الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين

فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين

يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدا ﷺ إلي جميع الثقلين: الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما حلَّل الله ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله، ويحبوا ما أحبه الله ورسوله، ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله، وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد ﷺ من الإنس والجن فلم يؤمن به؛ استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول.

وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، وسائر طوائف المسلمين: أهل السنة والجماعة، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمدا ﷺ إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصاري، فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك. وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين؛ كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك.

وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترًا معلومًا بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضًا قائمة بالإنسان أو غيره، كما يزعمه بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواترًا عن الأنبياء تواترًا ظاهرًا تعرفه العامة والخاصة؛ لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم، كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة، ولا إنكار معاد الأبدان ولا إنكار عبادة الله وحده لا شريك له، ولا إنكار أن يرسل الله رسولا من الإنس إلي خلقه، ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترًا تعرفه العامة والخاصة، كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسى إلي فرعون وغرق فرعون، ومجيء المسيح إلي اليهود وعداوتهم له، وظهور محمد ﷺ بمكة وهجرته إلي المدينة، ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة، وجنس الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه، كتكثير الطعام والشراب، والإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها بشر إلا بإعلام الله، وغير ذلك.

ولهذا أمر الله رسوله ﷺ بسؤال أهل الكتاب عما تواتر عندهم كقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [1] ؛ فإن من الكفار من أنكر أن يكون الله رسول بشر، فأخبر الله أن الذين أرسلهم قبل محمد كانوا بشرًا، وأمر بسؤال أهل الكتاب عن ذلك لمن لا يعلم.

وكذلك سؤالهم عن التوحيد وغيره مما جاءت به الأنبياء، وكفر به الكافرون، قال تعالى: { قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [2]، وقال تعالى: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [3]، وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } [4].

وكذلك شهادة أهل الكتاب بتصديق ما أخبر به من أنباء الغيب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي، وقد علموا أن محمدا لم يتعلم من أهل الكتاب شيئًا.

وهذا غير شهادة أهل الكتاب له نفسه بما يجدونه من نعته في كتبهم، كقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ } [5]، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [6]، وأمثال ذلك.

وهذا بخلاف ما تواتر عند الخاصة من أهل العلم، كأحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته، وأحاديث الشفاعة والصراط والحوض، فهذا قد ينكره بعض من لم يعرفه من أهل الجهل والضلال؛ ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة، كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما، دخول الجن في بدن المصروع، ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا، وإن كانوا مخطئين في ذلك؛ ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الجني يدخل في بدن المصروع كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [7]، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قومًا يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي. فقال: يابني، يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه. وهذا مبسوط في موضعه.

والمقصود هنا أن جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن، وكذلك جمهور الكفار، كعامة أهل الكتاب، وكذلك عامة مشركي العرب وغيرهم من أولاد سام، والهند وغيرهم من أولاد حام، وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين وغيرهم من أولاد يافث، فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن، بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسم، سواء أكان ذلك سائغًا عند أهل الإيمان أو كان شركًا، فإن المشركين يقرؤون من العزائم والطلاسم والرقي ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم، وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقي التي لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن.

ولهذا نهي علماء المسلمين عن الرقي التي لا يفقه معناها؛ لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك. وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشْجَعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يارسول الله، كيف تري في ذلك؟ فقال: «اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك». وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر قال: نهي رسول الله ﷺ عن الرقي، فجاء آل عمرو بن حزم إلي رسول الله ﷺ فقالوا: يارسول الله، إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقي، قال: فعرضوها عليه، فقال: «ما أرى بأسًا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه».

وقد كان للعرب ولسائر الأمم من ذلك أمور يطول وصفها، وأخبار العرب في ذلك متواترة عند من يعرف أخبارهم من علماء المسلمين وكذلك عند غيرهم، ولكن المسلمين أخْبَرُ بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم؛ إذ كان خير القرون كانوا عربًا، وكانوا قد عاينوا وسمعوا ما كانوا عليه في الجاهلية، وكان ذلك من أسباب نزول القرآن، فذكروا في كتب التفسير والحديث والسير والمغازي والفقه، فتواترت أيام جاهلية العرب في المسلمين، وإلا فسائر الأمم المشركين هم من جنس العرب المشركين في هذا، وبعضهم كان أشد كفرًا وضلالا من مشركي العرب، وبعضهم أخف.

والآيات التي أنزلها الله على محمد ﷺ فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن؛ إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب نزول الآيات ما كان موجودًا في العرب، فليس شيء من الآيات مختصًا بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين، وإنما تنازعوا: هل يختص بنوع السبب المسؤول عنه؟ وأما بعين السبب فلم يقل أحد من المسلمين: إن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية.

وهذا الذي يسميه بعض الناس: تَنقِيح المناط، وهو أن يكون الرسول ﷺ حكم في معين، وقد علم أن الحكم لا يختص به، فيريد أن ينقح مناط الحكم، ليعلم النوع الذي حكم فيه، كما أنه لما أمر الأعرابي الذي واقع امرأته في رمضان بالكفارة، وقد علم أن الحكم لا يختص به، وعلم أن كونه أعرابيًا أو عربيًا أو الموطوءة زوجته لا أثر له، فلو وطئ المسلم العجمي سَرِيَّته كان الحكم كذلك.

ولكن هل المؤثر في الكفارة كونه مجامعًا في رمضان أو كونه مفطرًا؟ فالأول: مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه، والثاني: مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو رواية منصوصة عن أحمد في الحجامة فغيرها أولي، ثم مالك يجعل المؤثر جنس المفطر، وأبو حنيفة يجعلها المفطر كتنوع جنسه، فلا يوجبه في ابتلاع الحصاة والنواة.

وتنازعوا: هل يشترط أن يكون أفسد صومًا صحيحًا؟ وأحمد لا يشترط ذلك، بل كل إمساك وجب في شهر رمضان أوجب فيه الكفارة، كما يوجب الأربعة مثل ذلك في الإحرام الفاسد، فالصيام الفاسد عنده كالإحرام الفاسد، كلاهما يجب إتمامه والمضي فيه، والشافعي وغيره لا يوجبونها إلا في صوم صحيح، والنزاع فيمن أكل ثم جامع أو لم ينو الصوم ثم جامع، ومن جامع وكفَّر ثم جامع.

ومثل قوله لمن أحرم بالعمرة في جُبَّةٍ مُتضَمخًا بالخلوق: «انزع عنك الجبَّة واغسل عنك أثر الصُّفرة»، هل أمره بالغسل لكون المحرم لا يستديم الطيب كما يقوله مالك؟ أو لكونه نهي أن يتزعفر الرجل فلا يمنع من استدامة الطيب كقول الثلاثة؟ وعلى الأول فهل هذا الحديث منسوخ بتطييب عائشة له في حجة الوداع؟.

ومثل قوله لما سئل عن فأرة وقعت في سَمْنٍ: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم»، هل المؤثر عدم التغير بالنجاسة، أو بكونه جامدًا، أو كونها فأرة وقعت في سمن، فلا يتعدي إلي سائر المائعات؟ ومثل هذا كثير، وهذا لابد منه في الشرائع، ولا يسمي قياسًا عند كثير من العلماء كأبي حنيفة ونفاة القياس؛ لاتفاق الناس على العمل به كما اتفقوا على تحقيق المناط، وهو: أن يعلق الشارع الحكم بمعني كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان، كأمره باستقبال الكعبة، وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضي من الشهداء، وكتحريمه الخمر والميسر، وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة، وكتفريقه بين الفدية والطلاق، وغير ذلك.

فيبقي النظر في بعض الأنواع: هل هي خمر ويمين وميسر وفدية أو طلاق؟ وفي بعض الأعيان: هل هي من هذا النوع؟ وهل هذا المصلي مستقبل القبلة؟ وهذا الشخص عدل مرضي؟ ونحو ذلك؛ فإن هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين، بل بين العقلاء فيما يتبعونه من شرائع دينهم وطاعة ولاة أمورهم ومصالح دنياهم وآخرتهم.

وحقيقة ذلك يرجع إلي تمثيل الشيء بنظيره وإدراج الجزئي تحت الكلي، وذاك يسمي قياس التمثيل، وهذا يسمي قياس الشمول، وهما متلازمان، فإن القدر المشترك بين الأفراد في قياس الشمول الذي يسميه المنطقيون: الحد الأوسط هو القدر المشترك في قياس التمثيل الذي يسميه الأصوليون: الجامع، والمناط، والعلة، والأمارة، والداعي، والباعث، والمقتضي، والموجب، والمشترك، وغير ذلك من العبارات.

وأما تخريج المناط وهو: القياس المحض، وهو: أن ينص على حكم في أمور قد يظن أنه يختص الحكم بها فيستدل على أن غيرها مثلها؛ إما لانتفاء الفارق، أو للاشتراك في الوصف الذي قام الدليل على أن الشارع علق الحكم في الأصل، فهذا هو القياس الذي تقر به جماهير العلماء وينكره نفاة القياس. وإنما يكثر الغلط فيه لعدم العلم بالجامع المشترك الذي علق الشارع الحكم به، وهو الذي يسمي سؤال المطالبة، وهو: مطالبة المعترض للمستدل بأن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم، أو دليل العلة. فأكثر غلط القَائِسِين من ظنهم علة في الأصل ما ليس بعلة؛ ولهذا كثرت شناعاتهم على أهل القياس الفاسد. فأما إذا قام دليل على إلغاء الفارق، وأنه ليس بين الأصل والفرع فرق يفرق الشارع لأجله بين الصورتين، أو قام الدليل على أن المعني الفلاني هو الذي لأجله حكم الشارع بهذا الحكم في الأصل وهو موجود في صورة أخري، فهذا القياس لا ينازع فيه إلا من لم يعرف هاتين المقدمتين. وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا أن دعوة محمد ﷺ شاملة للثقلين: الإنس والجن على اختلاف أجناسهم، فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلا، بل إنما علق الأحكام باسم مسلم وكافر، ومؤمن ومنافق، وبر وفاجر، ومحسن وظالم، وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث، وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة، ولكن بعض العلماء ظن ذلك في بعض الأحكام وخالفه الجمهور، كما ظن طائفة منهم أبو يوسف أنه خص العرب بألا يسترقوا، وجمهور المسلمين على أنهم يسترقون، كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة، حيث استرق بني المصطلق وفيهم جويرية بنت الحارث، ثم أعتقها وتزوجها، وأعتق بسببها من استرق من قومها.

وقال في حديث هوازن: «اختاروا إحدي الطائفتين: إما السَّبْي، وإما المال»، وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله ﷺ؛ أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات؛ كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل».

وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة، أنه كانت سَبْيةٌ من سبي هوازن عند عائشة فقال: «أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل»، وعامة من استرقه الرسول ﷺ من النساء والصبيان كانوا عربًا، وذكر هذا يطول.

ولكن عمر بن الخطاب لما رأي كثرة السبي من العجم، واستغناء الناس عن استرقاق العرب، رأي أن يعتقوا العرب، من باب مشورة الإمام وأمره بالمصلحة، لا من باب الحكم الشرعي الذي يلزم الخلق كلهم، فأخذ من أخذ بما ظنه من قول عمر، وكذلك ظن من ظن أن الجزية لا تؤخذ من مشركي العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين.

وجمهور العلماء على أنه لا يفرق بين العرب وغيرهم، ثم منهم من يجوز أخذها من كل مشرك، ومنهم من لا يأخذها إلا من أهل الكتاب والمجوس؛ وذلك أن النبي ﷺ لم يأخذ الجزية من مشركي العرب وأخذها من المجوس وأهل الكتاب.

فمن قال: تؤخذ من كل كافر. قال: إن آية الجزية لما نزلت أسلم مشركو العرب، فإنها نزلت عام تبوك، ولم يبق عربي مشرك محاربًا، ولم يكن النبي ﷺ ليغزو النصاري عام تبوك بجميع المسلمين إلا من عذر الله ويدع الحجاز وفيه من يحاربه، ويبعث أبا بكر عام تسع فنادي في الموسم: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ونبذ العهود المطلقة، وأبقي المؤقتة، مادام أهلها موفين بالعهد، كما أمر الله بذلك في أول سورة التوبة، وَأنْظَر الذين نبذ إليهم أربعة أشهر، وأمر عند انسلاخها بغزو المشركين كافة، قالوا: فدان المشركون كلهم كافة بالإسلام، ولم يرض بذل أداء الجزية؛ لأنه لم يكن لمشركي العرب من الدين بعد ظهور دين الإسلام ما يصبرون لأجله على أداء الجزية عن يد وهم صاغرون؛ إذ كان عامة العرب قد أسلموا، فلم يبق لمشركي العرب عز يعتزون به، فدانوا بالإسلام حيث أظهره الله في العرب بالحجة والبيان والسيف والسِّنان.

وقول النبي ﷺ: «أُمِرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة»، مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم، لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم. وكان النبي ﷺ قبل نزول براءة يعاهد من عاهده من الكفار من غير أن يعطي الجزية عن يد، فلما أنزل الله براءة وأمره بنبذ العهود المطلقة؛ لم يكن له أن يعاهدهم كما كان يعاهدهم، بل كان عليه أن يجاهد الجميع كما قال: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [8]، وكان دين أهل الكتاب خيرًا من دين المشركين، ومع هذا فأمروا بقتالهم حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا كان أهل الكتاب لا تجوز معاهدتهم كما كان ذلك قبل نزول براءة، فالمشركون أولي بذلك ألا تجوز معاهدتهم بدون ذلك.

قالوا: فكان في تخصيص أهل الكتاب بالذكر؛ تنبيهًا بطريق الأولي على ترك معاهدة المشركين بدون الصَّغَار والجزية، كما كان يعاهدهم في مثل هدنة الحديبية، وغير ذلك من المعاهدات.

قالوا: وقد ثبت في الصحيح من حديث بُريدَة قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمرَّ أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولاتمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلي ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم؛ ادعهم إلي الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلي التحول من دارهم إلي دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تَخْفُروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا».

قالوا: ففي الحديث أمره لمن أرسله أن يدعو الكفار إلي الإسلام ثم إلي الهجرة إلي الأمصار، وإلا فإلي أداء الجزية، وإن لم يهاجروا كانوا كأعراب المسلمين، والأعراب عامتهم كانوا مشركين، فدل على أنه دعا إلي أداء الجزية من حاصره من المشركين وأهل الكتاب. والحصون كانت باليمن كثيرة بعد نزول آية الجزية، وأهل اليمن كان فيهم مشركون وأهل كتاب، وأمر معاذًا أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا، ولم يميز بين المشركين وأهل الكتاب، فدل ذلك على أن المشركين من العرب آمنوا كما آمن من آمن من أهل الكتاب، ومن لم يؤمن من أهل الكتاب أدي الجزية.

وقد أخذ النبي ﷺ الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسًا، وأسلمت عبد القيس وغيرهم من أهل البحرين طوعًا، ولم يكن النبي ﷺ ضرب الجزية على أحد من اليهود بالمدينة ولا بخيبر، بل حاربهم قبل نزول آية الجزية، وأقر اليهود بخيبر فلاحين بلا جزية إلي أن أجلاهم عمر؛ لأنهم كانوا مهادنين له، وكانوا فلاحين في الأرض فأقرهم لحاجة المسلمين إليهم، ثم أمر بإجلائهم قبل موته، وأمر بإخراج اليهود والنصاري من جزيرة العرب، فقيل: هذا الحكم مخصوص بجزيرة العرب، وقيل: بل هو عام في جميع أهل الذمة إذا استغني المسلمون عنهم أجلوهم من ديار الإسلام، وهذا قول ابن جرير وغيره. ومن قال: إن الجزية لا تؤخذ من مشرك قال: إن آية الجزية نزلت والمشركون موجودون فلم يأخذها منهم.

والمقصود أنه لم يخص العرب بحكم، وإن قيل: إنه خص جزيرة العرب التي هي حول المسجد الحرام، كما خص المسجد الحرام بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [9].

وكذلك من قال من العلماء: إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه. فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه، ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول، وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء، وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم، بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله، كالدم والميتة، والمنخنقة والموقوذة، والمتردية والنطيحة، وأكيلة السبع؛ وما أهل به لغير الله، وكانوا بل خيارهم يكرهون أشياء لم يحرمها الله، حتي لحم الضب كان النبي ﷺ يكرهه، وقال: «لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، وقال مع هذا: إنه ليس بمحرم وأكل على مائدته وهو ينظر، وقال فيه: «لا آكله ولا أحرمه».

وقال جمهور العلماء: الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعًا لآكله في دينه، والخبيث ماكان ضارًا له في دينه. وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته، فما أورث الآكل بغيا وظلمًا وحرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع؛ لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي، فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان.

وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب، فإذا اغتذي منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل؛ ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر.

ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة؛ إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء، لا يعاف شيئًا، والله لم يحرم على أمة محمد شيئًا من الطيبات، وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب، كما قال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [10]، وقال تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [11].

وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث، كالدم المسفوح، فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه، بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر؛ ولهذا عفي جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح، وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولي أن يعفي عنه.

وكذلك ريق الكلب يعفي عنه عند جمهور العلماء في الصيد، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر القولين في مذهبه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وإن وجب غسل الإناء من ولوغه عند جمهورهم، إذ كان الريق في الولوغ كثيرًا ساريا في المائع لا يشق الاحتراز منه، بخلاف ما يصيب الصيد فإنه قليل ناشف في جامد يشق الاحتراز منه.

وكذلك التقديم في إمامة الصلاة بالنَّسَب لا يقول به أكثر العلماء، وليس فيه نص عن النبي ﷺ، بل الذي ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا»، فقدمه ﷺ بالفضيلة العلمية ثم بالفضيلة العملية، وقدم العالم بالقرآن على العالم بالسنة، ثم الأسبق إلى الدين باختياره، ثم الأسبق إلى الدين بسنه، ولم يذكر النَّسب.

وبهذا أخذ أحمد وغيره، فرتب الأئمة كما رتبهم النبي ﷺ ولم يذكر النسب، وكذلك أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة لم يرجحوا بالنسب، ولكن رجح به الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد، كالخرقي وابن حامد والقاضي وغيرهم، واحتجوا بقول سلمان الفارسي: إن لكم علينا معشر العرب ألا نؤمكم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم.

والأولون يقولون: إنما قال سلمان هذا تقديما منه للعرب على الفرس، كما يقول الرجل لمن هو أشرف منه: حقك علي كذا، وليس قول سلمان حكمًا شرعيا يلزم جميع الخلق اتباعه كما يجب عليهم اتباع أحكام الله ورسوله، ولكن من تأسى من الفرس بسلمان فله به أسوة حسنة؛ فإن سلمان سابق الفرس.

وكذلك اعتبار النسب في أهل الكتاب، ليس هو قول أحد من الصحابة، ولا يقول به جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه، ولكن طائفة منهم ذكرت عنه روايتين، واختار بعضهم اعتبار النسب موافقة للشافعي، والشافعي أخذ ذلك عن عطاء، وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا أن النبي ﷺ إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغض، فأمر بما يحبه الله ودعا إليه بحسب الإمكان، ونهى عما يبغضه الله وحسم مادته بحسب الإمكان، لم يخص العرب بنوع من أنواع الأحكام الشرعية؛ إذ كانت دعوته لجميع البرية، لكن نزل القرآن بلسانهم، بل نزل بلسان قريش، كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال لابن مسعود: أقرئ الناس بلغة قريش فإن القرآن نزل بلسانهم. وكما قال عثمان للذين يكتبون المصحف من قريش والأنصار: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة هذا الحي من قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم. وهذا لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولًا ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره الله بتبليغ قومه أولًا، ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب إليه، كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب.

وما ذكره كثير من العلماء من أن غير العرب ليسوا أكفاء للعرب في النكاح، فهذه مسألة نزاع بين العلماء، فمنهم من لا يرى الكفاءة إلا في الدين، ومن رآها في النسب أيضا فإنه يحتج بقول عمر: لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء؛ لأن النكاح مقصوده حسن الألفة، فإذا كانت المرأة أعلى منصبًا اشتغلت عن الرجل فلا يتم به المقصود. وهذه حجة من جعل ذلك حقًا لله، حتى أبطل النكاح إذا زوجت المرأة بمن لا يكافئها في الدين أو المنصب، ومن جعلها حقًا لآدمي قال: إن في ذلك غضاضة على أولياء المرأة وعليها، والأمر إليهم في ذلك.

ثم هؤلاء لا يخصون الكفاءة بالنسب، بل يقولون: هي من الصفات التي تتفاضل بها النفوس، كالصناعة واليسار والحرية وغير ذلك، وهذه مسائل اجتهادية ترد إلى الله والرسول؛ فإن جاء عن الله ورسوله ما يوافق أحد القولين فما جاء عن الله لا يختلف، وإلا فلا يكون قول أحد حجة على الله ورسوله. وليس عن النبي ﷺ نص صحيح صريح في هذه الأمور، بل قد قال ﷺ: «إن الله أذهب عنكم عُبْيَة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي»، وفي صحيح مسلم عنه ﷺ؛ أنه قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم»، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: «إن الله اصطفي كنانة من بني إسماعيل، واصطفي قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيركم نفسًا وخيركم نسبًا».

وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم، كما أن جنس قريش خير من غيرهم، وجنس بني هاشم خير من غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عنه ﷺ؛ أنه قال: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا».

لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد، فإن في غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم، كما قال رسول الله ﷺ: «إن خير القرون القرن الذين بُعْثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، وفي القرون المتأخرة من هو خير من كثير من القرن الثاني والثالث، ومع هذا فلم يخص النبي ﷺ القرن الثاني والثالث بحكم شرعي، كذلك لم يخص العرب بحكم شرعي، بل ولا خص بعض أصحابه بحكم دون سائر أمته، ولكن الصحابة لما كان لهم من الفضل أخبر بفضلهم، وكذلك السابقون الأولون لم يخصهم بحكم، ولكن أخبر بما لهم من الفضل لما اختصوا به من العمل، وذلك لا يتعلق بالنسب.

والمقصود هنا أنه أُرسل إلى جميع الثقلين: الإنس والجن، فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية، ولكن خص قريشًا بأن الإمامة فيهم، وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم؛ وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل وجب أن تكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان، وليست الإمامة أمرًا شاملًا لكل أحد منهم، وإنما يتولاها واحد من الناس.

وأما تحريم الصدقة، فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلًا لتطهيرهم ودفعًا للتهمة عنه، كما لم يورث، فلا يأخذ ورثته درهمًا ولا دينارًا، بل لا يكون له ولمن يُمونه من مال الله إلا نفقتهم، وسائر مال الله يصرف فيما يحبه الله ورسوله، وذوو قرباه يعطون بمعروف من مال الخمس، والفيء الذي يعطي منه في سائر مصالح المسلمين لا يختص بأصناف معينة كالصدقات، ثم ما جعل لذوي القربي قد قيل: إنه سقط بموته كما يقوله أبو حنيفة، وقيل: هو لقربي من يلي الأمر بعده، كما روي عنه: «ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلي الأمر بعده»، وهذا قول أبي ثور وغيره. وقيل: إن هذا كان مأخذ عثمان في إعطاء بني أمية، وقيل: هو لذوي قربى الرسول ﷺ دائمًا.

ثم من هؤلاء من يقول: هو مقدر بالشرع وهو خمس الخمس، كما يقوله الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وقيل: بل الخمس والفيء يصرف في مصالح المسلمين باجتهاد الإمام، ولا يقسم على أجزاء مقدرة متساوية، وهذا قول مالك وغيره. وعن أحمد أنه جعل خمس الزكاة فيئًا، وعلى هذا القول يدل الكتاب وسيرة الخلفاء الراشدين، وبسط هذه الأمور له موضع آخر. والمقصود هنا أن بعض آيات القرآن، وإن كان سببه أمورًا كانت في العرب، فحكم الآيات عام يتناول ما تقتضيه الآيات لفظًا ومعني في أي نوع كان، ومحمد ﷺ بعث إلى الإنس والجن.

وجماهير الأمم يقر بالجن ولهم معهم وقائع يطول وصفها، ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال المتفلسفة والأطباء ونحوهم، وأما أكابر القوم فالمأثور عنهم؛ إما الإقرار بها، وإما ألا يحكي عنهم في ذلك قول. ومن المعروف عن بُقْراط أنه قال في بعض المياه: إنه ينفع من الصرع، لست أعني الذي يعالجه أصحاب الهياكل وإنما أعني الصرع الذي يعالجه الأطباء. وأنه قال: طِبُّنا مع طب أهل الهياكل كطب العجائز مع طبنا.

وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي، وإنما معه عدم العلم؛ إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك، كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه، وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن، وإن كان قد علم من غير طبه أن للنفس تأثيرًا عظيمًا في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية، وكذلك للجن تأثير في ذلك، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: »إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم«، وفي الدم الذي هو البخار الذي تسميه الأطباء: الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في البدن الذي به حياة البدن، كما قد بسط هذا في موضع آخر.

والمراد هنا أن محمدا ﷺ أرسل إلى الثقلين: الإنس والجن، وقد أخبر الله في القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به، كما قال تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [12]، ثم أمره أن يخبر الناس بذلك فقال تعالى: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } [13] إلخ، فأمره أن يقول ذلك ليعلم الإنس بأحوال الجن، وأنه مبعوث إلى الإنس والجن؛ لما في ذلك من هدى الإنس والجن ما يجب عليهم من الإيمان بالله ورسله وإلىوم الآخر، وما يجب من طاعة رسله ومن تحريم الشرك بالجن وغيرهم، كما قال في السورة: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [14].

كان الرجل من الإنس ينزل بالوادي والأودية مَظَانُّ الجن، فإنهم يكونون بالأودية أكثر مما يكونون بأعإلى الأرض فكان الإنسي يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فلما رأت الجن أن الإنس تستعيذ بها زاد طغيانهم وغيرهم، وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم وأسماء ملوكهم، فإنه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه، فيحصل لهم بذلك من الرئاسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سُؤْلِهِمْ، لاسيما وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم قدرًا، فإذا خضعت الإنس لهم واستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لأصاغرهم ليقضي له حاجته.

ثم الشياطين منهم من يختار الكفر والشرك ومعاصي الرب، وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر، ويلتذون به ويطلبونه، ويحرصون عليه بمقتضي خبث أنفسهم، وإن كان موجبًا لعذابهم وعذاب من يغوونه، كما قال إبليس: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [15]، وقال تعالى: { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلا } [16]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [17].

والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقًا يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله، والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك؛ صار ذلك كالرشوة والبِرْطِيل [18] لهم. فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالًا ليقتل له من يريد قتله، أو يعينه على فاحشة، أو ينال معه فاحشة.

ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد، وإما غيرهما إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة. أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم؛ إما تَغْوِير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به، وإما غير ذلك.

وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة ومن وقعت له ممن أعرفه ما يطول حكايته؛ فإنهم كثيرون جدًا.

والمقصود أن محمدا ﷺ بعث إلى الثقلين، واستمع الجن لقراءته وولوا إلى قومهم منذرين كما أخبر الله عز وجل وهذا متفق عليه بين المسلمين. ثم أكثر المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم يقولون: إنهم جاؤوه بعد هذا، وأنه قرأ عليهم القرآن وبايعوه، وسألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال لهم: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفر مايكون لحمًا، ولكم كل بَعْرة علف لدوابكم» قال النبي ﷺ: «فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما زاد إخوانكم من الجن»، وهذا ثابت في صحيح مسلم، وغيره من حديث ابن مسعود.

وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، من حديث أبي هريرة نهيه ﷺ عن الاستنجاء بالعظم والروث في أحاديث متعددة.

وفي صحيح مسلم وغيره، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِرَاءة، قال: فقال: أجل! لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي بِرَجِيعٍ أو عظم. وفي صحيح مسلم وغيره أيضا عن جابر قال: نهى رسول الله ﷺ أن نتمسح بعظم أو ببعر، وكذلك النهى عن ذلك في حديث خزيمة بن ثابت وغيره.

وقد بَيَّنَ علة ذلك في حديث ابن مسعود، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن مسعود؛ أن النبي ﷺ قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن»، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم لحمًا، وكل بَعْرة علف لدوابكم»، فقال النبي ﷺ: «فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم». وفي صحيح البخاري وغيره، عن أبي هريرة؛ أنه كان يحمل مع النبي ﷺ إدَاوَة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها قال: «من هذا؟» قلت: أبا هريرة، قال: «ابغني أحجارًا أسْتَنْفضُ بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة» فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: «هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نَصِيبين ونعم الجن فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعامًا».

ولما نهى النبي ﷺ عن الاستنجاء بما يفسد طعام الجن وطعام دوابهم؛ كان هذا تنبيهًا على النهي عما يفسد طعام الإنس وطعام دوابهم بطريق الأولى، لكن كراهة هذا والنفور عنه ظاهر في فطر الناس، بخلاف العظم والروثة فإنه لا يعرف نجاسة طعام الجن؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة المتعددة بالنهي عنه. وقد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه خاطب الجن وخاطبوه، وقرأ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد.

وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس؛ أنه كان يقول: إن النبي ﷺ لم ير الجن ولا خاطبهم، ولكن أخبره أنهم سمعوا القرآن. وابن عباس قد علم ما دل عليه القرآن من ذلك، ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهما من إتيان الجن إليه ومخاطبته إياهم، وأنه أخبره بذلك في القرآن وأمره أن يخبر به، وكان ذلك في أول الأمر لما حُرِسَتِ السماء، وحِيلَ بينهم وبين خبر السماء، وملئت حرسًا شديدًا، وكان في ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة، كما قد بسط في موضع آخر، وبعد هذا أتوه وقرأ عليهم القرآن، وروي أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وصار كلما قال: { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [19] قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد.

وقد ذكر الله في القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل، كقوله تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا } [20]، وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا: { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } [21] أي: مذاهب شَتَّي؛ مسلمون وكفار، وأهل سنة وأهل بدعة، وقالوا: { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [22]، والقاسط: الجائر، يقال: قسط إذا جار وأقسط إذا عدل.

وكافرهم معذب في الآخرة باتفاق العلماء، وأما مؤمنهم فجمهور العلماء على أنه في الجنة، وقد روي: «أنهم يكونون في رَبَضِ الجنة، تراهم الإنس من حيث لا يرونهم وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقيل: إن ثوابهم النجاة من النار، وهو مأثور عن أبي حنيفة. وقد احتج الجمهور بقوله: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } [23]، قالوا: فدل ذلك على تأتي الطَّمْثُ منهم؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة.

هامش

  1. [النحل: 43]
  2. [الرعد: 43]
  3. [يونس: 94]
  4. [الأحقاف: 10]
  5. [الشعراء: 197]
  6. [الأنعام: 114]
  7. [البقرة: 275]
  8. [التوبة: 5]
  9. [التوبة: 28]
  10. [النساء: 160]
  11. [الأنعام: 146]
  12. [الأحقاف: 29 - 32]
  13. [الجن: 1]
  14. [الجن: 6]
  15. [ص: 82، 83]
  16. [الإسراء: 62]
  17. [سبأ: 20]
  18. [البِرطِيل بالكسر: حجر، أو حديد طويل صُلب خِلْقة، ينقر به الرحى، والمعول، والرِّشوة]
  19. [الرحمن: 13]
  20. [الأنعام: 130]
  21. [الجن: 11]
  22. [الجن: 14، 15]
  23. [الرحمن: 56]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع عشر - أصول الفقه
فصل الكتاب والسنة والإجماع واجبة الاتباع | فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين | فصل في استعمال الدعوة إلى الله مع الجن | فصل في تصور الشيطان في صورة المدعو المستغاث به | فصل في الذب عن المظلوم ونصرته | فصل في جواز أن يكتب للمصاب شيئا من كتاب الله ويغسل به ويسقى | فصل في الاكتفاء بالرسالة والاستغناء بالنبي عن اتباع ما سواه | فصل في أول البدع ظهورا في الإسلام | أصل جامع في الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه | فصل في الأمر باتباع الكتاب والحكمة | قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة | فصل في أن الرسالة ضرورية لإصلاح العبد في معاشه ومعاده | فصل في توحد الملة وتعدد الشرائع | فصل في قوله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون | فصل في الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق والاختلاف | فصل فيما تنازع فيه العلماء | قاعدة في العلوم والاعتقادات | فصل في غلط من قال أن الحقائق تابعة للعقائد | فصل ما لا تؤثر فيه الاعتقادات | فصل في تأثير الاعتقادات في رفع العذاب | فصل في تأثير الاعتقادات في الأدلة الشرعية | فصل مذاهب الأئمة تؤخذ من أقوالهم | معارج الوصول | فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه | فصل في العمليات أو الفروع | قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم | فصل في العلوم الشرعية والعقلية | فصل في حدود الأسماء التي علق الله بها الأحكام | فصل في اسم الحيض | فصل في المسح على الخفين | فصل في القصر والفطر في السفر | فصل في مقادير الدراهم والدنانير والمكاييل | فصل في مقدار الإطعام شرعا | فصل في الاستبراء | فصل في العاقلة ومقدار ما تحمله من الدية | فصل في خمس الغنيمة وتقسيمه | فصل في التقليد الذي حرمه الله ورسوله | سئل عمن يقول أن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة | فصل أحوال العبد في العبادات المأمور بها | فصل في اسم الشريعة والشرع والسنة