الرئيسيةبحث

جامع العلوم والحكم/الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون
فضل الله تعالى ورحمته

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف

فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله تعالى وتأمل هذه الألفاظ، وقوله عنده إشارة إلى الاعتناء بها، وقوله كاملة للتأكيد وشدة الاعتناء بها وقال في السيئة التي هم بها ثم تركها كتبها الله عنده حسنة كاملة فأكدها بكاملة وإن عملها كتبها سيئة واحدة فأكد تقليلها بواحدة ولم يؤكدها بكاملة فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه وبالله التوفيق

هذا الحديث خرجاه من رواية أبي عثمان حدثنا أبو رجاء العطاردي عن ابن عباس وفي رواية لمسلم زيادة في آخر الحديث وهي أو محاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك وفي هذا المعنى أحاديث متعددة فخرجا في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يقول الله للملائكة إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وهذا لفظ البخاري وفي رواية لمسلم قال الله تعالى إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها وقال ﷺ قالت الملائكة رب ذلك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به قال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرائي قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعلمها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقي الله تعالى.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي وفي رواية لمسلم بعد قوله إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله وفي صحيح مسلم عن أبي ذرعن النبي ﷺ قال يقول الله من عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أزيد ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفرها وفيه أيضًا عن أنس عن النبي ﷺ قال من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة.

وفي المسند عن خريم بن فاتك عن النبي ﷺ قال من هم بحسنة فلم يعملها وعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ومن عملها كتبت له واحدة ولم تضاعف عليه ومن عمل حسنة كتبت له بعشر أمثالها ومن أنفق نفقة في سبيل الله كانت له سبعمائة ضعف وفي المعنى أحاديث أخر متعددة فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات والسيئات والهم بالحسنة والسيئة فهذه أربعة أنواع النوع الأول عمل الحسنات فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات وقد دل عليه قوله تعالى {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له فدل عليه قوله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال يا رسول الله هذه في سبيل الله فقال لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة.

وفي المسند بإسناد فيه نظر عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي ﷺ قال من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ومن أنفق على نفسه وأهله وعياله أو عاد مريضا أو أماط أذى فالحسنة بعشر أمثالها.

وخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه عن النبي ﷺ قال إن الصلاة والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف وروى ابن أبي حاتم بسنده عن الحسن عن عمران بن الحصين عن النبي ﷺ قال من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء} البقرة.

وخرج ابن صحيحه من حديث عيسي بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال لما نزلت هذه الآية {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} البقرة قال رسول الله ﷺ رب زد أمتي فأنزل الله تعالى {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} البقرة فقال رب زد أمتي فأنزل الله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر.

وخرج الإمام أحمد من حديث على بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الله ليضاعف الحسنة ألفي حسنة ثم تلا أبو هريرة {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء وقال إذا قال الله {أَجْرًا عَظِيمًا} فمن يقدر قدره وروى عن أبي هريرة موقوفًا.

وخرج الترمذي من حديث ابن عمر موقوفًا من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو علي كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة.

ومن حديث تميم الداري مرفوعًا من قال أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا أحدًا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له كفوا أحد عشر مرات كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة وفي كلا الإسنادين ضعف.

وخرج الطبراني بإسناد ضعيف أيضًا عن ابن عمر مرفوعًا من قال سبحان الله كتب الله له مائة ألف حسنة، وقوله في حديث أبي هريرة إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدل على أن الصيام لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله تعالى لأنه أفضل أنواع الصبر وإنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب الزمر وقد روى هذا المعنى عن طائفة من السلف منهم كعب وغيره وقد ذكرنا فيما سبق في شرح حديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أن مضاعفة الحسنات زيادة على العشر تكون بحسب حسن الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في حديث أبي هريرة وغيره ويكون بحسب كمال الإخلاص وبحسب فضل ذلك العمل في نفسه وبحسب الحاجة إليه وذكرنا من حديث ابن عمر أن قوله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها الأنعام نزلت في الأعراب وأن قوله وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما النساء نزلت في المهاجرين النوع الثاني عمل السيئات فتكتب السيئة بمثلها من غير مضاعفة كما قال الله تعالى {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} الأنعام.

وقوله كتبت له سيئة واحدة إشارة إلى أنها غير مضاعفة كما خرج في حديث آخر لكن السيئة تعظم أحيانا بشرف الزمان أو المكان كما قال تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} التوبة قال على بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} التوبة في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرمًا وعظم حرمتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم.

وقال قتادة في هذه الآية اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا فيما سوي ذلك وإن كان الظلم في كل حال غير طائل ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا.

وقد روى في حديثين مرفوعين أن السيئات تضاعف في رمضان ولكن إسنادهما لا يصح وقال الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} البقرة.

قال ابن عمر الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيدا كان أو غيره، وعنه قال الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم وقال تعالى {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الحج، وكان جماعة من الصحابة يتقون سكني الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه منهم ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل، وكان عبدالله بن عمرو بن العاص يقول الخطيئة فيه أعظم.

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأن أخطئ سبعين خطيئة يعني بغير مكة أحب إلى من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة وعن مجاهد قال تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.

وقال ابن جريح بلغني أن الخطيئة بمكة بمائة خطيئة والحسنة على نحو ذلك وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد في شيء من الحديث إن السيئة تكتب بأكثر من واحدة قال لا ما سمعنا إلا بمكة لتعظيم البلد ولو أن رجلًا بعدن أبين هم وقال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد، وقوله ولو أن رجلًا بعدن أبين هم من قول ابن مسعود وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى وقد تضاعف السيئات بشرف فاعلها وقوة معرفته بالله وقربه منه فإن من عصي السطان على بساطه أعظم جرما ممن عصاه على بعد ولهذا توعد الله خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء وإن كان قد عصمهم منها ليبين لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك كما قال تعالى {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً. إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} الإسراء وقال تعالى {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} إلى قوله {أَجْرًا عَظِيمًا} الأحزاب.

وكان على بن الحسين يتأول في آل النبي ﷺ من بني هاشم يقربهم لقربهم من النبي ﷺ النوع الثالث الهم بالحسنات فتكتب حسنة كاملة وإن لم يعملها كما في حديث ابن عباس وغيره وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم كما تقدم إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة والظاهر أن المراد بالتحدث حديث النفس وهو الهم وفي حديث خريم بن فاتك من هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله منه أنه قد أشعر قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة وهذا يدل على أن المراد بالهم هنا هو العزم المصمم الذي يوجد معه الحرص على العمل لا مجرد الخطرة التي تخطر ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم قال أبو الدرداء من أتي فراشه وهو ينوي أن يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح كتب له ما نوى وروي عنه مرفوعًا وخرجه ابن ماجه مرفوعًا قال الدارقطني المحفوظ الموقوف وروى معناه من حديث عائشة عن النبي ﷺ وروى عن سعيد بن المسيب قال من هم بصلاة أو صيام أو حج أو عمرة أو غزوة فحيل بينه وبين ذلك بلغه الله تعالى ما نوي وقال أبو عمران الجوني ينادي الملك اكتب لفلان كذا وكذا فيقول يا رب إنه لم يعمله فيقول الله إنه نواه وقال زيد ابن أسلم كان رجل يطوف على العلماء يقول من يدلني على عمل لا أزال منه لله عاملا فإني لا أحب أن يأتي على ساعة من الليل والنهار إلا وإني عامل لله تعالى فقيل له قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت فإذا فترت أو تركت فهم بعمله فإن الهام بفعل الخير كفاعله ومتي اقترن بالنية قول أو سعي تأكد الجزاء والتحق صاحبه بالعامل كما روى أبو كبشة عن النبي ﷺ قال إنما الدنيا أربعة نفر عبد رزقه الله مالًا وعلما فهو يتقي ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية فيقول لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجر هما سواء وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا فهو يتخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم فيه لله حقا فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا وهو يقول لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء وخرجه الإمام أحمد والترمذى وهذا لفظ ابن ماجه وقد حمل قوله وهما في الأجر سواء على استوائهما في أصل أجر العمل دون مضاعفته فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل دون من نواه ولم يعمله فإنهما لو استويا من كل وجه لكتب لمن هم بحسنة ولم يعملها عشر حسنات وهو خلاف النصوص كلها ويدل على ذلك قوله تعالى {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِّنْهُ} قال ابن عباس وغيره القاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجة القاعدون من أهل الأعذار والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجات هم القاعدون من غير أهل الأعذار النوع الرابع الهم بالسيئات من غير عمل لها.

ففي حديث ابن عباس أنها تكتب حسنة كاملة، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما أنها تكتب حسنة كاملة وفي حديث أبي هريرة إنما تركها من جرائي يعني من أجلي وهذا يدل على أن المراد من قدر على ما هم به من المعصية فتركه لله تعالى وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة لأن تركه المعصية بهذا المقصد عمل صالح فأما إن هم بمعصية ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين أو مراءاة لهم فقد قيل أنه يعاقب على تركها بهذه النية لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم، وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله عوقب على هذا الترك وقد خرج أبو نعيم بسند ضعيف عن ابن عباس قال يا صاحب الذنب لا تأمنن من مدقق سوء عاقبته ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته وذكر كلاما وقال خوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا فعلته وقال الفضيل بن عياض كانوا يقولون ترك العمل للناس رياء والعمل لهم شرك وأما إن سعي في حصولها بما أمكنه ثم حال بينه وبينها القدر فقد ذكر جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ لقوله النبي ﷺ إن الله يتجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم به أو تعمل ومن سعي في حصول المعصية بجهده ثم عجز عنها فقد عمل بها، وكذلك قول النبي ﷺ إذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه، وقوله ما لم تتكلم به أو تعمل يدل على أن الهام بالمعصية إذا تكلم بما هم به بلسانه فإنه يعاقب على الهم حينئذ لأنه قد عمل بجوارحه معصية وهو التكلم باللسان ودل على ذلك حديث الذي قال لو أن لي مالًا لعملت فيه ما عمل فلان يعني الذي يعصي الله في ماله قال فهما في الوزر سواء ومن المتأخرين من قال لايعاقب على التكلم بماهم به ما لم تكن المعصية التي هم بها قولًا محرما كالقذف والغيبة والكذب فأما ما كان متعلقها العمل بالجوارح فلا يأثم بمجرد تكلم ما هم به وهذا قد يستدل به على حديث أبي هريرة المتقدم وإذا تحدث عبدي بما لم يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس جمعا بينه وبين قوله ما لم تتكلم به، وحديث أبي كبشة يدل على ذلك صريحا فإن قول القائل بلسانه لو أن لي مالًا لعملت فيه بالمعاصي كما عمل فلان ليس هو العمل بالمعصية التي هم بها وإنما أخبر عما هم به فقط مما متعلقه إنقاق المال في المعاصي وليس له مال بالكلية وأيضا فالكلام بذلك محرم فكيف يكون معفوا عنه غير معاقب عليه وأما إن انفسخت نيته وفترت عزيمته من غير سبب منه فهل يعاقب على ما هم به من المعصية أم لا هذا على قسمين أحدهما أن يكون الهم بالمعصية خاطرا ولم يساكنه صاحبه ولم يعقد قلبه عليه بل تكرهه ونفر منه فهو معفو عنه وهو الوساوس الرديئة التي سئل النبي ﷺ عنها فقال ذلك صريح الإيمان ولما نزل قوله تعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} البقرة شق ذلك على المسلمين وظنوا دخول هذه الخواطر فيه فنزلت الآية بعدها وفيها قوله {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} البقرة فبينت أن ما لا طاقة لهم به فهو غير مؤاخذ به ولا يكلف به.

وقد سمي ابن عباس وغيره ذلك نسخًا ومرادهم أن هذه الآية أزالت الإبهام الواقع في النفوس من الآية الأولي وبين أن المراد بالآية الأولي العزائم المصمم عليها ومثل هذا كان السلف يسمونه نسخا القسم الثاني العزائم المصممة التي تقع في النفوس وتدوم ويساكنها صاحبها فهذا أيضًا نوعان أحدهما ما كان عملًا مستقلًا بنفسه من أعمال القلوب كالشك في الوحدانية أو النبوة أو البعث أو غير ذلك من الكفر واعتقاد تكذيب ذلك فهذا كله يعاقب عليه العبد ويصير بذلك كافرًا أو منافقًا وقد روي عن ابن عباس أنه حمل قوله تعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} البقرة على مثل هذا وروي عنه حملها على كتمان الشهادة لقوله ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ويلحق بهذا القسم سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب كمحبة ما يبغضه الله وبغض ما يحب الله والكبر والعجب والحسد وسوء الظن بالمسلم من غير موجب مع أنه قد روي عن سفيان أنه قال في سوء الظن إذا لم يترتب عليه قول أو فعل فهو معفو عنه، وكذلك روي عن الحسن أنه قال في الحسد ولعل هذا محمول من قولها على ما يجده الإنسان ولا يمكنه دفعه فهو يكرهه ويدفعه عن نفسه فلا يندفع إلا على ما يساكنه ويستروح إليه ويعيد حديث نفسه به ويبديه والنوع الثاني ما لم يكن من أعمال القلوب بل كان من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقتل والقذف ونحو ذلك إذا أصر العبد على إرادة ذلك والعزم عليه ولم يظهر له أثر في الخارج أصلًا فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء أحدهما الأخذ به قال ابن المبارك سألت سفيان الثوري أيؤاخذ العبد بالهم فقال إذا كانت عزما أوخذ ورجح هذا القول كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم واستدلوا له بنحو قوله تعالى {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} البقرة، وقوله تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} البقرة وبنحو قول النبي ﷺ الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس وحملوا قوله ﷺ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل على الخطرات وقالوا ما أكنه العبد وعقد عليه قلبه فهو من كسبه وعمله فلا يكون معفوا عنه ومن هؤلاء من قال إنه يعاقب عليه في الدنيا بالهموم والغموم.

روي ذلك عن عائشة مرفوعًا وموقوفا وفي صحته نظر وقيل بل يحاسب العبد به يوم القيامة فيقفه الله عليه ثم يعفو عنه ولا يعاقبه فتكون عقوبته المحاسبة وهذا مروى عن ابن عباس والربيع بن أنس وهو اختيار ابن جرير واحتج له بحديث ابن عمر في النجوي وذلك ليس فيه عموم وأيضا فإنه وارد في الذنوب المستورة في الدنيا لا في وساوس الصدور والقول الثاني لايؤاخذ بمجرد النية مطلقا ونسب ذلك إلى نص الشافعي وهو قول ابن حامد من أصحابنا عملًا بالعمومات.

وروى العوفي عن ابن عباس ما يدل على مثل هذا القول وفيه قول ثالث أنه لا يؤاخذ بالهم بالمعصية إلا بأن يهم بارتكابها في الحرم كما روى السدي عن مرة عن عبدالله بن مسعود قال ما من عبد يهم بخطيئة فلم يعملها فتكتب عليه ولو هم بقتل الإنسان عند البيت وهو بعدن أبين أذاقه الله من عذاب أليم وقرأ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم الحج خرجه الإمام أحمد وغيره وقد رواه عن السدي شعبة وسفيان فرفعه شعبة ووقفه سفيان والقول قول سفيان في وقفه.

وقال الضحاك إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى ولم يعملها فتكتب عليه وقد تقدم عن أحمد وإسحاق ما يدل على مثل هذا القول وكذا حكاه القاضي أبو يعلي عن أحمد وروى أحمد في رواية المروزي حديث ابن مسعود هذا ثم قال أحمد يقول ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم الحج قال أحمد لو أن رجلًا بعدن أبين هم بقتل رجل في الحرم هذا قول الله تعالى {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الحج هكذا قول ابن مسعود.

وقد أورد بعضهم هذا إلى ما تقدم من المعاصي التي متعلقها القلب وقال الحرم يجب احترامه وتحريمه وتعظيمه بالقلوب فالعقوبة على ترك هذا الواجب وهذا لا يصح فإن حرمة الحرم ليست بأعظم من حرمة محرمه سبحانه والعزم على معصية الله عزم على انتهاك محارمه ولكن لو عزم على ذلك قصدا كانتهاك حرمة الحرم واستخفافا بحرمته فهذا كما لو عزم على فعل معصية بقصد الاستخفاف بحرمة الخالق تعالى فيكفر بذلك وإنما ينتفي الكفر عنه إذ كان همه بالمعصية بمجرد نيل شهوته وغرض نفسه مع ذهوله عن قصد مخالفة الله والاستخفاف بهيبته وبنظره ومتي اقترن العمل بالهم فإنه يعاقب عليه سواء كان الفعل متأخرا أو متقدما فمن فعل محرما مرة ثم عزم على فعله متي قدر عليه فهو مصر على المعصية ومعاقب على هذه النية وإن لم يعد إلى عمله إلا بعد سنين عديدة وبذلك فسر ابن المبارك وغيره الإصرار على المعصية وبكل حال فالمعصية إنما تكتب بمثلها من غير فتكون العقوبة على المعصية ولا ينضم إليها الهم بها إذا لو ضم إلى المعصية الهم بها لعوقب على عمل المعصية عقوبتين ولا يقال فهذا يلزم مثله في عمل الحسنة فإنها إذا عملها بعد الهم بها أثيب على الحسنة دون الهم بها لأنا نقول هذا ممنوع فإن من عمل حسنة كتبت له عشر أمثالها فيجوز أن يكون بعض هذه الأمثال جزاء للهم بالحسنة والله أعلم.

وقوله في حديث ابن عباس في رواية مسلم أو مجاهد يعني أن عمل السيئة إما أن تكتب لعاملها سيئة واحدة أو يمحوها الله بما شاء من الأسباب كالتوبة والاستغفار وعمل الحسنات وقد سبق الكلام فيما تمحي به السيئات في شرح حديث أبي ذر أتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وقوله بعد ذلك ولا يهلك على الله إلا هالك يعني بعد هذا الفضل العظيم من الله والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات والتجاوز عن السيئات لايهلك على الله إلا من هلك وألقي بيده إلى التهلكة وتجرأ على السيئات ورغب عن الحسنات وأعرض عنها ولهذا قال ابن مسعود ويل لمن غلبت وحداته عشراته وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مرفوعًا هلك من غلب واحده عشرا.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائى والترمذى من حديث عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة وهما يسير ومن يعمل بهما قليل تسبح الله دبر كل صلاة عشرا وتحمده عشرا وتكبره عشرا قال فذلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمسمائة في الميزان فإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده مائة فتلك مائة باللسان وألف في الميزان فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة.

وفي المسند عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال لايدع أحدكم أن يعمل لله ألف حسنة حين يصبح يقول سبحان الله وبحمده مائة مره فإنها ألف حسنة فإنه لن يعمل إن شاء الله تعالى مثل ذلك في يومه من الذنوب ويكون ما عمل من خير سوي ذلك وافرا.

جامع العلوم والحكم
المقدمة | الحديث الأول | الحديث الثاني | الحديث الثالث | الحديث الرابع | الحديث الخامس | الحديث السادس | الحديث السابع | الحديث الثامن | الحديث التاسع | الحديث العاشر | الحديث الحادي عشر | الحديث الثاني عشر | الحديث الثالث عشر | الحديث الرابع عشر | الحديث الخامس عشر | الحديث السادس عشر | الحديث السابع عشر | الحديث الثامن عشر | الحديث التاسع عشر | الحديث العشرون | الحديث الحادي والعشرون | الحديث الثاني والعشرون | الحديث الثالث والعشرون | الحديث الرابع والعشرون | الحديث الخامس والعشرون | الحديث السادس والعشرون | الحديث السابع والعشرون | الحديث الثامن والعشرون | الحديث التاسع والعشرون | الحديث الثلاثون | الحديث الحادي والثلاثون | الحديث الثاني والثلاثون | الحديث الثالث والثلاثون | الحديث الرابع والثلاثون | الحديث الخامس والثلاثون | الحديث السادس والثلاثون | الحديث السابع والثلاثون | الحديث الثامن والثلاثون | الحديث التاسع والثلاثون | الحديث الأربعون | الحديث الحادي والأربعون | الحديث الثاني والأربعون | الحديث الثالث والأربعون | الحديث الرابع والأربعون | الحديث الخامس والأربعون | الحديث السادس والأربعون | الحديث السابع والأربعون | الحديث الثامن والأربعون | الحديث التاسع والأربعون | الحديث الخمسون