قال النبي صلى تعالى عليه وآله وسلم : لا يغتسل رجل يوم الجمعة ، ويتطهر بما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ، ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ما كتب له ، وثم ينصت للإمام إذا تكلم ، إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أيوب قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : من اغتسل يوم الجمعة ، ومس من طيب إن كان عنده ، ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخري ورجال إسناده ثقات وفي الباب أحاديث .

والدنو من الإمام لحديث سمرة عند أحمد وأبي داود أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : احضروا الذكر وادنوا من الإمام فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها وفي إسناده انقطاع وفي الباب أحاديث ومن جملة ما يشرع يوم الجمعة الغسل وقد تقدم الكلام عليه في باب الغسل .

ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها لحديث من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته فهذا وإن كان فيه مقال غايته الإعلال بالإرسال ، فقد ثبت رفعه من طريق جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة ، فإنه روي عنه من ثلاثة عشر طريقاً ، ومن ثلاث طرق عن ابن عمر ، وبعضها يؤيد بعضاً ، فهي لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره . وقد أخرجه الحاكم من ثلاث طرق عن أبي هريرة ، وقال فيها على شرط الشخين ، فالعجب من أن يؤثر على هذا كله قول عمر بن الخطاب ، ويدعم بتلك العصا التي لا يأخذها إلا الزمن ، أو من ضاقت عليه المسالك فيقال : ولم يرد خلافه عن أحد من الصحابة ، والحال أن أول المخالفين له رسول الله (ﷺ) بعموم قوله وخصوصه .

والحاصل : أن الحديث له طرق كثيرة يصير بها حسناً لغيره وقد قدمنا أنها كسائر الصلوات ، وليست الخطبة شرطاً من شروط الجمعة حتى يتوقف إدراك الصلاة على إدراك الخطبة ، فمن زعم أن صلاة الجمعة تختص بحكم يخالف سائر الصلوات فعليه الدليل . وقد أوضح الماتن المقال في أبحاث مطولة وقعت مع بعض الأعلام مشتملة على مايحتاج إليه في هذا البحث فليرجع إلى ذلك فهو مفيد جداً .

وهي في يوم العيد رخصة لحديث زيد بن أرقم أن النبي (ﷺ) صلى العيد في يوم الجمعة ثم رخص في الجمعة فقال من شاء أن يجمع فليجمع أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وصححه علي بن المديني . وأخرج أبو داود وابن ماجة والحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي (ﷺ) أنه قال : قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزاه من الجمعة وإنا مجمعون وقد أعل بالإرسال ، وفي إسناده أيضاً بقية بن الوليد ، وفي الباب أحاديث عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما ، وظاهر أحاديث الترخيص يشمل من صلى العيد ومن لم يصل ، بل روى النسائي وأبو داود أن ابن الزبير في أيام خلافته لم يصل بالناس الجمعة بعد صلاة العيد ، فقال ابن عباس لما بلغه ذلك أصاب السنة وفي إسناده مقال .

أقول : الظاهر أن الرخصة عامة للإمام وسائر الناس كما يدل على ذلك ما ورد من الأدلة ، وأما قوله (ﷺ) ونحن مجمعون فغاية ما فيه أنه أخبرهم بأنه سيأخذ بالعزيمة ، وأخذه بها لا يدل على أن لا رخصة في حقه وحق من تقوم بهم الجمعة ، وقد تركها ابن الزبير في أيام خلافته كما تقدم ولم ينكر عليه الصحابة ذلك .