جامع بيان العلم وفضله/باب في خطأ المجتهدين من المفتيين والحكام | جامع بيان العلم وفضله باب نفي الالتباس في الفرق بين الدليل والقياس المؤلف: ابن عبد البر |
جامع بيان العلم وفضله/باب جامع بيان ما يلزم الناظر في اختلاف العلماء |
- باب نفي الالتباس في الفرق بين الدليل والقياس
وذكر من ذم القياس على غير أصل قال أبو عمر لاخلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة وهم أهل الفقه والحديث في نفي القياس في التوحيد وإثباته في الأحكام إلا داود بن علي بن خلف الأصبهاني ثم البغدادي ومن قال بقوله فإنهم نفوا القياس في التوحيد والأحكام جميعا وأما أهل البدع فعلى قولين في هذا الباب سوى القولين المذكورين منهم من أثبت القياس في التوحيد والأحكام جميعا ومنهم من أثبته في التوحيد ونفاه في الأحكام وأما داود ابن علي ومن قال بقوله فأنهم أثبتوا الدليل والاستدلال في الأحكام وأوجبوا الحكم بأخبار الآحاد العدول كقول سائر فقهاء المسلمين في الجملة والدليل عند داود ومن تابعه نحو قول الله جل وعز واشهدوا ذوي عدل منكم لو قال قائل فيه دليل على رد شهادة الفساق كان مستدلا مصيبا وكذلك قوله ان جاءكم فاسق بنبأ كان فيه دليل على قول خبر العدل ونحو قول الله جل وعز إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله دلل على أن كل مانع من السعي إلى الجمعة تركه واجب لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن جميع أضاده ونحو قول النبي ﷺ من باع نخلا قد أبرت فثمنها للبائع إلا أن يشترط المبتاع دليل على أنها إذا بيعت ولم تؤبر فثمرتها للمبتاع ومثل هذا النحو حيث كان من الكتاب والسنة وقال سائر العلماء في هذا الاستدلال قولان أحدهما أنه نوع من أنواع القياس وضرب منه على ما رتب الشافعي وغيره من مراتب القياس وضروبه وأنه يدخله ما يدخل القياس من العلل والقول الآخر أنه هو النص بعيبنه وفحوى خطابة قال أبو عمر القياس الذي لا يختلف أنه قياس هو تشبيه الشيء بغيره إذا اشتبه والحكم للنظير بحكم نظيره إذا كان في معناه والحكم للفرع بحكم أصله إذا قامت فيه العلة التي من أجلها وقع الحكم ومثال القياس أن السنة المجتمع عليها وردت بتحريم البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والذهب بالذهب والورق بالورق والملح بالملح إلا مثلا بمثل ويدا بيد فقال قائلون من الفقهاء القايسين حكم الزبيب والسلت والدخن والأرز كحكم البر والشعير والتمر وكذلك الحمص والفول وكل ما يكال ويؤكل ويدخر ويكون قوتا واداما وفاكهة مدخرة لأن هذه العلة في البر والشعير والتمر والملح موجودة وهذا قول مالك وأصحابه ومن تابعهم وقال آخرون العلة في البر وما ذكر معه في الحديث من الذهب والورق والبر والشعير أن ذلك كله موزون أو مكيل بكل مكيل أو موزون فلا يجوز فيه إلا ما يجوز فيها من النساء والتفاضل هذا قول الكوفيين ومن تابعهم وقال آخرون العلة في البر أنه مأكول وكل مأكول فلا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد سواء كان مدخرا أو غير مدخر وسواء كان يكال أو يوزن أو لايكال ولا يوزن هذا قول الشافعي ومن ذهب مذهبه وقال بقوله وعلل الشافعي الذهب والورق بأنهما قيم المتلفات وأثمان المبيعات فليستا كغيرهما من المذكورات معها لأنهما يجوز ان يسلما في كل شيء سواهما وإلى هذا مالا أصحاب مالك في تعليل الذهب والورق خاصة وقال داود البر بالبر والشعير بالشعير والذهب بالذهب والورق بالورق والتمر بالتمر والملح بالملح هذه الستة الأصناف لا يجوز شيء منها بجنسه إلا مثلا بمثل يدا بيد ولا يجوز شيء منها بجنسه ولا بغير جنسه منها نسيئة وما عدا ذلك كله فبيعه جائز نيسئة ويدا بيد متفاضلا وغير متفاضل لعموم قوله جل وعز وأحل الله البيع وحرم الربا فكل بيع حلال إلا ما حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله ولم يحكم لشيء بما في معناه ولم يعتبر المعاني والعلل وما أعلم أحدا سبقه إلى هذا القول إلا طائفة من أهل البصرة وأما فقهاء الأمصار فكل واحد منهم سلف من الصحابة والتابعين وقد ذكرنا حجة كل واحد منهم وما اعتل به من جهة الأثر والنظر في كتاب التمهيد فأغنى عن ذكره ههنا وأما داود فلم يقس على شيء من المذكورات الست في الحديث غيرها ورد العلماء عليه هذا القول وحكموا لكل شيء مذكور بما في معناه وردوا على داود ما أصل بضروب من القول وألزموه صنوفا من الالتزامات يطول ذكرها لا سبيل إلى الاتيان بها في كتابنا هذا وحجج الفريقين كثيرة جدا من جهة النظر قد أفردوا لها كتاب واحتج من ذهب مذهب داود من جهة الأثر بما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك قال حدثنا نعيم بن حماد قال حدثني عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان الرحبي قال حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف ابن مالك الأشجعي قال قال رسول الله ﷺ تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها على أمتي فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله وحدثنا أحمد بن سعيد بن بشر وأحمد بن محمد قالا حدثنا وهب بن مسرة قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا محمد بن ماهان قال سمعت محمد ابن كثير عن ابن شوذب عن مطر عن الحسن قال أول من قاس ابليس قال خلقتني من نار وخلقته من طين وبهذا الاسناد عن ابن ماهان قال سمعت يحيى بن سليم الطائفي غير مرة أخبرنا داود بن أبي هند عن ابن سيرن قال أول من قاس ابليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا محمد بن محبوب قال حدثنا أبو عوانة عن اسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن مسروق قال إني أخاف أن أقيس فتزل قدمي قال أحمد بن زهير وحدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا جابر عن عامر قال قال مسروفي لا أقيس شيئا بشيئ قلت لم قال أخشى أن تزل رجلي وذكر نعيم بن حماد قال حدثنا ابن ادريس عن عمه داود عن الشعبي عن مسروق قال لا أقيس شيئا بشيء فتزل قدمي بعد ثبوتها قال نعيم وحدثنا وكيع عن عيسى الخياط عن الشعبي قال إياكم والقياس وإنكم إن أخذتم به أحللتم الحرام وحرمتم الحلال ولأن اتغنى غنية أحب إلي من أن أقول في شيء برأيي وذكر الشعبي مرة أخرى القياس فقال أيرى في القياس وقال الشعبي قال رسول الله ﷺ لا تهلك أمتي حتى تقع في المقاييس فإذا وقعت في المقاييس فقد هلكت وقد ذكرن امن هذا المعنى زيادة في باب ذم الرأي من هذا الكتاب لأنه معنى منه وبالله التوفيق واحتج من نفي القياس بهذه الآثار ومثلها وقالوا في حديث معاذ أن معناه أن يجتهد رأيه على الكتاب والسنة وتكلم داود في أسناد حديث معاذ ورده ودفعه من أجل أنه عن أصحاب معاذ ولم يسموا وحديث معاذ صحيح مشهور رواه الأئمة العدول وهو أصل في الاجتهاد والقياس على الأصول وسائر الفقهاء قالوا في هذه الآثار وما كان مثلها في ذم القياس إنه القياس على غير أصل والقول في دين الله بالظن وأما القياس على الأصول والحكم اللشيء بحكم نظيره فهذا مالا يختلف فيه أحد من السلف بل كل من روى عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصا لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل مخالف للسلف في الأحكام أخبرنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال مسروق الوراق كنا من الذين قبل اليوم في سعة حتى ابتلينا باصحاب المقاييس قاموا من اسوق إذ قلت مكاسبهم فاستعملوا الرأي عند الفقر والبوس أما العريب فقوم لا عطاء لهم وفي المولى علامات المفاليس فلقيه أبو حنيفة فقال هجوتنا نحن نرضيك فبعث إليه بدراهم فقال إذا ما أهل مصر بادهونا بآبدة من الفتيا لطيفة أتيناهم بمقياس صحيح صليب من طراز أبي حنيفة إذا سمع الفقيه به وعاه واثبته بحبر في صحيفة قال أبو عمر اتصلت هذه الأبيات ببعض أهل الحديث والنظر من أهل ذلك الزمن فقال إذا ذو الرأي خاصم عن قياس وجاء ببدعة منه سخيفة أتيناهم بقول الله فيها وآثار مبرزة شريفة أنشدنا أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان قال أنشدنا أبو محمد قاسم بن أصبغ قال أنشدنا محمد بن محمد بن وضاح ببغداد على باب أبي مسلم الكشي قال قال لي غلام خليل انشدني بعض البصريين لبعض شعرائهم يهجو أبا حنيفة وزفر بن الهذيل إن كنت كاذبة بما حدثتني فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر الواثبين على القياس تعديا والناكبين عن الطريقة والأثر خلت البلاد فارتعوا في رحيها ظهر الفساد ولا سبيل إلى الغير قال لنا أبو القاسم قال لنا قاسم محمد ولد ابن وضاح كان أدرك غلام خليل ومات محمد بن محمد بن وضاح بجزيرة اقريطش قال ابو عمر بلغني أن أبا جعفر الطحاوي رحمه الله أنشد هذه الأبيات فقليك غثم أبي حنيفة أوزفر فقال وددت أن لي أجرهما وحسناتهما وعلي إثمهما وسيئاتهما وكان من أعلم الناس بسير القوم واخبارهم لأنه كان كوفي المذهب وكان عالما بجميع مذاهب الفقهاء رحمه الله وقد رويت في ذم الرأي والقياس آثار كثيرة وسنفرد لها بابا في كتابنا هذا إن شاء الله