→ فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في العمليات أو الفروع ابن تيمية |
قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم ← |
فصل في العمليات أو الفروع
وأما العمليات وما يسميه ناس: الفروع، والشرع، والفقه، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان، فما شيء مما أمر الله به أو نهي عنه أو حلله أو حرمه إلا بين ذلك، وقد قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [1]، وقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حديثا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [2]، وقال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [3]، وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } [4]، وقال تعالى: { تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [5]، فقد بين سبحانه أنه ما أنزل عليه الكتاب إلا ليبين لهم الذي اختلفوا فيه، كما بين أنه أنزل جنس الكتاب مع النبيين ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
وقال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [6]، وقال تعالى: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } [7]، فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه، كما قال: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [8]، وقال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [9]، وهو الرد إلى كتاب الله، أو إلى سنة الرسول بعد موته وقوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } شرط، والفعل نكرة في سياق الشرط، فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه.
والرسول أنزل الله عليه الكتاب والحكمة، كما ذكر ذلك في غير موضع، وقد علم أمته الكتاب والحكمة كما قال: { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [10]، وكان يذكر في بيته الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك فقال: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ } [11]، فآيات الله هي القرآن؛ إذ كان نفس القرآن يدل على أنه منزل من الله، فهو علامة ودلالة على منزله، و }وَالْحِكْمَةِ } قال غير واحد من السلف: هي السنة. وقال أيضا طائفة كمالك وغيره: هي معرفة الدين والعمل به. وقيل غير ذلك. وكل ذلك حق، فهي تتضمن التمييز بين المأمور والمحظور، والحق والباطل، وتعلىم الحق دون الباطل، وهذه السنة التي فرق بها بين الحق والباطل، وبين الأعمال الحسنة من القبيحة، والخير من الشر، وقد جاء عنه ﷺ أنه قال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلام نحو هذا، وهذا كثير في الحديث والآثار، يذكرونه في الكتب التي تذكر فيها هذه الآثار، كما يذكر مثل ذلك غير واحد فيما يصنفونه في السنة، مثل ابن بَطَّة واللاَّلكائي والطلَّمنِكي، وقبلهم المصنفون في السنة كأصحاب أحمد، مثل عبد الله والأثرم [12] وحرب الكرماني، وغيرهم، ومثل الخلال وغيره.
والمقصود هنا تحقيق ذلك، وأن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين.
وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق، لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق؛ فإن الله بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل، وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك، والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين، وهذا هو القياس الصحيح. وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل، وبين القياس الصحيح، وهي الأمثال المضروبة ما بينه من الحق، لكن القياس الصحيح يطابق النص، فإن الميزان يطابق الكتاب، والله أمر نبيه أن يحكم بما أنزل وأمره أن يحكم بالعدل، فهو أنزل الكتاب، وإنما أنزل الكتاب بالعدل، قال تعالى: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ } [13]، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } [14].
وأما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة ولله الحمد على ضلالة، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة، فقال تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [15]، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، كما وصف نبيهم بذلك في قوله: { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } [16]، وبذلك وصف المؤمنين في قوله: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } [17]، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال؛ لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ولم تنه عن المنكر فيه، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [18]، والوسط: العدل الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال: «وَجَبَتْ وَجَبَتْ»، ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا فقال: «وجبت وجبت»، قالوا: يا رسول الله، ما قولك: وجبت وجبت؟ قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض».
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهي عن شيء فقد نهي عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ؛ لم يكونوا شهداء الله في الأرض، بل زكاهم الله في شهادتهم كما زكي الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا بحق، وقال تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [19]، والأمة منيبة إلى الله، فيجب اتباع سبيلها، وقال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [20]، فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة، فدل على أن متابعهم عامل بما يرضي الله، والله لا يرضي إلا بالحق لا بالباطل، وقال تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [21].
وكان عمر بن عبد العزيز يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيرًا قال: سَنَّ رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سننًا الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ومعونة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله تعالى ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرًا.
والشافعي رضي الله عنه لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع، كما كان هو وغيره ومالك ذكر عن عمر بن عبد العزيز، والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيد، كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدي مستحق للوعيد، ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده، فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره.
وهنا للناس ثلاثة أقوال:
قيل: اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرد مخالفة الرسول المذكورة في الآية.
وقيل: بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم، فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم.
وقيل: بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم، كما دلت عليه الآية، لكن هذا لا يقتضي مفارقة الأول، بل قد يكون مستلزمًا له، فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول، وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين، وهذا كما في طاعة الله والرسول، فإن طاعة الله واجبة، وطاعة الرسول واجبة، وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم، وهما متلازمان؛ فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصي الله، ومن عصي أميري فقد عصاني»، وقال: «إنما الطاعة في المعروف»، يعني: إذا أمر أميري بالمعروف فطاعته من طاعتي، وكل من عصي الله فقد عصي الرسول؛ فإن الرسول يأمر بما أمر الله به، بل من أطاع رسولا واحدًا فقد أطاع جميع الرسل، ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع، ومن عصي واحدًا منهم فقد عصي الجميع، ومن كذب واحدًا منهم فقد كذب الجميع؛ لأن كل رسول يصدق الآخر، ويقول: إنه رسول صادق ويأمر بطاعته، فمن كذب رسولا فقد كذب الذي صدقه، ومن عصاه فقد عصي من أمر بطاعته.
ولهذا كان دين الأنبياء واحدًا، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد». وقال تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [22]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [23]، وقال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [24].
ودين الأنبياء كلهم الإسلام، كما أخبر الله بذلك في غير موضع، وهو الاستسلام لله وحده. وذلك إنما يكون بطاعته فيما أمر به في ذلك الوقت، فطاعة كل نبي هي من دين الإسلام إذ ذاك، واستقبال بيت المقدس كان من دين الإسلام قبل النسخ، ثم لما أمر باستقبال الكعبة صار استقبالها من دين الإسلام، ولم يبق استقبال الصَّخْرة من دين الإسلام؛ ولهذا خرج اليهود والنصارى عن دين الإسلام؛ فإنهم تركوا طاعة الله وتصديق رسوله واعْتَاضُوا عن ذلك بمبدل أو منسوخ.
وهكذا كل مبتدع دينًا خالف به سنة الرسول لا يتبع إلا دينًا مبدلا أو منسوخًا، فكل من خالف ما جاء به الرسول؛ إما أن يكون ذلك قد كان مشروعًا لنبي ثم نسخ على لسان محمد ﷺ. وإما ألا يكون شرع قط. فهذا كالأديان التي شرعها الشياطين على ألسنة أوليائهم، قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ } [25]، وقال: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [26]، وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [27].
ولهذا كان الصحابة إذا قال أحدهم برأيه شيئًا يقول: إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، كما قال ذلك ابن مسعود، وروي عن أبي بكر وعمر. فالأقسام ثلاثة؛ فإنه إما أن يكون هذا القول موافقا لقول الرسول أو لا يكون وإما أن يكون موافقًا لشرع غيره، وإما ألا يكون، فهذا الثالث المبدل كأديان المشركين والمجوس، وما كان شرعًا لغيره وهو لا يوافق شرعه فقد نسخ كالسبت، وتحريم كل ذي ظفر، وشحم الثَّرْب [28] والكليتين؛ فإن اتخاذ السبت عيدًا، وتحريم هذه الطيبات قد كان شرعًا لموسى ثم نسخ؛ بل قد قال المسيح: { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [29]، فقد نسخ الله على لسان المسيح بعض ما كان حرامًا في شرع موسى.
وأما محمد فقال الله فيه { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [30]، والشرك كله من المبدل، لم يشرع الله الشرك قط، كما قال: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [31]، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [32].
وكذلك ما كان يحرمه أهل الجاهلية مما ذكره الله في القرآن، كالسَّائِبَة والوَصيلة والحام، وغير ذلك، هو من الدين المبدل؛ ولهذا لما ذكر الله ذلك عنهم في سورة المائدة بَيَّنَ أن من حَرَّم ذلك فقد كذب على الله، وذكر تعالى ما حرمه على لسان محمد وعلى لسان موسى في الأنعام فقال: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [33]، وكذلك قال بعد هذا: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } [34].
فبين أن ما حرمه المشركون لم يحرمه على لسان موسى ولا لسان محمد، وهذان هما اللذان جاءا بكتاب فيه الحلال والحرام، كما قال تعالى: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } [35]، وقال تعالى: { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً } [36]، وقال تعالى: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى } إلى قوله: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [37]، وقالت الجن لما سمعت القرآن: { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } [38]، وقال ورقة بن نوفل: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرجان من مِشْكَاةٍ واحدة، وكذلك قال النجاشي.
فالقرآن والتوراة هما كتابان جاءا من عند الله لم يأت من عنده كتاب أهدي منهما، كل منهما أصل مستقل والذي فيهما دين واحد، وكل منهما يتضمن إثبات صفات الله تعالى والأمر بعبادته وحده لا شريك له، ففيه التوحيد قولا وعملا كما في سورتي الإخلاص: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ }
وأما الزبور، فإن داود لم يأت بغير شريعة التوراة، وإنما في الزبور ثناء على الله، ودعاء وأمر ونهي بدينه وطاعته وعبادته مطلقًا.
وأما المسيح، فإنه قال: { وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [39]، فأحل لهم بعض المحرمات، وهو في الأكثر متبع لشريعة التوراة؛ ولهذا لم يكن بُدَُّ لمن اتبع المسيح من أن يقرأ التوراة ويتبع ما فيها؛ إذ كان الإنجيل تبعًا لها.
وأما القرآن، فإنه مستقل بنفسه لم يُحْوِج أصحابه إلى كتاب آخر، بل اشتمل على جميع ما في الكتب من المحاسن، وعلى زيادات كثيرة لا توجد في الكتب؛ فلهذا كان مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، يقرر ما فيها من الحق ويبطل ما حرف منها، وينسخ ما نسخه الله، فيقرر الدين الحق وهو جمهور ما فيها، ويبطل الدين المبدل الذي لم يكن فيها، والقليل الذي نسخ فيها؛ فإن المنسوخ قليل جدًا بالنسبة إلى المحكم المقرر.
والأنبياء كلهم دينهم واحد، وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم، وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم، وكذلك التكذيب والمعصية، لا يجوز أن يكذب نبي نبيًا، بل إن عرفه صدقه وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقًا، وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته؛ ولهذا كان من صَدَّق محمدا فقد صدق كل نبي، ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي، ومن كذبه فقد كذب كل نبي، ومن عصاه فقد عصي كل نبي، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } [40]، وقال تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [41].
ومن كذب هؤلاء تكذيبًا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع؛ ولهذا يقول تعالى: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [42]، ولم يرسل إليهم قبل نوح أحدًا، وقال تعالى: }وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ } [43].
وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنًا في جنس الرسل كما قدمنا، بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه، فهو مكذب لجميع الرسل، كالذين قال فيهم: { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } [44]، وقال تعالى: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [45]، وقال تعالى عن الوليد: { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [46].
وأهل الكتاب منهم من يؤمن بجنس الرسالة، لكن يكذب بعض الرسل؛ كالمسيح ومحمد، فهؤلاء لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقًا، وكثير من الفلاسفة والباطنية، وكثير من أهل الكلام والتصوف لا يكذب الرسل تكذيبًا صريحًا، ولا يؤمن بحقيقة النبوة والرسالة، بل يقر بفضلهم في الجملة مع كونه يقول: إن غيرهم أعلم منهم، أو أنهم لم يبينوا الحق أو لبسوه، أو أن النبوة هي فَيْضٌ يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم، ولا يقر بملائكة مفضلين ولا بالجن، ونحو ذلك، فهؤلاء يقرون ببعض صفات الأنبياء دون بعض، وبما أوتوه دون بعض، ولا يقرون بجميع ما أوتيه الأنبياء، وهؤلاء قد يكون أحدهم شرًا من اليهود والنصارى الذين أقروا بجميع صفات النبوة لكن كذبوا ببعض الأنبياء؛ فإن الذي أقر به هؤلاء مما جاءت به الأنبياء أعظم وأكثر؛ إذ كان هؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ويقرون بقيام القيامة، ويقرون بأنه تجب عبادته وحده لا شريك له، ويقرون بالشرائع المتفق عليها، وأولئك يكذبون بهذا، وإنما يقرون ببعض شرع محمد ﷺ.
ولهذا كان اليهود والنصارى أقل كفرًا من الملاحدة الباطنية والمتفلسفة، ونحوهم، لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلاء فقد جمع نَوْعَي الكفر؛ إذ لم يؤمن بجميع صفاتهم ولا بجميع أعيانهم، وهؤلاء موجودون في دول الكفار كثيرًا، كما يوجد أيضا في المنتسبين إلى الإسلام من هؤلاء وهؤلاء؛ إذ كانوا في دولة المسلمين.
وأهل الكتاب كانوا منافقين، فيهم من النفاق بحسب ما فيهم من الكفر، والنفاق يتبعض، والكفر يتبعض، ويزيد وينقص، كما أن الإيمان يتبعض، ويزيد وينقص، قال الله تعالى: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } [47]، وقال: { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [48]، وقال: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [49]، وقال: { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [50]، وقال: { وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } [51]، وقال: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضا } [52]، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا } [53]
وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون أنه يعلم بالعقل، مثل تثليث النصارى، ومثل تكذيب محمد، ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين، وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن؛ فإن الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك، والقرآن مملوء من ذلك؛ إذ كان الكفر والإيمان يتعلق بالرسالة والنبوة، فإذا تبين ما خالفوا فيه الأنبياء ظهر كفرهم.
وأولئك المتكلمون لما أَصَّلُوا لهم دينًا بما أحدثوه من الكلام، كالاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام ظنوا أن هذا هو أصول الدين، ولو كان ما قالوه حقًا لكان ذلك جزء من الدين، فكيف إذا كان باطلا؟
وقد ذكرت في الرد على النصارى من مخالفتهم للأنبياء كلهم مع مخالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر؛ ولهذا قيل فيه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح وخطابهم في مقامين:
أحدهما: تبديلهم لدين المسيح.
والثاني: تكذيبهم لمحمد ﷺ، واليهود خطابهم في تكذيب من بعد موسى إلى المسيح، ثم في تكذيب محمد ﷺ، كما ذكر الله ذلك في سورة البقرة في قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقا تَقْتُلُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } [54]، ثم قال: { وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ } [55]، إلى أن ذكر أنهم أعرضوا عن كتاب الله مطلقًا واتبعوا السحر، فقال: { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [56].
والنصارى نَذُمُّهُم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه، وعلى تكذيب الرسول والرهبانية التي ابتدعوها، ولا نحمدهم عليها؛ إذ كانوا قد ابتدعوها وكل بدعة ضلالة، لكن إذا كان صاحبها قاصدًا للحق فقد يعفي عنه، فيبقي عمله ضائعًا لا فائدة فيه، وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه، فلا يعاقب ولا يثاب؛ ولهذا قال: { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ؛ فإن المغضوب عليه يعاقب بنفس الغضب، والضال فَاتَهُ المقصود وهو الرحمة والثواب، ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك، بل يكون ملعونا مطرودا؛ ولهذا جاء في حديث زيد بن عمرو بن نُفَيْل: أن اليهود قالوا له: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله. وقال له النصارى: حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله.
وقال الضَّحَّاك وطائفة: إن جهنم طبقات، فالعليا لعصاة هذه الأمة، والتي تليها للنصارى، والتي تليها لليهود. فجعلوا اليهود تحت النصارى، والقرآن قد شهد بأن المشركين واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا: إنا نصارى، وشدة العداوة زيادة في الكفر. فاليهود أقوى كفرًا من النصارى، وإن كان النصارى أجهل وأضل، لكن أولئك يعاقبون على عملهم؛ إذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عنادًا، فكانوا مغضوبًا عليهم، وهؤلاء بالضلال حرموا أجر المهتدين، ولعنوا وطردوا عما يستحقه المهتدون، ثم إذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب؛ إذ كان اسم الضلال عامًا. وقد كان النبي ﷺ يقول في الحديث الصحيح في خطبة يوم الجمعة: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هَدْي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»، ولم يقل: وكل ضلالة في النار، بل يضل عن الحق من قصد الحق وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده، وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له.
وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم.
وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [57]، وفي الصحيح أن الله قال: «قد فعلت» وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن الرسول بين جميع الدين بالكتاب والسنة، وأن الإجماع إجماع الأمة حق؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة.
والآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [58]، ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع؛ فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين، وهذا لا نزاع فيه، أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول، وهذا لا نزاع فيه، أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة، وهذا لا نزاع فيه؛ فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النزاع.
وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقًا، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم، ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية.
والقول الثالث الوسط: أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدي، وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا كما تقدم، لكن لا ينفي تلازمهما كما ذكر في طاعة الله والرسول. وحينئذ نقول: الذم إما أن يكون لاحقًا لمشاقة الرسول فقط، أو باتباع غير سبيلهم فقط، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر، أو بكل منهما لكونه مستلزمًا للآخر. والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعًا لا فائدة فيه، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعًا، فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه، ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية؛ فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع.
بَقِي القسم الآخر، وهو أن كلاًّ من الوصفين يقتضي الوعيد؛ لأنه مستلزم للآخر، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام، فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار، ومثله قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلا بَعِيدًا } [59]، فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره، فمن كفر بالله كفر بالجميع، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرًا بالله؛ إذ كذب رسله وكتبه، وكذلك إذا كفر بإلىوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرًا.
وكذلك قوله: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [60]، ذمهم على الوصفين، وكل منهما مُقْتَضٍ للذم، وهما متلازمان؛ ولهذا نهي عنهما جميعًا في قوله: { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [61]، فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به؛ لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق.
فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعًا، والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان؛ وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصًا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول. وهذا هو الصواب.
فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفي ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.
وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص، كالمضاربة وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش؛ فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله ﷺ قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال خديجة، والعِيرُ التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله ﷺ، وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم يَنْهَ عن ذلك، والسنة: قوله وفعله وإقراره. فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.
والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ويعتمد عليه الفقهاء، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين؛ لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علىنا، فكيف يكون لك الربح وعلىنا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربًا فجعله مضاربة، وإنما قال ذلك؛ لأن المضاربة كانت معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده، فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول، كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات؛ كالخياطة والجزارة.
وعلى هذا، فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصًا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم. وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس.
ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص، فنقلوه بالمعني، كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع، وكما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعضهم بعموم، كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله: { وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [62]، وقال ابن مسعود: سورة النساء القُصْرَي نزلت بعد الطُّولَي، أي: بعد البقرة، وقوله: { أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }، يقتضي انحصار الأجل في ذلك، فلو أوجب عليها أن تَعْتَدَّ بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها، وعلى وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين، وجاء النص الخاص في قصة سُبَيْعَة الأسْلَمِية بما يوافق قول ابن مسعود.
وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها: هل لها مهر المثل؟ أفتي ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل، ثم حديث بِرْوَع بنت وَاشِقٍ بما يوافق ذلك، وقد خالفه على وزيد وغيرهما فقالوا: لا مهر لها. فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه، ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها، بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص؛ أولئك احتجوا بنص كالمتوفي عنها الحامل، وهؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها، والآخرين قالوا: إنما يدخل في آية الحمل فقط، وإن آية الشهور في غير الحامل، كما أن آية القروء في غير الحامل.
وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله: { أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [63].
وكذلك لما تنازعوا في المَبْتُوتَة: هل لها نفقة أو سكني؟ احتج هؤلاء بحديث فاطمة، وبأن السكني التي في القرآن للرجعية، وأولئك قالوا: بل هي لهما.
ودلالات النصوص قد تكون خفية، فخص الله بفهمهن بعض الناس، كما قال على: إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه.
وقد يكون النص بينا، ويذهل المجتهد عنه، كتيمم الجنب فإنه بين في القرآن في آيتين. ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال: الحاضر: ما دري عبد الله ما يقول إلا أنه قال: لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد المرء البرد أن يتيمم، وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر: إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } [64]، وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة؟
وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [65]، واحتج بهذه الآية من منع الفسخ، وآخرون يقولون: إنما أمر بالإتمام فقط، وكذلك أمر الشارع أن يتم، وكذلك في الفسخ قالوا: من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها. أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتي بما تم مما شرع فيه؛ فإنه شرع في حج مجرد فأتي بعمرة في الحج، ولو لم يكن هذا إتمامًا لما أمر به النبي ﷺ أصحابه عام حجة الوداع.
وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله: { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } [66]، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه.
وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جَلِي ولا خفي فهذا ما لا أعرفه.
والجد لما قال أكثرهم: إنه أب، استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله: { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } [67]، وقال ابن عباس: لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمي أبا الأب جدًا لما قالت: { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } [68]، ويقول: إنما هو أب لكن أب أبعد من أب.
وقد روي عن على وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعي إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقًا فقد غلط، ومن ادعي أن من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأي دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأي دلالة الميزان ذكرها، والدلائل الصحيحة لا تتناقض لكن قد يخفي وجه اتفاقها أو ضعف أحدها على بعض العلماء.
وللصحابة فهم في القرآن يخفي على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس.
ومن قال من المتأخرين: إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله؛ فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك، وهذا كقولهم: إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها، فإنما هذا قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام، وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة، أو في نظيرها، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يَحْتَجُّ به عامتهم، ولا يحتاجون إليه؛ إذ هم أهل الإجماع، فلا إجماع قبلهم، لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شُرَيْح: اقْضِ بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما به قضي الصالحون قبلك. وفي رواية: فبما أجمع عليه الناس.
وعمر قدم الكتاب ثم السنة وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر، قدم الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع. وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي بكر وعمر؛ لقوله: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو الصواب.
ولكن طائفة من المتأخرين قالوا: يبدأ المجتهد بأن ينظر أولا في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصًا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقال بعضهم: الإجماع نسخه والصواب طريقة السلف.
وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلابد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد قط، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك، ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرًا أو غالبًا، فمن ذا الذي يحيط بأقوال المجتهدين؟ بخلاف النصوص فإن معرفتها ممكنة متيسرة.
وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولا؛ لأن السنة لا تنسخ الكتاب فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه، فلا يقدم غير القرآن عليه، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة، ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته، لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره، ولا تُعَارض السنة بإجماع وأكثر ألفاظ الآثار، فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة، مع أنه فيها، وكذلك في القرآن، فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة، وإذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضًا لما في القرآن، وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتابًا ولا سنة.
تم بحمد الله وعونه وصلواته على خير بريته محمد وآله وسلم.
هامش
- ↑ [المائدة: 3]
- ↑ [يوسف: 111]
- ↑ [النحل: 89]
- ↑ [البقرة: 213]
- ↑ [النحل: 63، 64]
- ↑ [الشورى: 10]
- ↑ [التوبة: 115]
- ↑ [الأنعام: 119]
- ↑ [النساء: 59]
- ↑ [البقرة: 129]
- ↑ [الأحزاب: 34]
- ↑ [هو أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الأثرم الطائي، الإمام الحافظ، مصنف السنن، وتلميذ الإمام أحمد، له مصنف في علم الحديث، مات بمدينة إسكاف في حدود الستين ومائتين]
- ↑ [المائدة: 49]
- ↑ [المائدة: 42]
- ↑ [آل عمران: 110]
- ↑ [الأعراف: 157]
- ↑ [التوبة: 17]
- ↑ [البقرة: 143]
- ↑ [لقمان: 15]
- ↑ [التوبة: 100]
- ↑ [النساء: 115]
- ↑ [الشورى: 13]
- ↑ [المؤمنون: 51 - 53]
- ↑ [الروم: 30 - 32]
- ↑ [الشورى: 12]
- ↑ [الأنعام: 121]
- ↑ [الأنعام: 112]
- ↑ [شحم الثَّرْب: شحم رقيق يُغَشِّي الكرش والأمعاء، جمعها ثروب وأثراب]
- ↑ [آل عمران: 50]
- ↑ [الأعراف: 157]
- ↑ [الزخرف: 45]
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [الأنعام: 145، 146]
- ↑ [النحل: 118]
- ↑ [القصص: 49]
- ↑ [الأحقاف: 12]
- ↑ [الأنعام: 91، 92]
- ↑ [الأحقاف: 30]
- ↑ [آل عمران: 50]
- ↑ [النساء: 150، 151]
- ↑ [البقرة: 58]
- ↑ [الشعراء: 105]
- ↑ [الفرقان: 37]
- ↑ [غافر: 70 72]
- ↑ [غافر: 83 - 85]
- ↑ [المدثر: 18 25]
- ↑ [التوبة: 37]
- ↑ [التوبة: 124، 125]
- ↑ [الإسراء: 82]
- ↑ [المائدة: 64]
- ↑ [مريم: 76]
- ↑ [البقرة: 10]
- ↑ [النساء: 137]
- ↑ [البقرة: 87، 88]
- ↑ [البقرة: 89]
- ↑ [البقرة: 101 103]
- ↑ [البقرة: 286]
- ↑ [النساء: 115]
- ↑ [النساء: 136]
- ↑ [آل عمران: 71]
- ↑ [البقرة: 42]
- ↑ [الطلاق: 4]
- ↑ [التحريم: 1، 2]
- ↑ [الطلاق: 1]
- ↑ [البقرة: 196]
- ↑ [النساء: 43]
- ↑ [الأعراف: 27]
- ↑ [الجن: 3]