(عصر الخلافة الزاهرة)
العراق، تاريخ. العراق دولة عربية تقع في الجزء الغربي من قارة آسيا، وتحدها من الشرق إيران، ومن الغرب المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا، ومن الجنوب الكويت والسعودية، ومن الشمال تركيا. تبلغ مساحتها حوالي 435,052 كم²، وعدد سكانها حوالي 21,422,000 نسمة. ويشكل العراق البوابة الشرقية للوطن العربي الكبير، كما يشكل النصف الشرقي من الهلال الخصيب، في حين تشكل بلاد الشام النصف الغربي منه.
يسمى العراق أيضًا بلاد الرافدين، وهما نهرا دجلة والفرات، وقد ارتبط نشوء الحضارة وتطورها في العراق منذ عصور ما قبل التاريخ بنهري دجلة والفرات ؛ فعلى ضفافيهما تأسست القرى الزراعية الأولى. ★ تَصَفح: بابل ؛ آشور . والزراعة كانت وما تزال من أهم الأنشطة الاقتصادية لسكان العراق. كما كان للنهرين دور عظيم في قيام حضارة العراق منذ القدم.
إن أقدم سكان وادي الرافدين المعروفين هم السومريون، في الجزء الجنوبي منه. ونحو 3000ق.م.، وفدت شعوب سامية إلى وادي الرافدين. وهؤلاء هم الذين عرفوا في التاريخ بالأكَّاديين. لذلك، منذ 3000ق.م كان يعيش بوادي الرافدين شعبان: السومريون في الجنوب والأكّاديون في الشمال، يتكلمون لغتين مختلفتين، إحداهما سامية، وهي اللغة الأكّادية والأخرى غيرسامية، وهي اللغة السومرية. وكان السومريون مؤسسي حضارة وادي الرافدين، وأرقى حضاريًا من الأكّاديين عندما قدم إليهم هؤلاء. ولذا تأثر بهم الأكّاديون وورثوا كثيرًا من حضارتهم الراقية، وبخاصة الديانة والأدب ورموز الكتابة.
وعرف العراق قيام دول ودويلات عدة، كان لبعضها شأن كبير، ابتداءً من أواخر الألف الرابع قبل الميلاد إلى القرن السادس قبل الميلاد حين سقطت بابل الكلدانية أمام الغزو الفارسي. وأهم هذه الدول والدويلات أوما ولاغش ونفَّر، وأكاد، وأور الثالثة، والممالك الأمورية في آشور وبابل وإشونة، ومملكتا ميتاني والكاشيين ذواتا الأصول الهندية الأوروبية، وأخيرًا بابل الكلدانية آرامية الأصل. واشتهرت مملكتا آشور وبابل بأنهما كانتا تظهران وتخمدان مرات عدة، وكانت المرة الأخيرة لكل واحدة منهما هي أزهاها. فكان المجد الأخير لآشور فيما عرف في تاريخها بالعصر الآشوري الحديث ما بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، كما كان المجد الأخير لبابل المعروفة بالكلدانية، بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد حيث ورثت مُلْك آشور.
وهكذا نشأت في العراق حضارات ومدنيات قديمة ترجع إلى ما قبل الألف الثالث قبل الميلاد، وتعاقبت على أرضه عدة إمبراطوريات، أدت دورًا مهمًا في عصور التاريخ، نظرًا لموقعه الجغرافي المتوسط بين الشرق والغرب، ولوفرة الأراضي الخصبة وغزارة المياه، وكذلك لوجود المعادن المهمة في أراضيه. ومن أهم هذه الإمبراطوريات السومرية والأكّادية والبابلية والآشورية والكلدانية.
كان العراق بحق مهدًا لحضارة عريقة، ففيه بدأت إحدى أقدم محاولات الإنسان في الزراعة وتدجين الحيوان في حدود الألف السابع قبل الميلاد، ونشأت المدن والمراكز الحضارية على شواطيء النهرين العظيمين دجلة والفرات وفيه كانت إحدى أقدم محاولات الإنسان في الكتابة والتدوين، كما ازدهرت فيه نتيجة لذلك التربية والتعليم، والقوانين وتدوين الطب والكيمياء والرياضيات والفلك والفن والأدب والتجارة والصناعة وغيرها. وغدت تلك المحاولات المبكرة الأساس المتين الذي قامت عليه الحضارة العراقية القديمة فيما بعد.
وكان النظام الملكي الوراثي هو النظام السائد في العراق منذ عصور فجر السلالات وحتى نهاية التاريخ القديم. وجاءت فترات كان هناك اعتقاد بأن الملكية نظام إلهي مقدس.
ونتيجة لتطور الحياة اليومية تعقدت علاقات الأفراد واستقرت العادات والتقاليد وغدت أعرافًا يسير عليها أفراد المجتمع. وما لبثت أن تطورت إلى قوانين صادرة عن السلطة الحاكمة.
كانت الزراعة تعتمد في بادئ الأمر على مياه الأمطار، كما كانت الزراعة محدودة وتحقق الاكتفاء الذاتي واستخدمت فيها الآلات الزراعية البسيطة، إلا أن الإنسان بدأ يتعلم وسائل الري الصناعية ليوسع من مساحة الأرض المزروعة. ومن أهم الزراعات الحبوب على اختلافها كالقمح والشعير والذرة والسمسم والعدس، والأشجار المثمرة كالتين والزيتون والكروم والرمان والكمثرى والتفاح إضافة إلى أشجار النخيل. ونتيجة لتوسع الأراضي الزراعية وزيادتها أصبح الإنتاج أكثر من الاستهلاك فبدأت مرحلة المقايضة وكانت بداية التجارة.
لم تكن شهرة العراق القديم بالتجارة أقل من شهرته بالزراعة أو الصناعة ؛ فقد كان لموقع العراق الجغرافي الاستراتيجي أثره الواضح في نشوء وتطور التجارة الخارجية، ونتيجة لاهتمام العراق بالتجارة اخترعت الوسائل التي تساعد على نمو التجارة وازدهارها كالعربات والسفن واستخدام الموازين والمكاييل، وكذلك استخدام الحبوب والمعادن كوسيلة لتقويم أثمان السلع والأجور بدلاً من النقود. وشرعت القوانين لتنظيم المعاملات التجارية الداخلية منها والخارجية.
ومن أهم الصناعات والحرف اليدوية التي عرفت منذ عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية أيضًا كانت صناعة الأدوات الحجرية كالسكاكين والفؤوس والآلات الزراعية والأواني الفخارية وصناعة السلال والغزل والحياكة، كما برع العراقيون في صناعة التماثيل والنصب والمسلات ونحت الألواح الحجرية. وأصبح لكل حرفة جماعة أو طائفة، ولكل جماعة رئيس من أمهر الحرفيين ويخلفه ابنه في هذه الحرفة. وهناك حرف الدباغة والبناء والنجارة والحدادة وصيد الأسماك ورعي الأغنام وغيرها.
وعلى الرغم من قدسية القوانين باعتبارها مستوحاة من إله الشمس عند البابليين، كما تشير إلى ذلك المسلة نفسها، فإن المواد القانونية لم تعالج إلا الشؤون الدنيوية. ويمكن تقسيم ما ورد فيها من مواد إلى خمسة أقسام رئيسية: يعالج الأول الأمور الخاصة بالتقاضي والاتهام الكاذب وشهادة الزور وتلاعب القضاء، في حين اختص القسم الثاني والذي ضم 120 مادة بالمواد الخاصة بالأموال، والجرائم التي تقع على الأموال كالسرقة، والأراضي والعقارات والتجارة والعلاقات التجارية. أما القسم الثالث الذي ضم 87 مادة فهو خاص بالأشخاص، وعالج الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث وتبَنٍّ، كما عالج العقوبات على جرائم الاعتداء على الأشخاص. وفي القسم الرابع حددت مسؤوليات أصحاب المهن وأجورهم وأجور الأشخاص والحيوانات ومسؤولية أضرارهم. أما القسم الأخير والذي يضم أربع مواد فقط فهو خاص ببيع الرقيق. وقد كانت هذه القوانين في مجملها أقل قساوة من القوانين الأوروبية في العصور الوسطى ؛ فهي لم تعرف تعذيب المتهم ولا التمثيل به وهو على قيد الحياة.
انتهى احتلال الفرس ليحل محله احتلال الإسكندر المقدوني ملك الإغريق الذي هزم داريوس الثالث في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد. ولما مات الإسكندر، واقتسم قواده ملكه، كان العراق مع بلاد الشام من نصيب سلوقس، وعرفت هذه الفترة بالسلوقية. ثم جاء الغزو الفارسي الجديد بقيام الفرس الفرثيين (البارثيين) وسيادتهم على المنطقة. وأعقب هؤلاء ملوك ساسان الذين شغلوا بحروبهم المعروفة مع البيزنطيين، والتي استمرت حتى ظهور الإسلام.
خلال فترة الصراع الساساني البيزنطي ظهرت دولة الحيرة، وهي إحدى الممالك العربية في مناطق الفرات الوسطى والجنوبية، وقد حكم الحيرة 25 ملكًا. كان من أشهر ملوكهم النعمان بن المنذر (400-418م) والمنذر بن ماء السماء الذي رفض المزدكية وعاصر كسرى أنو شروان الساساني، ثم الملك عمرو بن هند عام 554-569م، الذي قتل وخلفه النعمان بن المنذر (580-602م) آخر ملوك الحيرة. وكان عهده مميزًا بجو من السلام ساد علاقة الحيرة في العراق بالغساسنة في بلاد الشام.
وانتهى حكم النعمان بمقتله الذي كان له صدى في أوساط أهل الجزيرة العربية، وأدى إلى تكتلهم ضد الفرس وهزيمتهم لهم في زمن بعثة النبي ﷺ. وقد افتخر العرب بهذا النصر.
ظهر الإسلام والعرب متفرقون ومتفككون سياسيًا واجتماعيًا، وأجزاء كبيرة من أرضهم تحت الاحتلال ؛ فقد بسط البيزنطيون نفوذهم على بلاد الشام ومصر والمغرب، بينما بسط الفرس نفوذهم على العراق واليمن، وتمتعوا بنفوذ سياسي واقتصادي في الخليج العربي.
ولكن الله سبحانه وتعالى أرسل لهذه الأمة الرسول الكريم النبي المختار محمد بن عبد الله ﷺ لينشر دينه ويعلي كلمته، واستطاع أن يقيم مجتمعًا إسلاميًا متكاملاً، وأن يحوله إلى قوة عسكرية تدافع عن مركز الإسلام في المدينة المنورة وتسعى لنشر الدين الجديد. وقد تمكن فعلاً من تحقيق هدفه في توحيد الجزيرة في كلمة واحدة، وسار على نهجه الخلفاء الراشدون في تثبيت سلطة الدولة والمحافظة على وحدتها، وخاصة بعد أن قضى أبو بكر على المرتدين وحافظ على الدولة الإسلامية، فقرر مواصلة الجهاد بدءًا ببلاد الشام. وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب حقق المسلمون انتصارهم على البيزنطيين الروم، وقرر الخليفة عمر كذلك إرسال الصحابي سعد بن أبي وقاص إلى العراق ضد الفرس، فانتصر عليهم في موقعة القادسية الشهيرة يؤازره المُثَنَّى بن حارثة الشيباني. وكان ذلك يوم 6 محرم 15هـ، 19 فبراير 636م. وهكذا أنهت معركة القادسية السيادة الفارسية في العراق. كما تابع المسلمون ملاحقة الفرس في بلادهم فدخلوا المدائن ونهاوند بعد معركة فاصلة، هزم فيها الفرس.
كان الخلفاء الراشدون الثلاثة الأوائل يقيمون في المدينة، حيث نشأت دولة الإسلام، وحيث يقيم الصحابة الأولون الذين رافقوا الرسول ﷺ وجاهدوا معه في بناء الدولة وتثبيت دعائمها وتفهُّم الإسلام، وظل هؤلاء الخلفاء يقيمون في المدينة ما عدا الإمام علي كرم الله وجهه، الخليفة الرابع الذي أقام معظم أيام خلافته في الكوفة، فكان يشرف خلال ذلك على شؤون العراق مباشرة، ولما انتقلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان أصبح مركزها دمشق، في بلاد الشام، وانحصرت الخلافة في الأسرة الأموية، وأصبح الخليفة يختار ولي عهده ثم يدعو الناس لمبايعته، بينما كانت مبايعة الخلفاء الراشدين تتم في المدينة.
كان في كل من البصرة والكوفة قاض من العرب يعينه الأمير لينظر في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية الخاصة بالزواج والطلاق والميراث، وكذلك ما يتعلق بمعاملات البيع والشراء والتجارة وغيرها. أما القضايا المتعلقة بالأمن والجنايات فكان ينظر فيها الأمير أو صاحب الشرطة. كما عين المحتسب للإشراف على معاملات السوق والأوزان والمكاييل. وقسمت الكوفة إلى أربعة أقسام كبيرة والبصرة إلى خمسة، كل قسم يضم عدة عشائر ولكل عشيرة رئيس يتم اختياره من ذوي المكانة الرفيعة عند العشائر، ويقر الخليفة اختياره، ولهؤلاء الرؤساء سلطة كبيرة مستمدة من مراكزهم الشخصية والاجتماعية ومن الواجبات الملقاة على عاتقهم ؛ فكانوا ينظرون في شؤون عشائرهم، ويمثلون هذه العشائر ومصالحها أمام الأمير، ويقودون مقاتلي قبائلهم في الحروب.
تقرر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب إنشاء ديوان في كل من الكوفة والبصرة لحفظ السجلات الخاصة بالدولة وينقسم الديوان إلى قسمين هما: ديوان الخراج وديوان الجند. أما الأول فيشمل السجلات المتعلقة بالجبايات والخراج، وأما الثاني فيشمل سجلات الجند وأسماءهم وعائلاتهم ومقدار عطائهم. ويشرف على كل ديوان رئيس له صلاحيات واسعة في إدارته وتنفيذ القرارات.
عمل المسلمون على إنعاش المدن ونموها وذلك عن طريق تيسير نقل السلع ونشاط التجارة بين مختلف مراكز الدولة، وكذلك تأمين حرية الأفراد في التنقل والعمل. كما تطلبت الأوضاع الجديدة للدولة بأن يكون العراق قاعدة للفتوح الإسلامية في المشرق، فاتخذت الدولة مراكز جديدة تقيم فيها حاميات عسكرية لحماية حدود الدولة واستتباب الأمن. ومن هذه المراكز الكوفة والبصرة وواسط، وقد تطورت وأصبحت مراكز حضارية ومواطن لحياة مدنية نشيطة. وبذلك حلت هذه المراكز محل المدائن والأنبار.
وقد نشطت الحركة الفكرية في البصرة والكوفة، فقد نزل عدد كبير من الصحابة، من أبرزهم عبد الله بن مسعود وعلقمة والأسود والحارث بن قيس وسعيد بن جبير وغيرهم في الكوفة. أما البصرة فقد ضمت أبا موسى الأشعري وأنس بن مالك والحسن البصري. وقد برز أهل العراق في اللغة والنحو، وظهر فيه مذهبا الكوفة والبصرة في النحو. وقد اتسم النشاط الفكري في العراق بطابع الإعلاء من شأن العقل والرأي، ولذا فقد عرفت المدرسة الفقهية التي ظهرت في العراق باسم مدرسة الرأي.
وأهم العلوم التي نالها الاهتمام: تفسير القرآن الكريم والسيرة النبوية والنحو. وكان من أبرز علماء النحو واللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي والكسائي والأخفش وسيبويه الذي كان كتابه في النحو مثالاً يحتذى في التأليف.
ومهما يكن من أمر فإن الأمويين قد قاموا بتوسيع الدولة الإسلامية العربية حتى وصلت حدودها إلى الصين شرقًا وفرنسا غربًا، بينما ازدهرت الحياة العلمية والفكرية والحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية.
فقد حرص العباسيون، الذين ينحدرون من سلالة العباس عم الرسول ﷺ، على العناية بالأمور الدينية، فاهتموا بخطبة الجمعة والقيام على الحج، وعنوا بالجوامع وتوسيعها، واهتموا بفرائض الإسلام وشعائره.
ويمكن القول بأن الدولة الإسلامية، وعاصمتها بغداد، شهدت في العصر العباسي ازدياد نمو المدن وازدهار الحياة المدنية وانتعاش الصناعة والتجارة، وارتفاع مستوى المعيشة. كما ساعد على ازدهار الحياة الاقتصادية في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة، استتباب الأمن وحرية العمل والتنقل في الدولة. وقد شهدت البلاد حركة فكرية واسعة فظهر عدد كبير من العلماء والمفكرين الذين عنوا بعلوم الدين، والآداب والمعارف والعلوم الدنيوية في مختلف فروعها ونشطت حركة العمران والتأليف. لكنه في الوقت نفسه ظهرت بعض الأفكار والمعتقدات الغريـبة على الإسلام كالخرمية والشعوبية والزندقة والمانوية والمزدكية.
دخل المغول بغداد في 5 صفر 656 هـ، 1258م بعد مقاومة عنيفة، وفتكوا بأهلها سبعة أيام أو تزيد، وتم تخريب المدينة وحرقها وقتل سكانها ؛ وبذلك انتهى الحكم العباسي واستطاع أحد أفراد الأسرة العباسية النجاة وهو أبو القاسم أحمد بن الظاهر بأمر الله الذي أعلنه سلطان مصر الظاهر بيبرس سنة 659هـ، 1260م خليفة باسم المستنصر بالله، ولم يكن له من السلطة إلا الاسم.
أُلغيت الدواوين وبقي ديوان الوزير وديوان الزمام ثم أدمج الديوانان في ديوان واحد صار رئيسه صاحب الديوان، وهو الحاكم الأعلى في العراق، وهو الذي يعين كبار الموظفين وغيرهم. وإلى جانب صاحب الديوان، هناك كاتب السلة، وهو مسؤول عن كتاب الولاية وبيده أسرارها. وهناك قاضي القضاة. وأهم الوظائف العسكرية الشحنة (القائد العسكري الأعلى) ومهمته المحافظة على الأمن والقضاء على الثورات وكذلك وظيفة نائب الشرطة. أما إدارة الدولة فهي لا مركزية.
عانى الشعب من وطأة الضرائب تحت حكم المغول، مما أدى إلى تدهور أحوال البلاد اقتصاديًا وازدياد الخراب في بعض المدن. ولم يضف المغول شيئًا جديدًا إلى ما كان عليه أسلافهم من النظم الإدارية والحضارية والاقتصادية. قامت الحروب بين الفرق المغولية الجلادية، مما أدى إلى تعرض البلاد لغزوات القره قوينلو، والأق قوينلو مما جعل الصفويين يهاجمون العراق.
استولى العثمانيون على بغداد في 24جمادى الثانية 941هـ،31 ديسمبر 1534م في عهد السلطان سليمان القانوني، الذي هزم الصفويين. وبذلك سيطر العثمانيون على أهم الطرق التجارية الرئيسية التي تربط الشرق الأقصى بأوروبا. وترتبت على ذلك مسؤوليات دفاعية ضد البرتغاليين في منطقة الخليج العربي. فأمر السلطان بإعداد الأسطول العثماني لمنازلة البرتغاليين. ووقع السلطان سليمان صلحًا مع الشاه طهماسب الصفوي تخلى فيه السلطان سليمان عن تبريز مقابل تعهد الشاه بعدم الاعتداء.
بعد أن سيطرت الدولة العثمانية على العراق قسمته إلى أربع ولايات: بغداد وفيها ثمانية عشر سنجقًا أو لواء إضافة إلى المركز، والموصل، وفيها ستة سناجق، وشهر زور وفيها واحد وعشرون سنجقًا بما فيها القلاع، والبصرة، ولم يكن فيها سناجق لتركيبها العشائري وتجبى ضرائبها بالالتزام. وقد حدثت فيما بعد تبدلات فرعية في هذه التقسيمات. ويرأس الجهاز الحكومي الوالي وغالبًا ما يكون برتبة وزير. ولوالي بغداد صلاحيات أوسع مما لولاة الولايات الأخرى، فهو مسؤول عن الإدارة المدنية والعسكرية ويعاونه وكيله الكتخدا. ويشرف الدفتردار على الأمور المالية. ويلي الوالي في المكانة الاجتماعية القاضي، فهو مسؤول عن تطبيق العدل ويعاونه رئيس الشرطة (صوباشي) والمحتسب (احتساب أغاسي) ومهمتهما تنفيذ الأوامر ومراقبة الأسواق. وبالإضافة إلى هذه المناصب هناك أغا الانكشارية قائد الحامية، و (المكتوبجي) كاتب الرسائل ومهردار (حامل الأختام) و (خزنة دار) أمين الصندوق (واحتشامات أغاسي) رئيس التشريفات، و (روزنامجي) كاتب الوقائع اليومية.
كانت كبرى المشكلات التي واجهت الحكم العثماني للعراق في ولايتي شهر زور والبصرة. فالأولى في منطقة الجبال على الحدود مع الدولة الصفوية، ولهذا تعرض الحكم العثماني فيها إلى الأخطار باستمرار. أما البصرة، فهي تقع في منطقة شديدة المراس، وكانت دائمًا تنازع سلطات بغداد. وقد أبدى العثمانيون مرونة مع الأسر المحلية المتنفذة التي أعلنت ولاءها، خاصة وأن العثمانيين حرصوا على تثبيت نفوذهم وسلطاتهم في منطقة البصرة من أجل التحكم بشبكة الطرق التجارية وبخاصة طريق الخليج العربي، وذلك من أجل منازلة البرتغاليين والتصدي لهم في منطقة الخليج العربي.
سادت العراق حقبة من الاستقرار دامت قرابة نصف قرن، تخللها عدد من الاضطرابات في منطقة البصرة نتيجة الثورات الفكرية. وقد أدرك السلطان سليمان القانوني أهمية العراق وأن ضياعه يعني تجدد الأطماع الفارسية في الأناضول، فعمل على التمسك به، وجند في سبيل ذلك إمكانات مالية وعسكرية كبيرة تحديًا لفارس وإصرارًا على الوقوف أمام أطماعها. وأصبحت السياسة العثمانية في عهده تقوم على الحفاظ على العراق وعدم التساهل في التنازل عن أي جزء منه. فنشط ولاة العراق في تأمين النظام داخل المدن وصد اعتداءات الصفويين على الحدود. وشيد بعض الولاة عددًا من الجوامع والمدارس، ونشطت التجارة في هذه الحقبة.
ثم أخذ الوضع العام في العراق في التدهور، وبدأت الفوضى وعدم الاستقرار في الانتشار مع مطلع القرن السابع عشر الميلادي، وكثرت الحركات الانفصالية، فاستغلها الصفويون الذين احتلوا بغداد ومناطق أخرى في عام 1623م. واستعاد العثمانيون بغداد مرة أخرى سنة 1638م بعد محاولات مستمرة. وأدت هذه الحروب إلى الكثير من الخراب والدمار، وكثرة الاضطرابات وحركات التمرد.
وتكررت محاولات الصفويين للاستيلاء على البصرة وبغداد، وانتهت هذه المحاولات بتوقيع معاهدة أرضروم عام 1847م بين الدولتين تم فيها اعتراف بلاد فارس بتبعية العراق للعثمانيين.
وتميزت فترة حكم المماليك بتعاقب ولاة مماليك على السلطة في بغداد، وظهور دور ملحوظ للقوى الأوروبية في إسناد ترشيح أحد الأغوات المماليك لولاية بغداد ممن يجدون في تعيينه ما يحقق لهم مزيدًا من المصالح في العراق، الأمر الذي أضاف عاملاً جديدًا في إبقاء السلطة بيد المماليك وترسيخ السيطرة العثمانية غير المباشرة، فكان تعيين سليمان باشا الكبير سنة 1194هـ، 1780م بدعم كل من المقيم البريطاني في البصرة والسفير البريطاني في إسطنبول. كما جاء تعيين خلفه علي باشا سنة 1802م بتدخل من المقيم البريطاني في بغداد، بينما وصل سليمان باشا الملقب بالصغير إلى الحكم سنة 1808م بمساندة ودعم من الفرنسيين، وكان آخر الولاة داود باشا.
وقد استطاعت الدولة العثمانية القضاء على المماليك إثر معركة وقعت بين الطرفين في رمضان 1225هـ، أكتوبر 1810م وظلت الأسر المحلية في العراق تحكم بموجب فرمانات من السلطة العثمانية كأسرة الجليلي في الموصل وأسرة البابانيين في السليمانية. وقد عينت الدولة العثمانية الوالي علي رضا باشا واليًا على بغداد وعمل على توطيد نفوذه في البلاد. وقد عملت بريطانيا على توطيد نفوذها في العراق، فأوفدت بعثات تقوم بأعمال المسح والتخطيط خلال الفترة (1830-1860م).
يرجع اهتمام بريطانيا بالعراق والخليج العربي وتطلعها إلى السيطرة عليهما منذ القرن السابع عشر الميلادي، وذلك لموقعهما الجغرافي وأهميتهما الاستراتيجية لوقوعهما على طريق مواصلات بريطانيا إلى الهند، درة التاج البريطاني آنذاك ؛ هذا فضلاً عن أهمية العراق الاقتصادية، ووجود النفط في أرضه، وقربه من حقول النفط البريطانية في بلاد فارس (إيران).
بدأ تسرب النفوذ البريطاني إلى العراق عن طريق دخول التجار والرحالة الإنجليز إلى ربوعه منذ أواخر القرن السادس عشر الميلادي، ثم عن طريق شركة الهند الشرقية البريطانية التي أنشأت أول وكالة لها في البصرة سنة 1053هـ، 1643م، ثم أصبح لوكيل الشركة مهمة سياسية، إضافية لعمله فيها، عندما أصبح قنصلاً لدولته. وازداد نفوذ بريطانيا في العراق في أعقاب قدوم الحملة الفرنسية على مصر.
غير أن النفوذ الإنجليزي لم يلبث أن واجه منافسة خطرة من روسيا التي احتلت شمالي فارس (إيران)، في محاولة منها للوصول إلى الخليج العربي فالمحيط الهندي، وتحويل تجارة فارس (إيران) والهند وآسيا الوسطى لمصلحة روسيا. فلجأت بريطانيا ـ كما أشرنا ـ إلى تشكيل شركة ملاحية وهي شركة لنش للملاحة والتجارة في نَهْري دجلة والفرات، وكانت لها سفن وبواخر كثيرة، كما اتسعت أعمالها وازدادت مالاً ونفوذًا. وكانت الحكومة البريطانية تدعمها، لأن الشركة المذكورة كانت تعمل على تقوية النفوذ البريطاني في العراق حتى تفاقم وأصبح خطرًا على كيانه، ولا سيما بعد أن أصبح الإنجليز يشرفون على الملاحة في شط العرب وعلى عملية إرشاد السفن فيه، الأمر الذي حدا بنواب العراق في (مجلس المبعوثان) العثماني النيابي سنة 1327هـ، 1909م لإثارة البحث حول وضع الشركة.
وظلت إنجلترا تعزز نفوذها السياسي في العراق سواء عن طريق التجارة أو خطوط البريد والبرق وإرسال البعثات للكشف عن آثار العراق، أو إقامة مشروعات، وتحرص على جعل هذه الأمور محصورة فيها دون غيرها من الدول، حتى واجهت المشروع الألماني الخاص بسكة حديد برلين ـ بغداد، فأوقفت المشروع ببسط نفوذها على الكويت عام 1317هـ، 1899م، وظلت بريطانيا تقاوم كل المحاولات الدولية الرامية للسيطرة على الخليج والعراق حتى قيام الحرب العالمية الأولى.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، تقدمت قوة بريطانية واحتلت البصرة في 5 نوفمبر 1914م لتبدأ عملياتها الحربية ضد الدولة العثمانية التي دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا، فقامت بريطانيا بإرسال حملة بحرية لتحتل العراق بالقوة وتحقيق ما كان التجار والبحارة والسياسيون والسياح والخبراء قد مهدوا له ووضعوا أسسه خلال ثلاثة قرون.
وقد تحركت الحملة الإنجليزية بقيادة الجنرال ديلامين بعد احتلال البصرة متقدمة إلى العمارة فاحتلتها في 3 يونيو 1915م كما احتلت الناصرية في 25 يوليو من العام نفسه بعد معارك دامية. وزعم الإنجليز أنهم جاءوا لتحرير العراق من ظلم الأتراك، وذلك من أجل كسب ود الشعب العراقي. وهكذا سيطر البريطانيون على منطقة جنوبي العراق بحيث ضمنت بريطانيا المحافظة على المصالح النفطية من جهة، والسيطرة التامة على الخليج العربي، من جهة أخرى.
تابعت القوات البريطانية زحفها في اتجاه بغداد حيث جرت معركة بين الإنجليز والأتراك في الكوت عام 1916م، وتمت هزيمة الإنجليز هزيمة ساحقة حيث تكبدوا خسائر فادحة، غير أن الإنجليز لم يتنازلوا عن احتلال بغداد، فجهزوا حملة بقيادة الجنرال مود تمكنت من هزيمة القوات التركية العثمانية، واحتلت بغداد في 11 مارس 1917م بعد انسحاب القوات التركية منها. وتابع الجيش البريطاني زحفه على الجبهات الأخرى بقيادة الجنرال مارشال الذي خلف مود، فاحتل سامراء ثم الرمادي وأخيرًا احتل الموصل في 7 نوفمبر 1918م واكتمل احتلال بقية العراق. وادّعى الإنجليز بعد احتلال بغداد أنهم دخلوها محررين وليسوا أعداء منتصرين.
كان الاحتلال البريطاني تنفيذًا لجزء من اتفاقية سايكس ـ بيكو التي اقتسم بها الإنجليز والفرنسيون مناطق النفوذ والسيطرة الاستعمارية في الشام والعراق، ولكن العراقيين كانوا يأملون تحقيق الاستقلال نظرًا لوعود بريطانيا للشريف حسين من جهة خاصة بعد نجاح الثورة العربية ضد الأتراك العثمانيين، وكذلك وعود بريطانيا لهم بالاستقلال والحرية من جهة أخرى، مما دفعهم لعدم مساعدة الأتراك خلال الحرب.
وكان السير بيرسي كوكس المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي رئيسًا لإدارة الاحتلال، وقد أصبح فيما بعد المندوب السامي المسؤول عن الإدارة المدنية، فوضع أنظمة وقوانين مستمدة من الهند، وفرض الضرائب.
فوجئ العراقيون في نهاية الحرب العالمية الأولى بإنشاء إدارة استعمارية في العراق على نمط الإدارة في الهند، ووعد الإنجليز بتنظيم الإدارة في العراق على شكل يؤمن مطالب الجيش المحتل من جهة، ويحقق السلام العام للأهالي ويوفر نوعًا من الرخاء الاقتصادي، والنشاط التجاري في البلاد، من جهة أخرى.
إلا أنهم لم يفوا بوعودهم بل عمدوا إلى تأمين مقتضيات الاحتلال ومتطلباته قبل كل شيء، والعمل على "تهنيد" العراق وخاصة القسم الجنوبي منه، وذلك بإشاعة النظم والقوانين والمبادئ الإدارية الهندية تمهيدًا لضم جنوب العراق إلى الهند، كما اهتموا بكسب ودّ العشائر لخدمة المصالح البريطانية، فزودوها بالمال والسلاح ومنحوها إقطاعات كبيرة من الأرض. كما عامل الإنجليز الأهالي معاملة العدو المغلوب، واستولوا على جميع الوظائف في الدولة، وجنّدوا الفلاحين لعمل السُخْرة، وحظروا تجارة المواد الغذائية إلا بعد تأمين حاجة الجيش، ونفوا زعماء العشائر والضباط العرب الذين اشتركوا في الثورة العربية الكبرى إلى الهند وسيلان ومصر. هذا فضلاً عن فرض الضرائب الباهظة التي أثقلت كاهل الشعب العراقي، وذلك لتغطية نفقات الجيش البريطاني في العراق.
وتحوّل شعور الشعب العراقي من الدهشة والاستغراب والمفاجأة من هذه الأعمال إلى نقمة ثورية وحين سمع العراقيون بإقامة حكومة عربية في دمشق، وبالمبادئ الأربعة عشر للرئيس الأمريكي ولسون، وبخاصة مبدأ حق تقرير المصير للشعوب، بادروا إلى تكوين جمعيات تطالب بالاستقلال، مثل حرس الاستقلال وجمعية العهد، اللتين تأسستا عام 1919م. وأرسل بعض الضباط العراقيون مذكرة إلى الحكومة البريطانية تطلب إقامة حكومة وطنية في العراق. ولكن الرد البريطاني كان مخيبًا للآمال، كما أن مقررات مؤتمر سان ريمو عام 1920م أوضحت نوايا الحلفاء الاستعمارية والتي تقرر بموجبها فرض الانتداب البريطاني على العراق. الأمر الذي أثار استياء الشعب العراقي وغضبه مما دفعه للكفاح من أجل التخلص من الاحتلال ونيل الاستقلال.
وقد أظهرت هذه الثورة صعوبة استمرار الحكم البريطاني المباشر في العراق. ونتيجة لانتقادات الساسة البريطانيين في مجلس العموم البريطاني لسياسة بريطانيا في العراق، قررت الحكومة البريطانية أن تحكم العراق بصورة غير مباشرة، وذلك بإقامة حكومة وطنية فيه.
ومهما يكن من أمر فقد بدأ التدخل الأجنبي في الحكومة، وقد واجه فيصل وحكومته مشكلات داخلية وخارجية معًا: أما المشكلات الداخلية فكانت تتعلق بالقبائل والأقليات كالأكراد والآشوريين والانقسام الطائفي بين السُنة والشيعة. أما المشكلات الخارجية فتتعلق بموقف العراق من بريطانيا والتي أجبرته على توقيع معاهدة معها في 10 أكتوبر 1922م تضمنت أسس الانتداب، واشترطت المعاهدة تأسيس مجلس تأسيسي منتخب لتشريع الدستور وإصداره.
ثم سمح فيصل بإنشاء الأحزاب السياسية على النمط الأوروبي في عام 1922م، وتشكلت ثلاثة أحزاب كان اثنان منها يمثلان المعارضة، هما الحزب الوطني العراقي وحزب النهضة العراقية، ويطالبان بالاستقلال وإقامة حكومة ملكية دستورية في العراق ؛ في حين يطالب الحزب الثالث، وهو الحزب الحر العراقي بتأييد الوزارة ويؤيد عقد معاهدة تحالف مع بريطانيا.
أصبح لهذه الأحزاب أثر واضح في الحياة السياسية للعراق، فقد نظم الحزب الوطني وحزب النهضة مظاهرة شعبية في الذكرى الأولى لتتويج الملك نادت بإلغاء الانتداب. وألقيت الخطب الوطنية الحماسية مما جعل المندوب السامي البريطاني يحتج على ذلك. ونجم عن ذلك حلّ حزبي المعارضة ونفي زعمائهما إلى خارج البلاد. وعم السخط كل أنحاء العراق، وقامت انتفاضات شعبية في بعض أنحاء العراق، فلجأ المندوب السامي إلى القصف الجوي لقمع هذه الانتفاضات، واستخدم العنف والقسوة ضد مناوئي الانتداب.
وأجريت الانتخابات للمجلس التأسيسي في فبراير 1924م، استخدمت فيها بريطانيا كل وسائل الضغط والإكراه في سبيل السيطرة على عملية الانتخابات، وتم افتتاح المجلس التأسيسي في مارس عام 1924م، وانتخب عبد المحسن السعدون رئيسًا له، وحددت مهمة المجلس بالتصديق على معاهدة 1922م التي تؤمن استقلال العراق ودخوله عصبة الأمم وحسم مشكلة الموصل.
وجوبهت المعاهدة بمعارضة شديدة، ولجأت الحكومة إلى الإرهاب، ورفض المندوب السامي البريطاني إجراء بعض التعديلات على المعاهدة قبل إبرامها. وتم التصديق على المعاهدة وإعلان الدستور وقانون الانتخابات. وانحل المجلس التأسيسي وحل محله مجلس النواب في 21 مارس 1925م.
أنهى المجلس مشكلة الموصل التي كانت تطالب بها تركيا، وعرضت قضية الموصل على عصبة الأمم التي أوصت بأن تكون ضمن المملكة العراقية على شرط أن تبقى تحت الانتداب البريطاني مدة 25 سنة. وعلى أثر ذلك تم عقد معاهدتين الأولى بين العراق وبريطانيا في 13 يناير 1926م والثانية بين العراق وتركيا وبريطانيا في 5 يونيو 1926م، تضمنت علاقات حسن الجوار، ونص فيها على اعتبار الحدود نهائية. وصادق البرلمان العراقي على المعاهدة في 18 يناير 1926م التي كانت مادتها الثالثة تنص على إمكان النظر في دخول العراق عصبة الأمم بعد أربع سنوات.
وعمل الملك فيصل بن الحسين على تأسيس الجيش العراقي الحديث، وإنشاء الكلية العسكرية عام 1925م. وتقدم التعليم في عهده، فأرسل البعثات العلمية إلى الخارج، واستقدم المدرسين والمهندسين والفنيين من مصر، وأنشأ عدة كليات كانت نواة لجامعة بغداد، كما عمل على توسيع الزراعة عن طريق مشروعات الري الحديثة، وقيام الصناعات النسيجية الآلية، واستغلال آبار النفط. وعقد كذلك معاهدات صداقة وحسن جوار مع كل من المملكة العربية السعودية والأردن وتركيا عام 1931م ومع إيران عام 1932م. وأنهى الخلافات القديمة بينه وبين جيرانه وحل مشكلات الحدود.
وبالنسبة لامتيازات النفط الأجنبية في العراق، فقد وقِّع اتفاق في 14 مارس 1925م يصبح النفط بموجبه مِلكًا لشركة مساهمة تضم بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وتؤمن المصالح الأجنبية فيها، وسُميت شركة نفط العراق المحدودة، وبدأت بتصدير النفط عام 1934م عن طريق ميناء حيفا في فلسطين. وقد بلغ إنتاجها خلال ذلك العام حوالي ثلث مليون طن. وقد استغلت الدول الكبرى مسألة النفط للضغط على العراق من أجل موافقتها على ضم الموصل إليه.
غير أن فيصلاً الذي لم يكن راضيًا تمامًا عن المعاهدة، اتبع سياسة خذ وطالب التي تؤدي إلى الاستقلال خطوة بعد أخرى.
وأخذ العراقيون يعملون على إزالة الحكم المزدوج الذي تمتع فيه البريطانيون بمشاركة العراقيين في إدارة البلاد، وظلت العناصر الوطنية تنظر إلى معاهدة 1922م على أنها كبدت العراق عبئًا ثقيلاً في قيودها وشروطها ومسؤولياتها. ولذا عُدّل عُمْر المعاهدة من عشرين سنة إلى أربع سنوات فقط، ثم استبدل بها عام 1926م معاهدة أخرى من أجل قضية الموصل. وجرت مفاوضات بين الحكومتين العراقية والبريطانية بشأن تعديل الاتفاقيتين المالية والعسكرية، وانتهى الأمر بالتوقيع على معاهدة جديدة تحل محل المعاهدتين السابقتين في 14 ديسمبر 1927م. وأدت هذه المعاهدة إلى تقليل الرقابة والإشراف البريطاني على الشؤون العسكرية والمالية في العراق، كما تضمنت المعاهدة وعدًا من جانب بريطانيا بتأييد ترشيح العراق لعضوية عصبة الأمم في عام 1351هـ، 1932م.
وتأزَّم الموقف بين العراق وبريطانيا حيث كان الشعب يطالب بالاستقلال وإلغاء الانتداب، في حين كانت الحكومة البريطانية تصر على عقد معاهدة جديدة في شكل لا يختلف بمضمونه عن المعاهدات السابقة. ونتيجة لذلك أُصيب الشعب بخيبة أمل واستقالت عدّة وزارات لأنها لم تستطع تلبية رغبات الشعب في الحرية والاستقلال لأن الوضع في العراق كان قائمًا على أساس حكومة وطنية خاضعة لنفوذ المستشارين البريطانيين.
هاج الشعب وقامت مظاهرات صاخبة ضد تدخل المندوب السامي البريطاني، وتأزمت العلاقات من جديد. ولم ينه هذا الصراع إلا تشكيل وزارة جديدة برئاسة نوري السعيد، الذي بدأ المفاوضات مع الجانب البريطاني في بغداد وانتهت بالتوقيع على المعاهدة في 18 يوليو 1930م. وقد ألّف نوري السعيد كما أشرنا حزب العهد الموالي لبريطانيا والمدافع عن المعاهدة، في حين شكلت المعارضة الوطنية حزب الإخاء الوطني برئاسة ياسين الهاشمي.
وقد قوبلت المعاهدة بآراء مختلفة، فقد وجد فيها فيصل ونوري السعيد خطوة أولية موفقة نحو الاستقلال التام مع حفظ بعض المصالح البريطانية، بينما عدّها رجال المعارضة العراقيون صكًا انتدابيًا مغلفًا، ووسيلة لتدعيم النفوذ البريطاني في بلاد الرافدين. وغدت هذه المعاهدة نموذجًا يُحتذى به لمعاهدات أخرى مع الدول العربية.
وفي 3 أكتوبر 1932م قرر مجلس عصبة الأمم قبول العراق عضوًا في العصبة، وأصبح العراق الدولة السابعة والخمسين من أعضاء العصبة، وانتهت عندئذ مهام المعتمد السامي البريطاني، وحلّ بدله السفير البريطاني لتمثيل دولته.
برهن فيصل على أنه رجل دولة وسياسي محنّك، واستطاع أن يتحرك بهدوء وحذر لكسب ثقة الشعب العراقي وتأييده، وفي الوقت نفسه كان يمالئ السياسة البريطانية متبعًا سياسة خذ وطالب. كما وطَّد علاقاته مع مختلف القوى والحركات السياسية والاجتماعية في العراق بما فيها القوى الوطنية المعارضة، فكان يتقرب من فئة سياسية لينال تنازلات من الفئة المناوئة الأخرى. وكانت غايته التقليل من النفوذ البريطاني دون إثارة حفيظة البريطانيين عليه مما قد يؤدي إلى خلعه عن العرش.
نجح الملك فيصل بذكائه وكياسته في أن يكون نقطة الالتقاء ومركز الثقل لجميع القوى والمصالح السياسية والاجتماعية، وأن يكون الموجِّه والموازن لحركتها. وقد استخدم نفوذه من أجل تقليل الاحتكاك والتصادم بين الأطراف المتنازعة والمتنافسة.
وقد نظر العرب إلى العراق بعد استقلاله نظرة أمل في أن يسهم بنصيب كبير في مساعدة البلدان العربية الأخرى لنيل استقلالها وتحررها. وساعدت هذه الظروف على أن يكون العراق ملجأ للعرب الفارين من اضطهاد سلطات الانتداب أو السلطات المحلية في كل بلاد الشام، وطالب بعضهم الملك فيصل بإقامة دولة واحدة من العراق وبلاد الشام تحت العرش الفيصلي. وظن بعضهم أن العراق يمكن أن يؤدي دورًا أساسيًا في الاتحاد العربي من جهة، وتحرير البلاد العربية واندماجها في وحدة شاملة من جهة أخرى. وهكذا أصبح العراق مركز الثقل في الحركة العربية في المدة الواقعة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية بسبب غدر الإنجليز بأماني العرب في الوحدة والتحرر إبان الحرب العالمية الأولى، مما ساعد على ظهور الحركة العربية في العراق. وكانت هذه الحركة تصب فيها روافد القضايا العربية الأخرى أكثر مما كانت تتحكم فيها ظروف العراق الخاصة.
وعلى العموم، فإن العراق قد تقدم وتطور خلال حكم الملك فيصل (1921-1933م) ونتيجة لمواقف فيصل الرائدة في المجالات الداخلية والخارجية والعربية والدولية، فإنه قد حظي بحب الجماهير وتأييدها، إلا أن الأجل لم يمهله لمتابعة مسيرة الكفاح والنضال، فتوفي في السابع من سبتمبر 1933م، وترك فراغًا كبيرًا كان له أبلغ الأثر في مستقبل العراق عامة ومستقبل الأسرة الهاشمية الحاكمة بصورة خاصة. وخلفه مباشرة ابنه غازي الذي حكم في الفترة من 8 سبتمبر1933 إلى3 أبريل 1939م.
كان غازي عند تتويجه شابًا يافعًا قليل الخبرة. وفي خلال السنوات الأولى من حكمه، ترك إدارة شؤون البلاد إلى مجلس الوزراء ورجال الطبقة الحاكمة الذين كانوا يتنافسون على السلطة، ويحاولون إرضاء السفارة البريطانية. ولم يعد بمقدور الملك الشاب أن يكون مركز الثقل في السياسة الخارجية والداخلية للعراق، كما لم يعد بمقدوره أن يوازن بين القوى والمصالح الوطنية وبين السفارة البريطانية والقوى السياسية والاجتماعية الموالية لها ؛ لهذا شهدت فترة حكمه اضطرابات وانتفاضات عشائرية كثيرة وانقلابات عسكرية متعددة، أدت إلى دخول الجيش معترك السياسة، وفرض سيطرته على الحياة السياسية في العراق عدة مرات.
وخلال فترة الثلاثينيات تشكلت في العراق مجموعات سياسية وطنية بعضها يؤيد التعاون مع بريطانيا، وبعضها الآخر يرفض النفوذ البريطاني كلية، وآخرون يقفون موقفًا وسطًا بين الجانبين لما فيه مصلحة العراق.
وفي عهد الملك غازي، شهدت البلاد كثرة تغيير الوزارات، وفساد الحياة النيابية، وعجز التنظيمات السياسية والحزبية عن التعبير عن وجهة نظرها في غياب الديمقراطية، فاضطرت معظم الأحزاب والمجموعات السياسية إلى التحالف مع فئات غير سياسية، كالعشائر والجيش، تملك قوة السلاح والأفراد من أجل مساعدتها للوصول إلى الحكم. وقد شهدت هذه الحقبة العديد من حركات التمرد العشائرية والانقلابات العسكرية من أجل إسقاط حكومة وتبديلها بحكومة أخرى.
وفي مايو 1936م قامت بعض العشائر بحركة أخرى ضد حكومة ياسين الهاشمي، إلا أن الحكومة أصدرت أوامرها إلى الجيش للقضاء على الحركات العشائرية.
ومما يجدر ذكره، أن الجيش العراقي كان قوة وطنية ضاربة بعد الاستقلال، وقد تمثل ذلك في إخماد الجيش العراقي لفتنة الآشوريين عام 1933م، وكذلك إخماد ثورات الفرات الأوسط (الرميثة وسوق الشيوخ والمنتفق) عام 1935م، ثم قمعه لحركة بارزان واليزيدية في الشمال خلال عامي 1935 و1936م. وقد اندلعت هذه الثورات والانتفاضات بإيعاز من رجال السياسة في بغداد، أو بسبب معارضة القبائل لقانون التجنيد الإجباري.
وعلى العموم، فقد قام الجيش بأول انقلاب عسكري في بغداد بقيادة بكر صدقي للإطاحة بوزارة ياسين الهاشمي عام 1936م، غير أن ضباط الجيش أطاحوا به بعد عشرة أشهر فقط، وذلك لأنهم كانوا يريدون إنهاء مظاهر التدخل الأجنبي، ووضع نظام سياسي سليم مستقر، وتحرير الدول العربية الشقيقة التي كانت تسعى للحرية والوحدة. وظل الجيش القوة المحركة للسياسة العراقية من وراء ستار، وصار هو الذي يقر تشكيل معظم الوزارات وإسقاطها خلال الفترة 1937 - 1941م عن طريق الانقلابات العسكرية.
وكان لموقف الحكومة رد فعل سيئ لدى الأوساط الشعبية في العراق، لا سيما وأن بريطانيا كانت تمارس سياسة بغيضة في الأوساط العراقية، في حين كانت ألمانيا تحرز انتصارات كاسحة وتمني العراقيين بوعود من أجل حرية العراق واستقلاله، وعدائها للاستعمار واليهود. وقد انعكس هذا التطور على الوضع السياسي في العراق، فانتظمت مختلف الفئات والقوى السياسية في معسكرين متضادين دخلا في صراع مفتوح للسيطرة على مقاليد الأمور، وكان المعسكر الأول يضم المجموعة الموالية لبريطانيا، في حين يضم المعسكر الثاني المجموعة الوطنية والقومية المناوئة لبريطانيا والحلفاء والمؤيدة لدول المحور.
وقد طالبت المجموعة الثانية بالوقوف موقف الحياد بين الأطراف الدولية المتنازعة، ودعت إلى تطبيق بنود المعاهدات والمواثيق التي يرتبط بها العراق باعتدال دون الاندفاع بالوقوف إلى جانب بريطانيا في حربها مع المحور، كما رأت وجوب استغلال فرصة الحرب لمساومة بريطانيا وفرنسا من أجل الحصول على ضمانات وتنازلات لتحقيق استقلال البلاد العربية، وضمان حق الشعب العربي الفلسطيني، وتسليح الجيش العراقي وتنمية اقتصاديات العراق.
وكان يتزعَّم هذا المعسكر الوطني رشيد عالي الكيلاني وناجي شوكتْ وناجي السويدي وتدعمهم شخصيات عربية أمثال الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين وفوزي القاوقجي. وقد حصلت هذه المجموعة على تأييد واسع من قِبل الشعب العراقي وفي صفوف الجيش خاصة.
وبدا واضحًا أن صِدَامًا عنيفًا سيحدث في المستقبل، فاستقالت وزارة نوري السعيد في مارس 1940م، وتم تكليف رشيد عالي الكيلاني رئيسًا للوزراء. وقد ألحت بريطانيا على الوزارة لإعلان العراق الحرب على ألمانيا، فطلب رئيس الوزراء العراقي رشيد عالي الكيلاني من بريطانيا تعهدًا باستقلال فلسطين واستقلال سوريا نظير إعلان الحرب على ألمانيا واشتراك العراق في الحرب. ولكن الحكومة البريطانية رفضت ذلك فتأزمت العلاقات بين الطرفين.
في هذه الأثناء جرت اتصالات بين الوطنيين والحكومة الألمانية لمعرفة موقفها فيما لو قامت ثورة ضد بريطانيا وفرنسا، فأصدرت ألمانيا بيانًا تبدي فيه تعاطفها وتأييدها للقضايا العربية في المستقبل. وكان ذلك بمثابة إشارة للعراقيين للقيام بعمل ما ضد بريطانيا، الأمر الذي دفع الإنجليز إلى إسقاط وزارة الكيلاني وإقامة وزارة موالية لهم، وبالفعل أُطيح بوزارة الكيلاني، وتشكلت وزارة جديدة برئاسة طه الهاشمي التي قررت إقصاء الضباط الأحرار، العقداء الأربعة، وهم: صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب، الذين أُطلق عليهم المستعمرون المربع الذهبي. فرفض الضباط أوامر الوزارة وقاموا بانقلاب عسكري أطاح بالوزارة، وشكلوا حكومة الدفاع الوطني في 2 أبريل 1941م برئاسة رشيد عالي الكيلاني، وفر الوصي عبد الإله إلى البصرة ومنها إلى عمَّان، وانتخب المجلس النيابي الشريف شرف وصيًا على العرش العراقي بدلاً من الأمير عبد الإله، وكلف رشيد عالي الكيلاني بتأليف الوزارة الجديدة.
ورغم الزيادة الملحوظة في عدد الطلاب والمدارس إلا أن اتجاه التعليم ظل خلال تلك الفترة مُركّزًا على تخريج كوادر وظيفية وأهملت الكوادر الفنية والعلمية، فحتى سنة 1945م لم يكن في العراق غير إعدادية زراعية واحدة وإعداديتين صناعيتين فقط.
وشهد قطاع التعليم زيادة نسبية في عدد طلاب الكليات والمعاهد العالية. ففي عام 1920-1921م كان عدد الطلاب في المعاهد العالية 65 طالبًا، وفي عام 1932- 1933م أصبح 115 طالبًا، ثم ارتفع في عام 1945- 1946م إلى 2146 طالبًا بينهم 284 طالبة. واستمرت الحكومة العراقية في إرسال البعثات العلمية إلى خارج العراق للحصول على تخصصات عالية. ومع ذلك فإن تطور التعليم لم يكن يسد حاجة العراق من المدرسين والمدارس. وأدى ذلك إلى حرمان أبناء الشعب العراقي من التعليم وخاصة في القرى والأرياف، فحتى عام 1946م كانت نسبة الأمية في العراق تزيد على 90% من مجموع السكان.
لكن العراق شهد نهضة علمية واسعة في الخمسينيات وحتى التسعينيات من القرن العشرين، فازدادت المدارس والجامعات والمعاهد العلمية والفنية والصناعية ونشطت الحركة العلمية إلى أبعد مدى، حيث أصبح لدى العراق علماء مبدعون ومخترعون في كافة مجالات العلوم والتكنولوجيا.
الزيادة في عدد الطلاب والمدارس بين عامي1920-1946م. | ||||||||||||||||||||
|
رأت بريطانيا في أعقاب انتصار دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، أن تخفف من وطأة الحكم وقسوته في العراق، فأصدر الوصي بيانًا يمنح قدرًا ما من الحرية بعد فترة قاسية من الكبت، وأعلن كذلك عزم الحكومة العراقية على إطلاق الحريات العامة، والسماح بتأليف الأحزاب والجمعيات السياسية والسير بالبلاد على أسس ديمقراطية. ونتيجة لذلك ظهرت بعض الأحزاب الجديدة، أهمها حزب الاستقلال، وحزب الأحرار، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب، وحزب الاتحاد الوطني. كما كانت هناك أحزاب ممنوعة مثل حزب البعث والحزب الشيوعي. ولكن هذه الأحزاب جميعها واجهت صعوبات من الحكومة العراقية وصلت إلى حد إلغائها.
وشارك العراق في تأسيس الجامعة العربية عام 1945م، وأصبح عضوًا فيها، كما عقد معاهدة تعاون مع الأردن عام 1946م، وعقد كذلك معاهدة صداقة مع تركيا في العام نفسه انتقدتها القوى الوطنية. وأخيرًا طلب العراق إجراء مفاوضات مع بريطانيا لتعديل المعاهدة بينه وبين بريطانيا فانتهت هذه المفاوضات بتوقيع معاهدة بورتسماوث، أو معاهدة صالح جبر ـ بيفن 1948م التي تنص على التحالف الدفاعي مع بريطانيا وتلغي المعاهدات السابقة جميعًا، يوافق العراق بمقتضاها على إقامة قواعد جوية في أراضيه، مع تقديمه كافة التسهيلات للجيوش البريطانية في العراق. وقد رفض عامة العراقيين هذه المعاهدة، فاضطر الوصي إلى أن يصدر بيانًا بإلغائها.
وكان لهزيمة 1948م أثرها السياسي في العراق، إذ زادت النقمة على الحكومة، وزادت المعارضة لدور الجيش العراقي في الحرب ومؤازرته للجيش الأردني، فعمدت الحكومة إلى حل الأحزاب والبطش بالمعارضة. لكن المعارضة للحكومة أخذت في التصاعد وأسفرت عن انتفاضة عام 1952م التي تأثرت كثيرًا بالأحداث الدولية آنذاك (حركة مصدق وتأميم النفط في إيران وثورة مصر في 23 يوليو 1952م)، وطالبت الانتفاضة بالحريات والديمقراطية وإصلاح أحوال الشعب. ولكن الحكومة لم تستجب لهذه المطالب، وقررت استخدام الجيش للقضاء على الانتفاضة.
ولجأ رئيس الوزراء نوري السعيد في عام 1953م إلى التضييق على الحريات مرة أخرى تمهيدًا لعقد حلف بغداد، الذي تم التوقيع عليه عام 1955م، ووقعته كل من تركيا وباكستان وإيران وبريطانيا والعراق، بهدف حماية المصالح الغربية في منطقة الخليج. واستغل نوري السعيد هذا الحلف في القضاء على العناصر المعارضة بحجة مكافحة الشيوعية.
وتميزت سياسته الخارجية بعدة أزمات مع الدول العربية خاصة، كان من أهمها الأزمة التي أثارها مع الكويت عند استقلاله في 19 يونيو 1961م، حيث طالب بضم الكويت إلى العراق، ولكن الجامعة العربية استطاعت أن تسيطر على الأزمة وتحتويها لتُحل في إطار عربي. وقد عزلت هذه الأزمة العراق عن باقي الدول العربية، خاصة بعد انسحابه من الجامعة العربية.
أدت هذه العزلة الخارجية إلى قيام انقلاب عسكري أطاح بعبد الكريم قاسم في 28 فبراير 1963م، 14 رمضان 1383هـ، وتسلم الحكم من بعده عبد السلام عارف بالتعاون مع حزب البعث العربي الاشتراكي، ولكنه ما لبث أن تخلص من البعث بعد ثمانية أشهر من الحكم، واستمر في الرئاسة حتى سقطت به الطائرة في البصرة في أبريل 1966م، فتسلم رئاسة الجمهورية شقيقه عبد الرحمن عارف الذي استمر في الحكم حتى عام 1968م حين تمكن حزب البعث من أن يقوم بانقلاب عسكري عليه في 17/7/1968م وتسلم الحزب حكم البلاد، وصارت رئاسة الجمهورية للفريق الركن أحمد حسن البكر. وفي عام 1979م تنازل البكر عن رئاسة الجمهورية لأسباب صحية وخلفه صدّام حسين.
شهد العراق خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين تقدمًا ملحوظًا في الزراعة والصناعة والتجارة والتكنولوجيا، وأصبح يقوم بأقوى وأهم الصناعات العسكرية والإلكترونية وغير ذلك بحيث أصبح العراق من الدول القوية عسكريًا. ولكن الأزمة التي واجهها العراق بسبب احتلاله لدولة الكويت عام 1990م أفقدته كل ما حصل عليه من تقدم كما سيوضح بعد قليل.
واجهت العراق مشكلات كبرى ثلاث كانت ذات نتائج سلبية عليه. أهم هذه المشكلات كانت المشكلة الكردية. وهذه المشكلة قديمة أثيرت أكثر من مرة في العهد الملكي وفي العهد الجمهوري كذلك، وتتلخص في مطالبة الأكراد بالاستقلال الذاتي. وكان الإنجليز وراء إثارة الأكراد للضغط على الحكومات العراقية لتنفيذ خطط بريطانيا. عقد صدام حسين نائب الرئيس العراقي وقتذاك اتفاقًا مع شاه إيران محمد رضا بهلوي عام 1975م في الجزائر، اتفقا فيه على مناصفة شط العرب بين الدولتين مقابل كف إيران عن مساعدتها للأكراد. وبالفعل توقفت الثورة نهائيًا وخرج الملا مصطفى البرزاني من العراق إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وظل هناك حتى توفي عام 1979م.
لكن الرئيس صدام حسين ألغى هذا الاتفاق، وذلك بعد سقوط شاه إيران وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وأدى هذا الإلغاء إلى المشكلة الثانية وهي الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988م) ؛ أي حرب الخليج الأولى التي تكبد فيها العراق وإيران خسائر بشرية ومادية كبيرة. وما كاد العراق يُضمِّد جراحه حتى جاءت المشكلة الثالثة، وهي كبراها، وذلك باحتلاله الكويت في 2/8/1990م، الأمر الذي أدى إلى قيام تحالف دولي ضده وقيام حرب الخليج الثانية في 17/1/1991م التي أسفرت عن هزيمة الجيش العراقي، وخروجه من الكويت، وفرض عقوبات سياسية واقتصادية وعسكرية على العراق من قِبل مجلس الأمن مشروط رفعها بأشياء عدة، أهمها تدمير العراق لما يوصف بأسلحة الدمار الشامل، واعترافه بدولة الكويت، وقبوله المراقبة الدولية لتسلحه، وحظر تصدير النفط إلا بموافقة مجلس الأمن، لأغراض نص عليها المجلس.
وفي 1991م أرسل مجلس الأمن فريقاً من الخبراء إلى العراق لتقويم قدرة العراق على إنتاج الأسلحة النووية. وقد وجد الفريق أن البرنامج العراقي لتطوير مثل هذه الأسلحة أكثر تقدماً مما كان يعتقد من قبل. وقد بدأ مجلس الأمن في إرسال مفتشيه للبحث عن أسلحة العراق وتدميرها. وفي نوفمبر 1994م، اعترف العراق بسيادة دولة الكويت واستقلالها. وفي 20 مايو 1996م سمحت الأمم المتحدة للعراق ببيع ما قيمته مليار دولار من نفطه كل 3 شهور لشراء بعض الأغذية والأدوية في برنامج عرف باسم النفط مقابل الغذاء. وبنهاية عام 2001م ظلت الأمم المتحدة ترى أن العراق لم يتعاون مع موظفيها من مفتشي أسلحة التدمير الشامل بشكل كاف، وتوقف برنامج النفط مقابل الغذاء عدة مرات خلال عامي 2000م و2001م بسبب الخلاف حول تنفيذ بعد التعاقدات، وظلت المنظمة الدولية تطبق العقوبات على العراق.
ولا ريب أن نتائج هذه الحرب الأخيرة قد أثرت على الشعب العراقي بكافة فئاته، فظل يعاني نقص المواد التموينية والأدوية وغير ذلك، وتوقفت حركة البناء والتعمير والمشروعات الزراعية والصناعية بسبب توقف إنتاج النفط وعدم تصديره إلى الخارج.
أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بعد الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له بلاده في 11 سبتمبر 2001م، أن العراق إحدى دول محور الشر الداعمة للإرهاب والساعية إلى الحصول على أسلحة الدمار الشامل، وأكد على ضرورة توجيه ضربات استباقية وحتمية لتغيير النظام العراقي. وفي سبتمبر 2002م، أعلن بوش أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن نظام صدام يشكل تهديداً مباشراً بسبب تاريخه الحافل في مهاجمة جيرانه، واستخدامه للأسلحة الكيميائية، ومساندته للجماعات الإرهابية، وتحديه السافر والمستمر لقرارات مجلس الأمن. وخلال الشهور التالية مهدت الإدارة الأمريكية عبر حشودها العسكرية ومساعيها الدبلوماسية والإعلامية لشن حرب ضد العراق.
قام العراق بسلسلة من الإجراءات للحيلولة دون اندلاع الحرب، فأعاد في أكتوبر 2002م للكويت أرشيفها الوطني الذي كان قد استولى عليه خلال احتلالها عام 1990م. وسمح لخبراء الأمم المتحدة في 27 ديسمبر 2002م باستئناف عمليات التفتيش على أسلحة الدمار الشامل وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 1441. وفي مطلع عام 2003م، وافق العراق على التخلص من صواريخ الصمود. لم تثن هذه الإجراءات الولايات المتحدة عن شن حرب (لتحرير) العراق فأطلقت في 25 فبراير 2003م مشروعاً في مجلس الأمن بالتضامن مع المملكة المتحدة وأسبانيا يدعو لشن حملة عسكرية ضد العراق. عارضت معظم الدول الأعضاء في المجلس مشروع القرار قبل التصويت عليه، ولوحت فرنسا وألمانيا باستخدام حق النقض (الفيتو) لاسقاطه فلم يتم التصويت عليه. وفي مارس 2003م، حدد الرئيس الأمريكي مهلة للرئيس صدام حسين للخروج من العراق أو شن حملة عسكرية عليه. وعاد بوش وأكد حتمية دخول قواته العراق سواء خرج صدام أم لم يخرج منه. وبعد أقل من ساعتين من انقضاء المهلة المحددة صبيحة 20 مارس بدأت حرب (تحرير) العراق. وفي اليوم الثامن من أبريل احتلت القوات الأمريكية والبريطانية القصور الرئاسية في بغداد. وفي التاسع من أبريل عام 2003م أي بعد مرور 21 يوماً على اندلاع الحرب سقطت بغداد، وكان انهيار الجيش والنظام العراقي دون مقاومة تذكر مفاجئاً. دمرت الحرب البنية التحتية للعراق. ونهب الغوغاء تحت بصر جنود الاحتلال المتاحف والمصارف والدواوين الحكومية، وأحرقوا المكتبات وسادت الفوضى. وتحت الاحتلال الأمريكي البريطاني تم تكوين مجلسين أحدهما للحكم الانتقالي والآخر للوزراء على أساس تمثيلٍ طائفي. وفي الوقت نفسه تصاعدت أعمال المقاومة العراقية ضد الاحتلال ؛ فهي تضرب في أكثر من موقع كل يوم.
ظل صدام حسين ملاحقاً من القوات الغازية التي أعلنت مقتل نجليه عدي وقصي في معركة بمدينة الموصل في 22 يوليو 2003م. وفي 14 ديسمبر من العام نفسه أعلن مسؤولون أمريكيون اعتقال صدام في مزرعة بتكريت.
ونتيجة لضعف السيطرة الأمنية، تختلط أعمال المقاومة ضد الجنود الأمريكيين والبريطانيين بتخريب المنشآت والبنية الأساسية للبلاد وبسقوط الضحايا من المدنيين العراقيين ومن العاملين في الهيئات الدولية. وتعلن الحكومة الأمريكية أن جنودها سيرحلون عن البلاد فور تحقيق الأمن وإرساء نظام ديمقراطي.