الحديث الثامن والثلاثون |
العبادة لله تعالى وسيلة القرب والمحبة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى قال من عادي لي وليًا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه . رواه البخاري
هذا الحديث انفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة قال حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا سليمان بن بلال قال حدثني شريك ابن عبدالله بن أبي تمر عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وذكر الحديث بطوله وزاد في آخره وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفسي عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته وهو من غرائب الصحيح تفرد به ابن كرامة عن خالد وليس في مسند أحمد مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه الإمام أحمد وغيره وقالوا له مناكير وعطاء الذي في إسناده قيل أنه ابن أبي رياح وقيل إنه ابن يسار وإنه وقع في بعض نسخ الصحيح منسوبا كذلك وقد روى هذا الحديث من وجوه أخر لا تخلو كلها عن مقال ورواه عبد الواحد بن ميمون أبو حمزه مولي عروة ابن الزبير عن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ قال من آذي لي وليًا فقد استحل محاربتي وما تقرب إلى عبد بمثل أداء فرائضي وإن عبدي ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وفؤاده الذي يعقل به ولسانه الذي يتكلم به إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن موته وذلك أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته خرجه ابن أبي الدنيا وغيره وخرجه الإمام أحمد بمعناه وذكر ابن عدي أنه تفرد به عبد الواحد هذا عن عروة وعبدا لواحد هذا قال فيه البخاري منكر الحديث ولكن خرجه الطبراني حدثنا هارون بن كامل قال حدثنا إبراهيم بن سويد المدني قال حدثنا أبو حرزة يعقوب بن مجاهد قال أخبرني عروة عن عائشة عن النبي ﷺ فذكره وهذا أيضًا إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيحين سوي شيخ الطبراني فإنه لا يحضرني الآن معرفة حاله ولعل الرواي قال حدثنا أبو حمزة يعني عبد الوهاب بن ميمون فخيل للسامع أنه قال أبو حرزة ثم سماه من عنده بناء على وهمه والله أعلم.
وخرج الطبراني وغيره من رواية عثمان بن أبي عاتكة عن على بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال يقول الله تعالى من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فأكون قلبه الذي يعقل به ولسانه الذي ينطق به وبصره الذي يبصر به فإذا دعاني أجبته وإذا سألني أعطيته وإذا استنصرني نصرته وأحب عبادة عبدي إلى النصيحة وعثمان وعلي بن زيد ضعيفان قال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث هو منكر جدًا وقد روى من حديث على عن النبي ﷺ بسند ضعيف وخرجه الإسماعيلي في مسند علي وروى من حديث ابن عباس بسند ضعيف وخرجه الطبراني وفيه زيادة في لفظه ورويناه من وجه آخر عن ابن عباس وهو ضعيف أيضًا خرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخشني عن صدقة بن عبدالله الدمشقي عن هشام الكناني عن أنس عن النبي ﷺ عن جبريل عن ربه تعالى قال من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وما ترددت عن شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتنفل حتى أحبه ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك دعاني فأجبته وسألني فأعطيته ونصح لي فنصحت له وإن من عبادي من لايصلح إيمانه إلا الفقر وإن بسطت له لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم إني عليم خبير والخشني وصدقة ضعيفان وهشام لا يعرف وسئل ابن معين عن هشام هذا من هو قال لا أحد يعني لا يعتبر به وقد خرج البزار بعض الحديث من طريق صدقة بن عبد الكريم الجزري عن أنس.
وخرج الطبراني من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش سمعت حذيفة يقول قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى أوحي إلى يا أخا المرسلين يا أخا المنذرين أنذر قومك لا يدخلوا بيتًا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائمًا بين يدي حتى يرد تلك الظلامة على أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وأكون بصر الذي يبصره به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري من النبيين والصديقين والشهداء في الجنة وهذا إسناد جيد وهو غريب جدًا ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري وقد قيل إنه أشرف حديث في ذكر الأولياء قوله تعالى من عاد لي وليًا فقد آذنته بالحرب يعني فقد أعلمته بأني محارب له حيث كان محاربا لي بمعاداته أوليائي ولهذا جاء في حديث عائشة فقد استحل محاربتي وفي حديث أبي أمامة وغيره فقد بارزني بالمحاربة.
وخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن معاذ بن جبل سمع النبي ﷺ يقول إن يسير الرياء شرك وإن من عادي لله وليًا فقد بارز الله بالمحاربة وأن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا مصابيح الهدي يخرجون من كل غبراء مظلمة فأولياء الله تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم كما أن أعداءه تجب معاداتهم وتحرم موالاتهم قال تعالى {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} الممتحنة وقال {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ. وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} المائدة.
ووصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه بأنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن وهب بن منبه قال إن الله تعالى قال لموسي عليه السلام حين كلمه اعلم أن من أهان لي وليًا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وعاداني وعرض نفسه ودعاني إليها وإن أسرع شيء إلى نصرة أوليائي أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي أو يظن الذي يعاديني أنه يعجزني أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني ويفوتني وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة فلا أكل نصرتهم إلى غيري واعلم أن جميع المعاصي محاربة لله تعالى.
قال الحسن بن آدم هل لك بمحاربة الله من طاقة فإن من عصي الله فقد حاربه لكن كلما كان الذنب أقبح كانت المحاربة لله أشد ولهذا سمي الله تعالى أكلة الربا وقطاع الطريق محاربين لله تعالى ورسوله لعظم ظلمهم لعباده وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداة أوليائه فإنه تعالى يتولي نصرة أوليائه ويحبهم ويؤيدهم فمن عاداهم فقد عادي الله تعالى وحاربه وفي الحديث عن النبي ﷺ قال الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا فمن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذي الله ومن آذي الله يوشك أن يأخذه خرجه الترمذي وغيره.
وقوله وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه لما ذكر أن معاداة أوليائه محاربة له ذكر بعد ذلك وصف أوليائه الذين تحرم معاداتهم وتجب موالاتهم فذكر ما يقرب به إليه وأصل الموالاة القرب وأصل المعاداة البعد فأولياء الله هم الذين يتقربون إليه بما يقربهم منه وأعداؤه الذين أبعدهم منه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه فقسم أولياءه المقربين قسمين أحدهما من تقرب إليه بأداء الفرائض ويشمل ذلك فعل الواجبات وترك المحرمات لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده والثاني من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل فظهر بذلك أن دعوي طريق يوصل إلى التقرب إلى الله تعالى وموالاته ومحبته سوي طاعته التي شرعها على لسان رسوله ممن ادعي ولاية الله ومحبته بغير هذا الطريق تبين أنه كاذب في دعواه كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدونه من دونه كما حكي الله عنهم أنهم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفي الزمر وكما حكي الله عن اليهود والنصاري أنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه المائدة مع إصرارهم على تكذيب رسله وارتكاب نواهيه وترك فرائضه فلذلك ذكر في هذا الحديث أن أولياء الله على درجتين أحدهما المقربون إليه بأداء الفرائض وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين وأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل الأعمال أداء ما افترض الله والورع عما حرم الله وصدق النية فيما عند الله تعالى وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته أفضل العبادات أداء الفرائض واجتناب المحارم وذلك أن الله تعالى إنما افترض على عباده هذه الفرائض فيقربهم عنده ويوجب لهم رضوانه ورحمته وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة كما قال تعالى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} العلق وقال النبي ﷺ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وقال إذا كان أحدكم يصلي فإنما يناجي ربه وربه بينه وبين القبلة وقال إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت ومن الفرائض المقربة إلى الله تعالى عدل الراعي في رعيته سواء كانت رعيه عامة كالحاكم أو خاصة كعدل آحاد الناس في أهله وولده كما قال ﷺ كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر عن النبي ﷺ قال إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما والوا وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال إن أحب العباد إلى الله يوم القيامة وأدناهم إليه مجلسًا إمام عادل الدرجة الثانية درجة السابقين المقربين وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في النوافل والطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع وذلك يوجب للعبد محبة الله كما قال ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ومن أحبه الله رزقه محبته وطاعته والاشتغال بذكره وخدمته فأوجب له ذلك القرب منه والزلفي لديه والحظ عنده كما قال الله تعالى {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} المائدة ففي هذه الآية إشارة إلى أن من أعرض عن حبنا وتولي عن قربنا ولم يبال استبدلنا به من هو أولي بهذه المنحة منه وأحق فمن أعرض عن الله فما له عن بدل ولله منه أبدال.
مالي شغل سواه مالي شغل *** يصرف عن هواه قلبي عذل
ما أصنع إن جفا وخاب الأمل *** مني بدل وما لي منه بدل
وفي بعض الآثار يقول الله تعالى ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء، وكان ذو النون يردد هذه الأبيات بالليل كثيرًا:
اطلبوا لأنفسكم *** مثل ما وجدت أنا
قد وجدت لي سكنا *** ليس في هواه عنا
إن بعدت قربني *** وإن قربت منه دنا
من فاته الله فلو حصلت له الجنة بحذافيرها لكان مغبونا فكيف إذا لم يحصل له إلا نزر حقير يسير من دار كلها لا تعدل جناح بعوضة ولذا قيل:
من فاته أن يراك يومًا *** فكل أوقاته فوات
وحيثما كنت في بلاد *** فلي إلى وجهك التفات
ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه فقال {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يعني أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح ويعاملون الكافرين بالعزة والشدة عليهم والغلظ لهم فلما أحبوا أولياءه الذين يحبونه فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة وبغضوا أعداءه الذين يعادونه فعاملوهم بالشدة والغلظة كما قال تعالى {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} المائدة.
فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب وأيضا فالجهاد في سبيل الله دعاء للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان بعد دعائهم إليه بالحجة والبرهان فالمحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى الله فمن لم يجد الدعوة باللين والرفق احتاج بالدعوة إلى الشدة والعنف عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ولا يخافون لومة لائم ما للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي عليه وسخط من سخط من خاف الملامة في هوي من يحبه فليس بصادق في المحبة.
وقف الهوي بي حيث أنت فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة *** حبا لذكرك فليلمني اللوم
وقوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء المائدة يعني درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة والله واسع عليم المائدة واسع العطاء عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه ومن لا يستحقه فيمنعه ويروى أن داود عليه السلام كان يقول اللهم اجعلني من أحبابك فإنك إذا أحببت عبدًا غفرت ذنبه وإن كان عظيما وقبلت عمله وإن كان يسيرا، وكان داود يقول في دعائه اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يبلغني حبك اللهم اجعل حبك أحب إلى من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد وقال النبي ﷺ أتاني ربي يعني في المنام فقال لي يا محمد قل اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك اللهم ما رزقتني ما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب وروي عنه ﷺ أنه كان يدعو اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي وخشيتك أخوف الأشياء عندي واقطع عني حاجة الدنيا بالشوق إلى لقائك فإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فاقرر عيني من عبادتك فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم هم إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه قال بعض السلف العمل على المخافة قد يغير الرجاء والعمل على المحبة لا يدخله الفوز ومن كلام بعضهم إذا سئم البطالون من بطالتهم فلا يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك قال فرقد السنحي قرأت في بعض الكتب من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه ومن أحب الدنيا لم يكن عنده آثر من هوي نفسه فالحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء زمرته أول الزمر يوم القيامة ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك والمحبة منتهي القربة والاجتهاد ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه يمشون بين عباده بالنصائح ويخافون عليهم من أعمالهم يوم القيامة يوم تبدو الفضائح أولئك أولياؤه وأحباؤه وأهل صفوته أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه وقال فتح الموصلي المحب لا يجد مع حب الله للدنيا لذة ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين وقال محمد بن النضر الحارثي ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محب لله وما يكاد يسأم من ذلك وقال بعضهم المحب لله طائر القلب كثير الذكر متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل دأبا وشوقا وأنشد بعضهم:
وكن لربك ذا حب لتخدمه *** إن المحبين للأحباب خدام
وأنشد آخر:
ما للمحب سوي إرادة حبه *** إن المحب بكل حال يصرع
ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من النوافل كثرة تلاوة القرآن وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم قال حبان بن الأرت لرجل تقرب إلى الله تعالى ما استطعت واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه وفي الترمذي عن أبي أمامة مرفوعًا ما تقرب العبد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه يعني القرآن لاشيء عندالمحبين أحلي من كلام محبوبهم فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم قال عثمان لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.
وقال ابن مسعود من أحب القرآن أحب الله ورسوله قال بعض العارفين لمريد أتحفظ القرآن قال لا واغوثاه بالله لمريد لا يحفظ القرآن فبنم يتنعم فبنم يترنم فبنم يناجي ربه تعالى كان بعضهم يكثر تلاوة القرآن ثم اشتغل عنه بغيره فرأي في المنام قائلا يقول له:
إن كنت تزعم حبي *** فلم جفوت كتابي
أما تأملت ما فيه *** من لطيف عتابي
ومن ذلك كثرة ذكر الله الذي يتوطأ عليه القلب واللسان.
وفي مسند البزار عن معاذ قال قلت يا رسول الله أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله تعالى قال أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله تعالى.
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم وفي حديث آخر أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وقال عز وجل {اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} البقرة ولما سمع النبي ﷺ الذين يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل وهم معه في سفر قال لهم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سمعيا قريبًا وهو معكم.
وفي رواية وهو أقرب إليكم من أعناق رواحلكم ومن ذلك محبة أحبابه وأوليائه فيه ومعاداة أعدائه فيه وفي سنن أبي داود عن عمر قال إن من عباد الله أناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله تعالى قالوا يا رسول الله من هم قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلي منابر من نور ولا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم تلا هذه الآية { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يونس وروى نحوه من حديث أبي مالك الأشعري عن النبي ﷺ وفي حديث يغبطهم النبيون بقربهم ومقعدهم من الله تعالى.
وفي المسند عن عمرو بن الجموح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق ولاية من الله إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم وسئل المرتعش بم تنال المحبة قال بموالاة أولياء الله ومعادة أعدائه وأصله الموافقة.
وفي الزهد للإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال قال موسي عليه السلام يارب من هم أهلك الذين تظلهم تحت ظل عرشك قال ياموسي هم البريئة أيديهم الطاهرة قلوبهم الذين يتحابون بجلالي الذين إذا ذكرت ذكروا بي وإذا ذكروا ذكرت بهم الذين يسبغون الوضوء في المكاره وينيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى أوكارها ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حورب قوله فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وفي بعض الروايات وقلبه الذي يعقل به ولسانه الذي ينطق به المراد من هذا الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة كما قيل:
ساكن في القلب يعمره *** لست أنساه فأذكره
غاب عن سمعي وعن بصري *** فسويد القلب يبصره
قال الفضيل بن عياض إن الله تعالى يقول كذب من ادعي محبتي ونام عني أليس كل محب يحب خلوة محبوبه ها أنا مطلع على أحبابي وقد مثلوني بين أعينهم وخاطبوني على المشاهدة وكلموني بحضوره غدا أقر أعينهم في جناني ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبين المقربين يقوي حتى تمتلئ قلوبهم به فلا يبقي في قلوبهم غيره ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلا بموافقة ما في قلوبهم.
ومن كان حاله هذا قيل فيه ما بقي في قلبه إلا الله والمراد معرفته ومحبته وذكره وفي هذا المعنى الأثر المشهور ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن.
وقال بعض العارفين احذروه فإنه غيور لا يحب أن يري في قلب عبده غيره وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
ليس للناس موضع في فؤادي *** زاد فيه هواك حتى ملاه
وقال آخر:
قد صبغ قلبي على مقدار حبهم *** فما لحب سواهم فيه متسع
وإلي هذا المعنى أشار النبي ﷺ في خطبته لما قدم المدينة فقال أحبوا الله من كل قلوبكم كما ذكره ابن إسحاق في سيرته فمتي امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر نظر به وإن بطش بطش به فهذا هو المراد بقوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ومن أشار إلى غير هذا فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول والاتحاد والله ورسوله بريئان منه ومن هنا كان بعض السلف كسليمان التيمي يقولون إنه لا يحسن أن يعصي الله وأوصت امرأة من السلف أولادها فقالت لهم تعودوا حب الله وطاعته فإن المتقين ألفوا الطاعة فاستوحشت جوارحهم من غيرها فإن عرض لهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون ومن هذا المعنى قول على بن أبي طالب إن كنا نري أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره بالخطيئة وقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذا من أسرار التوحيد الخاص فإن معنى لا إله إلا الله لا يؤله غيره حبا ورجاء وخوفا وطاعة فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام لم يبق فيه محبة لغير ما يحبه الله ولا كراهة لغير ما يكرهه الله ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله أو كراهة ما يحبه الله وذلك ينشأ من تقديم هوي النفس على محبة الله تعالى وخشيته وذلك يقدح في كمال التوحيد الواجب فيقع العبد بسبب ذلك في التفريط في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات فإن من تحقق قلبه بتوحيد الله فلا يبقي له هم إلا في الله وفيما يرضيه به وقد ورد في الحديث مرفوعًا من أصبح وهمه غير الله فليس من الله قال بعض العارفين من أخبرك أن لوليه هم في غيره فلا تصدقه، وكان داود الطائي ينادي بالليل همك عطل على الهموم وحال بيني وبين السهاد وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات وحال بيني وبين الشهوات فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب وفي هذا المعنى يقول بعضهم قالوا:
تشاغل عنا واصطفي بدلا *** منا وذلك فعل الخائن السالي
وكيف أشغل قلبي عن محبتكم *** بغير ذكركم يا كل أشغالي
قوله ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وفي رواية أخرى إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته يعني أن هذا المحبوب المقرب له عند الله منزلة خاصة تقتضي أنه إذا سأل الله أعطاه شيئًا وإذا استعاذ به من شيء أعاذه منه وإن دعاه أجابه فيصير مجاب الدعوة لكرامته على الله تعالى وقد كان كثير من السلف الصالح معروفا بإجابه الدعوة.
وفي الصحيح أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا فطلبوا منهم العفو فأبوا فقضي بينهم رسول الله ﷺ بالقصاص فقال أنس ابن النضر أتكسر ثنية الربيع والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضي القوم وأخذوا الأرش فقال رسول الله ﷺ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره.
وفي صحيح الحاكم عن أنس عن النبي ﷺ قال كم من ضعيف متضاعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك وإن البراء لقي زخفا من المشركين فقال له المسلمون اقسم على ربك فقال أقسمت عليك يارب لما منحتنا أكتافهم فمنحهم أكتافهم ثم التقوا مرة أخرى فقالوا اقسم على ربك فقال أقسمت عليك يارب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبيك ﷺ فمنحوا أكتافهم وقتل البراء وعن أبي الدنيا بإسناد له أن النعمان بن نوفل قال يوم أحد اللهم إني أقسم عليك أن أقتل فأدخل الجنة فقتل فقال النبي ﷺ إن النعمان أقسم على الله فأبره.
وروى أبو نعيم بإسناده عن سعيد أن عبدالله بن جحش قال يوم أحد يارب إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلًا شديدًا بأسه شديدًا حرده أقاتله فيك ويقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا قلت يا عبدالله من جدع أنفك وأذنك فأقول فيك وفي رسولك فتقول صدقت قال سعيد لقد لقيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط، وكان سعد ابن أبي وقاص مجاب الدعوة فكذب عليه رجل فقال اللهم إن كان كاذبا فاعم بصره وأطل عمره وعرضه للفتن فأصاب الرجل ذلك كله فكان يتعرض للجواري في السكك ويقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد ودعا علي رجل سمعه يشتم عليا فما برح من مكانه حتى جاء بعير ناد فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله ونازعته امرأة سعيد بن زيد في أرض له فادعت أنه أخذ منها أرضها فقال اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واقتلها في أرضها فعميت فبينما هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها فماتت، وكان العلاء بن الحضرمي في سرية فعطشوا فصلي ثم قال اللهم ياعليم ياحكيم ياعلي ياعظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ ولا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا فساروا قليلًا فوجدوا نهرا من ماء السماء يتدفق فشربوا وملأوا أوعيتهم ثم ساروا فرجع بعض أصحابه إلى موضع النهر فلم ير شيئًا وكأنه لم يكن في موضعه ماء قط وشكا أنس بن مالك عطش أرضه في البصرة فتوضأ.
وخرج إلى البرية وصلي ركعتين ودعا فجاء المطر وسقا أرضه ولم يجاوز المطر أرضه إلا يسيرا واحترقت خصاص بالبصرة في زمن أبي موسي الأشعري وبقي في وسطها خص لم يحترق فقال أبو موسي لصاحب الخص ما بال خصك لم يحترق فقال إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه فقال أبو موسي إني سمعت رسول الله ﷺ يقول في أمتي رجال طلس رؤوسهم دنس ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم، وكان أبو مسلم الخولاني مشهورا بإجابة الدعوة فكان يمر به الضب فيقول له الصبيان ادع الله لنا أن يحبس علينا هذا الضب فيدعو الله فيحبسه حتى يأخذوه بأيديهم ودعا على امرأة أفسدت عليه عشرة امرأة له بذهاب بصرها فذهب بصرها في الحال فجاءته فجعلت تناشده بالله وتطلب من الله فرحمها ودعا الله تعالى فرد عليها بصرها ورجعت امرأته إلى حالها معه وكذب رجل على مطرف ابن عبدالله بن الشخير فقال له إن كنت كاذبا فعجل الله حتفك فمات الرجل مكانه، وكان رجل من الخوارج يغشي مجلس الحسن البصري فيؤذيهم فلما ازداد أذاه قال الحسن اللهم قد عملت أذاه لنا فاكفناه بما شئت فخر الرجل من قامته فما حمل إلى أهله إلا ميتا على سريره، وكان صلة بن أشيم في سرية فذهبت بغلته بثقلها وارتحل الناس فقام يصلي فقال اللهم إني أقسم عليك أن ترد على بغلتي وثقلها فجاءت حتى قامت بين يديه، وكان مرة في برية فقرأ فجاع فاستطعم الله وجبة خلفه فإذا هو بثوب أو منديل فيه دوخلة رطب طري فأكل منه وبقي الثوب عند امرأته معاذة العدوية وكانت من الصالحات، وكان محمد بن المنكدر في غزاة فقال له رجل من رفقائه اشتهي رطبًا جنيا فقال ابن المنكدر استطعموا الله يطعمكم فإنه القادر فدعا القوم فلم يسيروا إلا قليلًا حتى رأوا مكتلا مخيطا فإذا هو خير رطب فقال بعض القوم لو كان عسلا فقال ابن المنكدر إن الذي أطعمكم رطبًا جنيا ها هنا قادر على أن يطعمكم عسلا فاستطعموه فدعوا فساروا قليلًا فوجدوا ظرف عسل على الطريق فنزلوا وأكلوا، وكان حبيب العجمي أبو محمد معروفا بإجابة الدعوة دعا لغلام أقرع الرأس وجعل يبكي ويمسح بدموعه رأس الغلام فما قام حتى اسود رأسه وعاد كأحسن الناس شعرا وأوتي برجل زمن في محمل فدعا له فقام الرجل على رجليه فحمل محمله على عنقه ورجع إلى عياله واشتري في زمن مجاعة طعامًا كثيرًا فتصدق به على المساكين ثم خاط أكيسة فوضعها تحت فراشه ثم دعا الله تعالى فجاء أصحاب الطعام يطلبون ثمنه فأخرج تلك الأكيسة فإذا هي مملوءة دراهم فوزنها فإذا هي قدر حقوقهم فدفعها إليهم، وكان رجل يعبث به كثيرًا فدعا عليه حبيب فبرص، وكان مرة عند مالك بن دينار فجاء رجل فأغلظ لمالك من أجل دراهم قسمها مالك فلما طال ذلك من أمره رفع حبيب يده إلى السماء فقال اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك فأرحنا منه كيف شئت فسقط الرجل على وجهه ميتا.
وخرج قوم في غزاة في سبيل الله، وكان لبعضهم حمار فمات وارتحل أصحابه فقام فتوضأ وصلي وقال اللهم إني خرجت مجاهدا في سبيلك وابتغاء مرضاتك وأشهد أنك تحيي الموتي وتبعث من في القبور فأحي لي حماري فقام إلى الحمار فضربه فقام الحمار ينفض أذنيه فركبه ولحق أصحابه ثم باع الحمار بعد ذلك بالكوفة وخرجت سرية في سبيل الله فأصابهم برد شديد حتى كادوا أن يهلكوا فدعوا الله تعالى وإلي جانبهم شجرة عظيمة فإذا هي تلتهب نارا فجففوا ثيابهم ودفئوا بها حتى طلعت عليهم الشمس فانصرفوا وردت الشجرة إلى هيئتها.
وخرج أبو قلابة صائما حاجا فتقدم أصحابه في يوم صائف فأصابه عطش شديد فقال اللهم إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر فأظلته سحابة فأمطرت عليه حتى بلت ثوبه وذهب العطش عنه فنزل فحوض حياضا فملأها فانتهي إليه أصحابه فشربوا وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شيء ومثل هذا كثير جدًا ويطول استقصاؤه وأكثر من كان مجاب الدعوة من السلف كان يصبر على البلاء ويختار ثوابه ولا يدعو لنفسه بالفرج منه وقد روى أن سعد بن أبي وقاص كان يدعو للناس لمعرفتهم له بإجابة الدعوة فقيل له لو دعوت الله لبصرك، وكان قد أضر فقال قضاء الله أحب إلى من بصري وابتلي بعضهم بالجذام فقيل له بلغنا أنك تعرف اسم الله الأعظم فلو سألته أن يكشف ما بك فقال يا ابن أخي إنه هو الذي ابتلاني وأنا أكره أن أرده وقيل لإبراهيم التيمي وهو في سجن الحجاج لو دعوت الله تعالى فقال أكره أن أدعوه أن يفرج عني مالي فيه أجر، وكذلك سعيد بن جبير صبر على أذي الحجاج حتى قتله، وكان مجاب الدعوة كان له ديك يقوم بالليل بصياحه إلى الصلاة فلم يصح ليلة في وقته فلم يقم سعيد إلى الصلاة فشق عليه فقال ماله قطع صوته فما صاح الديك بعد ذلك فقالت له أمه يابني لا تدع بعد هذا على شيء وذكر لرابعة رجل له منزلة عند الله وهو يقتات بما يلتقطه من المنبوذات على المزابل فقال رجل ما ضر هذا أن يدعو الله أن يغنيه عن هذا فقالت رابعة إن أولياء الله إذا قضي الله لهم قضاء لم يستسخطوه، وكان حيوة بن شريح ضيق العيش جدًا فقيل له لو دعوت الله أن يوسع عليك فأخذ حصاة من الأرض فقال اللهم اجعلها ذهبا فصارت تبرة في كفه وقال ما خير في الدنيا إلا الآخرة ثم قال هو أعلم بما يصلح عباده وربما دعا المؤمن المجاب الدعوة بما يعلم الله الخيرة له في غيره قال فلا يجيبه إلى سؤاله ويعوضه مما هو خير له إما في الدنيا أو في الآخرة وقد تقدم في حديث أنس المرفوع إن الله يقول إن من عبادي من يسألني بابًا من العبادة فأكفه كيلا يدخله العجب.
وخرج الطبراني من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان عن النبي ﷺ قال إن من أمتي من لو جاء أحدكم يسأله دينارا يعطه ولو سأله درهما لم يعطه ولو سأله فلسا لم يعطه ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وخرجه غيره من حديث سالم مرسلًا وزاد فيه ولو سأل الله شيئًا من الدنيا ما أعطاه تكرمة له، وقوله ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته المراد بهذا أن الله تعالى قضي على عباده بالموت كما قال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} آل عمران هو مفارقة الروح للجسد ولا يحصل ذلك إلا بألم عظيم جدًا وهو أعظم الآلام التي تصيب العبد في الدنيا قال عمر لكعب أخبرني عن الموت قال: يا أمير المؤمنين هو مثل شجرة كثيرة الشوك في جوف ابن آدم فليس منه عرق ولا مفصل وهو كرجل شديد الذراعين فهو يعالجها ينتزعها فبكي عمر.
ولما احتضر عمرو بن العاص سأله ابنه عن صفة الموت فقال والله لكأن جنبي في تخت ولكأني أتنفس من سم إبرة، وكان غصن شوك يجر به من قدمي إلى هامتي.
وقيل لرجل عند الموت كيف تجدك فقال أجدني أجتذب اجتذابا، وكان الخناجر مختلفة في جوفي، وكان جوفي في تنور محمي يلتهب توقدا وقيل لآخر كيف تجدك قال أجدني كأني السموات منطبقة على الأرض علي وأجد نفسي كأنها تخرج من ثقب إبرة.
فلما كان الموت بهذه الشدة والله قد حتمه على عباده كلهم ولابد لهم منه والله تعالى يكره أذي المؤمن ومساءته سمي ترددا في حق المؤمن وأما الأنبياء فلا يقبضون حتى يخيروا.
قال الحسن لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم بلقائه لما أحبوه من تحفة وكرامة حتى إن نفس أحدهم تنزع من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له.
وقالت عائشة ما أغبط أحدًا يهون الله عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله ﷺ قالت كانت عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول اللهم أعني على سكرات الموت قالت وجعل يقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات وجاء في حديث مرسل أنه ﷺ كان يقول اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل اللهم فأعني على الموت وهونه على وقد كان بعض السلف يستحب أن يجتهد عند الموت كما قال عمر بن عبد العزيز ما أحب أن تهون على سكرات الموت إنه لآخر ما يكفر به عن المؤمن وقال النخعي كانوا يستحبون أن يجتهدوا عند الموت، وكان بعضهم يخشي من تشديد الموت أن يفتن وإذا أراد الله أن يهون على العبد الموت هونه عليه.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان من الله وكرامة فليس شيءأحب إليه مما أمامه وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه قال ابن مسعود إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال له إن ربك يقرئك السلام وقال محمد بن كعب يقول له ملك الموت السلام عليك ياولي الله والله يقرئك السلام ثم قال الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم النحل وقال زيد بن أسلم تأتي الملائكة للمؤمن إذا احتضر وتقول له لا تخف مما أنت قادم عليه فيذهب الله خوفه ولا تحزن على الدنيا وأهلها وأبشر بالجنة فيموت وقد جاءته البشري.
وخرج البزار من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ إن الله أضن بموت عبده المؤمن من أحدكم بكريمة ماله حتى يقبضه على فراشه وقال زيد بن أسلم قال رسول الله ﷺ إن لله عبادا هم أهل المعافاة في الدنيا والآخرة وقال ثابت البناني إن لله عبادا يضن بهم في الدنيا عن القتل والأوجاع يطيل الله أعمارهم ويحسن أرزاقهم ويميتهم على فرشهم ويطبعونهم بطابع الشهداء وخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني مرفوعًا من وجوه ضعيفة وفي بعض ألفاظها إن لله ضنائن من خلقه يأبي بهم عن البلاء يحييهم في عافيه ويميتهم في عافية ويدخلهم الجنة في عافية قال ابن مسعود وغيره إن موت الفجأة تخفيف عن المؤمن وقال أبو ثعلبة الخشني إني لأرجو أن لا يخنقني كما أراكم تخنقون عند الموت، وكان ليلة في داره فسمعوه ينادي يا عبد الرحمن، وكان عبد الرحمن قد قتل مع رسول الله ﷺ ثم أتي مسجد بيته فصلي فقبض وهو ساجد وقبض جماعة من السلف في الصلاة وهم سجود، وكان بعضهم يقول لأصحابه إني لا أموت موتكم ولكن أدعي فأجيب، وكان يومًا قاعدا مع أصحابه فقال لبيك ثم خر ميتا، وكان بعضهم جالسًا مع أصحابه فسمعوا صوتا يقول يا فلان أجب فهذه والله آخر ساعتك من الدنيا فوثب فقال هذا والله منادي الموت فودع أصحابه وسلم عليهم ثم انطلق نحو الصوت وهو يقول سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثم انقطع عنهم الصوت فتتبعوا أثره فوجدوه ميتا، وكان بعضهم جالسًا يكتب في مصحف فوضع القلم من يده وقال إن كان موتكم هكذا فوالله إنه لموت طيب ثم سقط ميتا، وكان آخر جالسًا يكتب الحديث فوضع القلم من يده ورفع يديه يدعو الله فمات رحمه الله تعالى.