→ فصل أحوال العبد في العبادات المأمور بها | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في اسم الشريعة والشرع والسنة ابن تيمية |
اتفاق الرسل في الأصول الاعتقادية ← |
فصل في اسم الشريعة والشرع والسنة
قد كتبت فيما قبل هذا مسمى العلم الشرعي وأنه ينقسم إلى ما أخبر به الشارع أو عرف بخبره، وإلى ما أمر به الشارع.
والذي أخبر به ينقسم إلى ما دل على علمه بالعقل، وإلى: ما ليس كذلك.
والذي أمر به؛ إما أن يكون مستفادًا بالعقل، أو مستفادًا بالشرع، وإما أن يكون مقصودا للشارع، أو لازما للمقصود.
وكذلك اسم الشريعة والشرع والشِّرْعَة فإنه ينتظم كل ما شرعه الله من العقائد والأعمال، وقد صنف الشيخ أبو بكر الآجُرِي كتاب الشريعة، وصنف الشيخ أبو عبد الله ابن بَطَّة كتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية وغير ذلك. وإنما مقصود هؤلاء الأئمة في السنة باسم الشريعة: العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله خالق كل شيء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب، ويؤمنون بالشفاعة لأهل الكبائر، ونحو ذلك من عُقُود أهل السنة، فسموا أصول اعتقادهم شريعتهم، وفرقوا بين شريعتهم وشريعة غيرهم.
وهذه العقائد التي يسميها هؤلاء الشريعة هي التي يسمي غيرهم عامتها العَقْليات وعلم الكلام، أو يسميها الجميع أصول الدين، ويسميها بعضهم الفقه الأكبر وهذا نظير تسمية سائر المصنفين في هذا الباب كتاب السنة كالسنة لعبد الله بن أحمد، والخَلاَّل، والطبراني، والسنة للجُعْفي، وللأَثْرَم، ولخلق كثير صنفوا في هذه الأبواب، وسموا ذلك كتب السنة ليميزوا بين عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل البدعة.
فالسنة كالشريعة هي: ما سَنَّه الرسول وما شرعه، فقد يراد به ما سنه وشرعه من العقائد، وقد يراد به ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد به كلاهما. فلفظ السنة يقع على معان كلفظ الشرعة؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله: { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [1]: سنة وسبيلًا. ففسروا الشِّرْعةَ بالسنة، والمنهاج بالسبيل.
واسم السُّنَّة والشِّرْعة قد يكون في العقائد والأقوال، وقد يكون في المقاصد والأفعال. فالأولي في طريقة العلم والكلام، والثانية في طريقة الحال والسماع، وقد تكون في طريقة العبادات الظاهرة والسياسات السلطانية. فالمتكلمة جعلوا بإزاء الشرعيات العقليات أو الكلاميات، والمتصوفة جعلوا بإزائها الذوقيات والحقائق، والمتفلسفة جعلوا بإزاء الشريعة الفلسفة، والملوك جعلوا بإزاء الشريعة السياسة. وأما الفقهاء والعامة فيخرجون عما هو عندهم الشريعة إلى بعض هذه الأمور، أو يجعلون بإزائها العادة، أو المذهب، أو الرأي.
والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمدا ﷺ جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف الشريعة منها فهو باطل، وما وافقها منها فهو حق. لكن قد يُغَيَّر أيضا لفظ الشريعة عند أكثر الناس، فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات.
ثم هي مستعملة في كلام الناس على ثلاثة أنحاء: شرع مُنَزَّل، وهو: ما شرعه الله ورسوله. وشرع مُتَأَوَّل، وهو: ما ساغ فيه الاجتهاد. وشرع مُبَدَّل، وهو: ما كان من الكذب والفجور الذي يفعله المبطلون بظاهر من الشرع، أو البدع، أو الضلال الذي يضيفه الضالون إلى الشرع. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وبما ذكرته في مسمي الشريعة، والحكم الشرعي، والعلم الشرعي يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كلما يصلح له فهو في الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك، والحمد لله رب العالمين.
وسبب ذلك أن الشريعة هي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا، وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [2] قد أوجب طاعته وطاعة رسوله في آي كثيرٍ من القرآن، وحرم معصيته ومعصية رسوله، ووعد برضوانه ومغفرته ورحمته وجنته على طاعته وطاعة رسوله، وأَوْعَدَ بضد ذلك على معصيته ومعصية رسوله. فعلى كل أحد من عالم، أو أمير، أو عابد، أو معامل أن يطيع الله ورسوله فيما هو قائم به من علم، أو حكم، أو أمر، أو نهى، أو عمل، أو عبادة، أو غير ذلك.
وحقيقة الشريعة اتباع الرسل، والدخول تحت طاعتهم، كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرسل، وطاعة الرسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه، فقال: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [3] فإنه قد قال: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ } [4] والطاعة له دين له. وقال النبي ﷺ: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميرى فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن عصي أميرى فقد عصاني». والأمراء والعلماء لهم مواضع تجب طاعتهم فيها، وعليهم هم أيضا أن يطيعوا الله والرسول فيما يأمرون. فعلى كل من الرعاة والرعية، والرؤوس والمرؤوسين أن يطيع كل منهم الله ورسوله في حاله، ويلتزم شريعة الله التي شرعها له.
وهذه جملة تفصيلها يطول، غَلَطَ فيها صنفان من الناس:
صِنْفٌ سَوَّغُوا لنفوسهم الخروج عن شريعة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله؛ لظنهم قصور الشريعة عن تمام مصالحهم؛ جهلًا منهم، أو جهلًا وهوي، أو هوي مَحْضًا.
وصِنْفٌ قَصَّروا في معرفة قَدْر الشريعة، فضيقوها حتي توهموا هم والناس أنه لا يمكن العمل بها، وأصل ذلك الجهل بمسمى الشريعة ومعرفة قدرها وسعتها. والله أعلم.
ومن العلماء والعامة من يرى أن اسم الشريعة والشرع لا يقال إلا للأعمال التي يسمى علمها علم الفقه، ويفرقون بين العقائد والشرائع أو الحقائق والشرائع، فهذا الاصطلاح مخالف لذلك. وأما قوله: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ } [5] ما أن يحمل....
وكذلك الأحكام الشرعية قد يراد بها ما أخبر بها الشارع بناء على أن الأحكام صفات للفعل، وأن الشارع بَيَّنها وكشفها. ومنها ما يعلم بالعقل ضرورة أو نظرًا، ومنها ما يعلم بهما، ويسمي الجميع أحكامًا شرعية، أو تخص الأحكام الشرعية بما لم يَسْتَفِد إلا من الشارع، وهذا اصطلاح المعتزلة وغيرهم من المتكلمين والفقهاء من أصحابنا وغيرهم. وقد يراد بها ما أثبتها الشارع، وأتي بها، ولم تكن ثابتة بدونه، بناء على أن الفعل حكم له في نفسها، وإنما الحكم ما أتي به الشارع، وهذا قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحابنا وغيرهم. ثم قد يقال: الحكم هو خطاب الشارع، وهو الإيجاب والتحريم منه، وقد يقال: هو مقتضي الخطاب وموجبه، وهو الوجوب والحرمة مثلًا. وقد يقال: المتعلق الذي بين الخطاب والفعل.
والصحيح أن اسم الحكم الشرعي يَنْطَبق على هذه الثلاثة، وقد يقال: بل الحكم الشرعي يقال على ما أخبر به، وعلى ما جاء به من الخطاب ومقتضاه، وهذا كما قلناه في العلم الشرعي، فتدبر هذه الأصول الثلاثة: العلم الشرعي، والحكم الشرعي، والشريعة. والله أعلم.
هامش