الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة

قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه ونور ضريحه:

الحمد لله رب العالمين.

قاعدة نافعة

في وجوب الاعتصام بالرسالة، وبيان أن السعادة والهدى في متابعة الرسول ﷺ، وأن الضلال والشقاء في مخالفته، وأن كل خير في الوجود؛ إما عام، وإما خاص فمنشأه من جهة الرسول، وأن كل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول، أو الجهل بما جاء به، وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة.

والرسالة ضرورية للعباد، لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } [1]، فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب في الظلمات. وسمي الله تعالى رسالته روحًا، والروح إذا عُدِم فقد فقدت الحياة، قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلىكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } [2]، فذكر هنا الأصلين، وهما: الروح، والنور. فالروح الحياة، والنور النور.

وكذلك يضرب الله الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونورًا لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض، وبالنار التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ } [3].

فشبه العلم بالماء المنزل من السماء؛ لأن به حياة القلوب، كما أن بالماء حياة الأبدان، وشبه القلوب بالأودية؛ لأنها محل العلم، كما أن الأودية محل الماء، فقلب يسع علمًا كثيرًا، ووادٍ يسع ماء كثيرًا، وقلب يسع علمًا قليلا وواد يسع ماء قليلا، وأخبر تعالى أنه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء، وأنه يذهب جُفَاءً، أي: يرمي به ويخفي، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، فإذا تَرَابَي فيها الحق ثارت فيها تلك الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاء ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس، وقال: { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } [4]، فهذا المثل الآخر وهو الناري، فالأول للحياة، والثاني للضياء. ونظير هذين المثالين: المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا } إلى قوله: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء } إلى آخر الآية [5]. وأما الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حي، وإن كانت حياته حياة بَهِيمِيَّة، فهو عادم الحياة الروحانية العُلْوِية التي سببها سبب الإيمان، وبها يحصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة؛ فإن الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعًا بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه.

فالأصل الأول: يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم.

والأصل الثاني: يتضمن تفصيل الشرائع، والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.

والأصل الثالث: يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب.

وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومَنْ يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه.

وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب؛ فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتًا لا تُرْجي الحياة معه أبدًا، أو شَقِي شقاوة لا سعادة معها أبدًا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول، فإن الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره، كما قال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [6] أي: لا مفلح إلا هم، كما قال تعالى: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [7]، فخص هؤلاء بالفلاح، كما خص المتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم، ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله، وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة وبالهدى والفلاح، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودًا وعدمًا.

وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، وبعث به جميع الرسل؛ ولهذا قص الله علىنا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقي آثارهم وديارهم عِبْرَةً لمن بعدهم وموعظة، وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك من خسف به، وأرسل عليه الحجارة من السماء، وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة، وأخذه بأنواع العقوبات، وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاؤوا به، واتخاذهم أولياء من دونه.

وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله، وأعرض عما جاؤوا به واتبع غير سبيلهم؛ ولهذا أبقي الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ؛ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال تعالى: { إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [8]، وقال تعالى: { ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [9] أي: تمرون عليهم نهارًا بالصباح وبالليل، ثم قال: { أَفَلَا تَعْقِلُونَ }، وقال تعالى في مدائن قوم لوط: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ } [10] يعني: مدائنهم بطريق مقيم يراها المارُّ بها، وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [11].

وهذا كثير في الكتاب العزيز؛ يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أَتْبَاع المرسلين؛ ولهذا يذكر سبحانه في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم، ونوح وعاد وثمود، ولوط وشعيب. ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله: { فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [12]، فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة، وهو: { الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله وأتباعهم برحمته.

هامش

  1. [الأنعام: 122]
  2. [الشورى: 52]
  3. [الرعد: 17]
  4. [الرعد: 17]
  5. [البقرة: 17 19]
  6. [الأعراف: 157]
  7. [آل عمران: 104]
  8. [العنكبوت: 34، 35]
  9. [الصافات: 136-138]
  10. [الحجر: 74 76]
  11. [الروم: 9]
  12. [الشعراء: 158، 159]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع عشر - أصول الفقه
فصل الكتاب والسنة والإجماع واجبة الاتباع | فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين | فصل في استعمال الدعوة إلى الله مع الجن | فصل في تصور الشيطان في صورة المدعو المستغاث به | فصل في الذب عن المظلوم ونصرته | فصل في جواز أن يكتب للمصاب شيئا من كتاب الله ويغسل به ويسقى | فصل في الاكتفاء بالرسالة والاستغناء بالنبي عن اتباع ما سواه | فصل في أول البدع ظهورا في الإسلام | أصل جامع في الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه | فصل في الأمر باتباع الكتاب والحكمة | قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة | فصل في أن الرسالة ضرورية لإصلاح العبد في معاشه ومعاده | فصل في توحد الملة وتعدد الشرائع | فصل في قوله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون | فصل في الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق والاختلاف | فصل فيما تنازع فيه العلماء | قاعدة في العلوم والاعتقادات | فصل في غلط من قال أن الحقائق تابعة للعقائد | فصل ما لا تؤثر فيه الاعتقادات | فصل في تأثير الاعتقادات في رفع العذاب | فصل في تأثير الاعتقادات في الأدلة الشرعية | فصل مذاهب الأئمة تؤخذ من أقوالهم | معارج الوصول | فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه | فصل في العمليات أو الفروع | قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم | فصل في العلوم الشرعية والعقلية | فصل في حدود الأسماء التي علق الله بها الأحكام | فصل في اسم الحيض | فصل في المسح على الخفين | فصل في القصر والفطر في السفر | فصل في مقادير الدراهم والدنانير والمكاييل | فصل في مقدار الإطعام شرعا | فصل في الاستبراء | فصل في العاقلة ومقدار ما تحمله من الدية | فصل في خمس الغنيمة وتقسيمه | فصل في التقليد الذي حرمه الله ورسوله | سئل عمن يقول أن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة | فصل أحوال العبد في العبادات المأمور بها | فصل في اسم الشريعة والشرع والسنة