→ فصل ما لا تؤثر فيه الاعتقادات | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في تأثير الاعتقادات في رفع العذاب ابن تيمية |
فصل في تأثير الاعتقادات في الأدلة الشرعية ← |
فصل في تأثير الاعتقادات في رفع العذاب
ونحن نذكر من ذلك أصولًا:
أحدها: تأثير الاعتقادات في رفع العذاب والحدود، فنقول: إن الأحكام الشرعية التي نصبت عليها أدلة قطعية معلومة، مثل الكتاب والسنة المتواترة والإجماع الظاهر؛ كوجوب الصلاة والزكاة والحج والصيام وتحريم الزنا والخمر والربا. إذا بلغت هذه الأدلة للمكلف بلاغًا يمكنه من اتباعها فخالفها تفريطًا في جنب الله وتعديًا لحدود الله فلا ريب أنه مخطئ آثم، وأن هذا الفعل سبب لعقوبة الله في الدنيا والآخرة، فإن الله أقام حجته على خلقه بالرسل الذين بعثهم إليهم مبشرين ومنذرين { رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [1]، قال تعالى عن أهل النار: { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } [2]، وقال تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [3].
وأما إذا كان في الفعل والحادثة والمسألة العملية نص لا يتمكن المكلف من معرفته ومعرفة دلالته، مثل أن يكون الحديث النبوي الوارد فيها عند شخص لم يعلم به المجتهد ولم يشعر بما يدله عليه، أو تكون دلالته خفية لا يقدر المجتهد على فهمها، أو لم يكن فيها نص بحال، فهذا مَوْرِد نزاع؛ فذهب فريق من أهل الكلام، مثل أبي على وأبي هاشم والقاضي أبي بكر والغزالي إلى قول مُبْتَدَع يشبه في المجتهدات قول الزنادقة الإباحية في المنصوصات، وهو أنه ليس لهذه الحادثة حكم عند الله في نفس الأمر، وإنما حكمه في حق كل مكلف يتبع اجتهاده واعتقاده، فمن اعتقد وجوب الفعل فهو واجب عليه، ومن اعتقد تحريمه فهو حرام عليه، وبنوا ذلك على مقدمتين:
إحداهما: أن الحكم إنما يكون بالخطاب، فما لا خطاب فيه لا حكم لله فيه، فإذا لم يكن للعقل فيه حكم؛ إما لعدم الحكم العقلى مطلقًا، أو في هذه الصورة علم أنه لا حكم فيه يكون من أصابه مصيبًا ومن أخطأه مخطئًا.
الثاني: أنه قد علم أن من اعتقد وجوب شيء فعليه فعله، ومن اعتقد تحريمه فعليه اجتنابه، فالحكم فيه يتبع الاعتقاد. قالوا: والأحكام الشرعية تختلف باختلاف أحوال المكلفين في اجتهاداتهم وغير اجتهاداتهم، بدليل اتفاق الفقهاء وأهل السنة على أن الاجتهاد والاعتقاد يؤثر في رفع الإثم والعقاب كما جاءت به النصوص، وأن الوجوب والتحريم يختلف بالإقامة والسفر والطهارة والحيض والعجز والقدرة وغير ذلك، فيجوز أن تختلف الأحكام باختلاف الاعتقادات، ويكون الحكم في حق المجتهد عند عدم النص ما اعتقده. هذا ملخص قولهم. وأما السلف والفقهاء والصوفية والعامة وجمهور المتكلمين فعلى إنكار هذا القول، وأنه مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، بل هو مخالف للعقل الصريح، حتى قال أبو إسحاق الإسْفِرَائيني وغيره: هذا المذهب أوله سَفْسَطة وآخره زندقة، يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه. فمن قال: إن الإيجاب والتحريم يتبع الاعتقادات فقد سفسط في الأحكام العملية، وإن لم يكن مسفسطًا في الأحكام العينية، وقد قدمنا أنه لم تَجْرِ العادة بأن عاقلا يسفسط في كل شيء؛ لا خطأ ولا عمدًا، لا ضلالًا ولا عنادًا، لا جهلًا ولا تجاهلًا، وأما كون آخره زندقة؛ فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب، وإن شاء أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال، وهذا كفر وزندقة.
وجماع الكلام على هؤلاء في مقامين:
أحدهما: امتناع هذا القول في نفسه واستحالته، وذلك معلوم بالعقل.
والثاني: أنه لو كان جائزًا في العقل، لكن لم يرد به الشرع، بل هو مخالف له، وتعرف مخالفته للنص والإجماع.
أما الأول فمن وجوه:
أحدها: أنه قد تقدم أن كل علم واعتقاد وحكم لابد له من معلوم معتقد، محكوم به، يكون الاعتقاد مطابقًا له موافقًا؛ سواء كان للاعتقاد تأثير في وجوده، أو لم يكن؛ فإن الاعتقادات العملية المؤثرة في المعتقد مثل: اعتقاد أن أكل هذا الخبز يشبع، واعتقاد أن أكل هذا السم يقتل، وإن كان هذا الاعتقاد يؤثر في وجود الأكل مثلًا فلابد له من معتقد ثابت بدونه، وهو كون أكل ذلك الخبز موصوفًا بتلك الصفة والأكل، فإن كان معدومًا قبل وجوده فإن محله وهو الخبز والأكل موجودان، فإن لم يكن الخبز متصفًا بالإشباع إذا أكل، والأكل متصفًا بأنه يشبع إذا أكله لم يكن الاعتقاد صحيحًا، بل فاسدًا. كما لو اعتقد في شيء أنه رغيف فأكله إذا هو جَصٌّ أو جبصين، فإن اعتقاده، وإن أقدم به على الأكل، فإنه لا يشبعه لفساد الاعتقاد، وهكذا من اعتقد في شيء أنه ينفعه أو يضره فإن الاعتقاد يدعوه إلى الفعل أو الترك، ويبعثه على ذلك، فإن كان مطابقًا حصلت المنفعة، واندفعت المضرة إذا انتفت الموانع، وإلا فمجرد الانتفاع بالفعل أو الضرر به لا يوجب حصول المنفعة والمضرة، وإنما هذا قول بعض جهال الكفار: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه، فيجعلون الانتفاع بالشيء تبعًا لظن المنفعة فيه.
وقد اعتقد المشركون الانتفاع بالأصنام التي قال الله فيها: { يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } [4]، فإذا اعتقد المعتقد أن هذا الفعل مأمور به أمر استحباب يثيب الله عليه ثواب الفعل المستحب، أو أمر إيجاب يعاقب من تركه عقوبة العاصي، أو اعتقد أن الله نهي عنه كذلك، فهو معتقد؛ إما صفة في ربه فقط من الأمر والنهي وهي صفة إضافية للفعل، كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإما صفة في الفعل فقط من الحسن والقبح والأمر والنهي كاشفة لذلك؛ كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإما ثبوت الصفتين جميعًا للأمر والمأمور به؛ كما عليه جمهور الفقهاء. وهو إنما يعتقد وجود تلك الصفة التي هي الحكم الشرعي لاعتقاده أنها ثابتة في نفسها موجودة بدون اعتقاده، لا أنه يطلب باعتقاده أن يثبت للأمر والفعل صفة لم تكن له قبل ذلك؛ إذ ليس لأحد من المجتهدين غرض في أن يثبت للأفعال أحكامًا باعتقاده، ولا أن يشرع دينًا لم يأذن به الله. وإنما مطلوبه أن يعتقد حكم الله ودينه، ولا له مقصود أن يجيء إلى الأفعال المتساوية في ذواتها وفي أمر الله، فيعتقد في أحدها الوجوب على نفسه، وفي الآخر التحريم من غير سبب تختص به الأفعال.
فهذا موضع ينبغي تدبره. فإن المؤمن الطالب لحكم الله إذا علم أن تلك الأفعال عند الله سواء، لم يميز بعضها عن بعض بأمر ولا نهي، وهي في أنفسها سواء، لم يميز بعضها عن بعض بحسن ولا سوء ولا مصلحة ولا مفسدة. فإن هذا الاعتقاد منه موجب لاستوائها وتماثلها، فاعتقاده بعد هذا أن هذا واجب يذم تاركه، وهذا حرام يعاقب فاعله تناقض في العقل وسفسطة، وكفر في الدين وزندقة.
أما الأول: فلأن اعتقاد التساوي والتماثل ينافي اعتقاد الرجحان والتفضيل، فضلًا عن وجوب هذا وتحريم هذا، فكيف يجمع العاقل بين الاعتقادين المتناقضين؟ إلا أن يكون أَخْرَق كافرًا، فيقول: أنا أوجب هذا وأحرم هذا، بلا أمر من الله، ولا مرجح لأحدهما من جهة العقل، فإذا فعل هذا كان شارعا من الدين لما لم يأذن به الله، وهو مع هذا دين معلوم الفساد بالعقل، حيث جعل الأفعال المستوية بعضها واجب وبعضها محرم، بلا سبب يوجب التخصيص، إلا محض التحكم الذي لا يفعله حيوان أصلًا، لا عاقل ولا مجنون، إذ لو فرض اختصاص أحد الفعلين لشهوة أو لذة أمكن أن يقال: تلك جهة توجب الترجيح، وهي جهة حُسْن عند من يقول بالتحسين العقلى فيجب لذلك، والغرض انتفاء ذلك جميعه، وإذا انتفي ذلك كله علم أن اعتقاد حسن الفعل وقبحه ووجوبه وتحريمه يتبع أمرًا ثابتًا في نفسه، يكون مطابقًا له أو غير مطابق. وإذا كان كذلك، فالاعتقاد المطابق صواب، والاعتقاد المخالف ليس بصواب، لا أن الحكم يتبع الاعتقاد من كل وجه.
الثاني: أن الطالب المستدل بالدليل ليستبين له الأحكام هو يطلب العلم بمدلول الدليل، فإن لم يكن للدليل مدلول وإنما مدلول الدليل يحصل عقب التأمل لم يكن مطلوبه العلم بالمدلول، وإنما مطلوبه وجود المدلول، وليس هذا شأن الأدلة التي تبين المدلولات، وإنما هو شأن الأسباب والعلل توجد المسببات، وفرق كثير بين الدليل المقتضي للعلم القائم بالقلب، وبين العلم المقتضي للوجود القائم في الخارج، فإن مقتضى الأول الاعتقاد الذهني، ومقتضى الثاني الوجود الخارجي، وأحد النوعين مباين للآخر.
هامش