→ فصل في مقادير الدراهم والدنانير والمكاييل | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في مقدار الإطعام شرعا ابن تيمية |
فصل في الاستبراء ← |
فصل في مقدار الإطعام شرعا
وكذلك لفظ الإطعام لعشرة مساكين لم يقدره الشرع، بل كما قال الله: { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [1]، وكل بلد يطعمون من أوسط ما يأكلون كفاية غيره، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع.
وكذلك لفظ الجِزْيَة والدِّيَة فإنها فِعْلَة من جَزَى يَجْزِى إذا قضى وأدى، ومنه قول النبي ﷺ: «تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك»، وهي في الأصل جَزَا جِزْيَة كما يقال: وَعَدَ عِدَةً ووزن زِنَةً. وكذلك لفظ الدية هو من وَدَىَ يَدي دِيَةً، كما يقال: وعد يَعِدُ عِدَةً، والمفعول يسمى باسم المصدر كثيرًا، فيسمى المودِى دِيَة والمجزي المقضي جزية، كما يسمى الموعود وعدًا في قوله: { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } [2]. وإنما رأوا ما وعدوه من العذاب، وكما يسمى مثل ذلك الإتاوة؛ لأنه تؤتى، أي: تعطى. وكذلك لفظ الضَّرِيبة لما يضرب على الناس. فهذه الألفاظ كلها ليس لها حد في اللغة ولكن يرجع إلى عادات الناس، فإن كان الشرع قد حد لبعض حدًا كان اتباعه واجبًا.
ولهذا اختلف الفقهاء في الجزية: هل هي مقدرة بالشرع أو يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة؟
وكذلك الخَرَاج، والصحيح أنها ليست مقدرة بالشرع. وأمر النبي ﷺ لمعاذ: أن يأخذ من كل حَاِلمٍ دينارًا، أو عدله مَعَافِريا [3] قضية في عين، لم يجعل ذلك شرعًا عامًا لكل من تؤخذ منه الجزية إلى يوم القيامة، بدليل أنه صَالَحَ لأهل البحرين على حالم ولم يقدره هذا التقدير، وكان ذلك جزية، وكذلك صَالَحَ أهل نجران على أموال غير ذلك ولا مقدرة بذلك، فعلم أن المرجع فيها إلى ما يراه ولي الأمر مصلحة وما يرضى به المعاهدون، فيصير ذلك عليهم حقًا يجزونه، أي: يقصدونه ويؤدونه.
وأما الدية، ففي العَمْد يرجع فيها إلى رِضَا الخصمين، وأما في الخطأ فوجبت عَيْنًا بالشرع، فلا يمكن الرجوع فيها إلى تراضيهم، بل قد يقال: هي مقدرة بالشرع تقديرًا عامًا للأمة، كتقدير الصلاة والزكاة، وقد تختلف باختلاف أقوال الناس في جنسها وقدرها، وهذا أقرب القولين وعليه تدل الآثار، وأن النبي ﷺ إنما جعلها مائة لأقوام كانت أموالهم الإبل؛ ولهذا جعلها على أهل الذهب ذهبًا، وعلى أهل الفضة فضة، وعلى أهل الشاء شاءً، وعلى أهل الثياب ثيابًا، وبذلك مضت سيرة عمر بن الخطاب، وغيره.
هامش
- ↑ [المائدة: 89]
- ↑ [الملك: 25 - 27]
- ↑ [والمَعافِرىّ: هي برود يمنية منسوبة إلى قبيلة مَعافِر ببلاد اليمن. ]