→ فصل في تأثير الاعتقادات في رفع العذاب | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في تأثير الاعتقادات في الأدلة الشرعية ابن تيمية |
فصل مذاهب الأئمة تؤخذ من أقوالهم ← |
فصل في تأثير الاعتقادات في الأدلة الشرعية
وأما الأحكام والاعتقادات والأقوال العملية التي يتبعها المحكوم، فهي الأمر والنهي والتحسين والتقبيح واعتقاد الوجوب والتحريم، ويسميها كثير من المتفقهة والمتكلمة: الأحكام الشرعية، وتسمى الفروع والفقه، ونحو ذلك. وهذه تكون في جميع الملل والأديان، وتكون في الأمور الدنيوية من السياسات والصناعات والمعاملات، وغير ذلك، وهي التي قصدنا الكلام عليها في هذه القاعدة، حيث قلنا: إن الاعتقادات قد تؤثر في الأحكام الشرعية، فهذه أيضا الناس فيها طرفان ووسط:
الطرف الأول: طرف الزنادقة الإباحية الكافرة بالشرائع والوعيد والعقاب في الدار الآخرة، الذين يرون أن هذه الأحكام تتبع الاعتقاد مطلقًا والاعتقاد هو المؤثر فيها، فلا يكون الشيء واجبًا إلا عند من اعتقد تحريمه، ويرون أن الوعيد الذي يلحق هؤلاء هو عذاب نفوسهم بما اعتقدوه من الأمر والنهي والإيجاب والتحريم، وما اعتقدوه من أنهم إذا فعلوا المحرمات، وتركوا الواجبات عذبوا وعوقبوا، فيبقى في نفوسهم خوف وتألم وتوهم للعذاب وتخيل له، فيزعمون أن هذا الألم الناشئ عن هذا الاعتقاد والتخيل هو عقابهم وعذابهم وذاك ناشئ عما اعتقدوه؛ كمن اعتقد أن هنا أسدًا أو لصًا أو قاطع طريق من غير أن يكون له وجود، فيتألم ويتضرر بخوفه من هذا المحذور الذي اعتقده. فاجتمع اعتقاد غير مطابق، ومعتقد يؤلم وجوده، فتألمت النفس بهذا الاعتقاد والتخيل. وقد يقول حُذَّاق هؤلاء من الإسماعيلية والقرامطة وقوم يتصوفون أو يتكلمون وهم غالية المرجئة: إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة، بمنزلة ما يخوف العقلاء الصبيان والبُلْهَ بما لا حقيقة له لتأديبهم، وبمنزلة مخادعة المحارب لعدوه إذا أوهمه أمرًا يخافه لينزجر عنه، أو ليتمكن هو من عدوه، وغير ذلك.
وهؤلاء هم الكفار برسل الله وكتبه واليوم الآخر، المنكرون لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وما ضربه الله في القرآن من الأمثال وقصه من أخبار الأمم المكذبة للرسل، فهو متناول لهؤلاء، ويكفي ما عاقب الله به أهل الكفر والفسوق والعصيان في الدنيا من أنواع المثُلات؛ فإنه أمر محسوس مشاهد لا يمكن دفعه، وما من أحد إلا قد سمع من ذلك أنواعا، أو رأى بعضه. وأهل الأرض متفقون على أن الصادق البار العادل ليس حاله كحال الكاذب الفاجر الظالم، بل يرون من ثواب الحسنات وعقوبة السيئات ما فيه عِبْرة ومُزْدَجَر، كما كانوا عليه في الجاهلية قبل الرسل، فلما جاءت الرسالة بوعيد الآخرة بين ذلك ما كان الناس عنه غافلين.
الطرف الثاني: طرف الغالية المتشددين، الذين لا يرون للاعتقاد أثرًا في الأفعال، بل يقول غاليتهم كقوم من متكلمة المعتزلة: إن لله حكمًا في كل فعل، مَنْ أخطأه كان آثمًا معاقبًا، فيرون المسلم العالم المجتهد متى خفي عليه دليل شرعي وقد اجتهد واستفرغ وسعه في طلب حكم الله أنه آثم معاقب على خطئه، فهذا قولهم في الاجتهاد والاعتقاد، ثم إذا ترك واجبًا، أو فعل محرمًا قالوا بنفوذ الوعيد فيه، فيوجبون تخليد فساق أهل الملة في النار، وهذا قول جمهور المعتزلة والخوارج، ولكن الخوارج يكفِّرون بالذنب الكبير أو الصغير عند بعضهم. وأما المعتزلة فيقولون: هو في منزلة بين منزلتين، لا مؤمن ولا كافر.
وأما الأمة الوسط، فعلى أن الاعتقاد قد يؤثر في الأحكام، وقد لا يؤثر بحسب الأدلة والأسباب، كما أن ذلك هو الواقع في الأمور الطبيعية، فالأغذية والأدوية قد يختلف حكمها بحسب اعتقاد الطبيب والمتداوى وقد لا يختلف، وقد يعتقد الإنسان في الشيء صفة نافعة أو ضارة فينتفع به أو يتضرر، وإن لم يكن كذلك، وقد يعتقد ذلك فلا يؤثر، فلو اعتقد في الخبز واللحم أنه غير مشبع لم يؤثر ذلك، بل هو مشبع ولو اعتقد ضد ذلك.
هامش