→ الحديث الثالث | جامع العلوم والحكم المؤلف: ابن رجب الحنبلي |
الحديث الخامس ← |
الحديث الرابع |
عن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها . رواه البخاري ومسلم.
هذا حديث متفق على صحته وتلقته الأمة بالقبول ، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود ومن طريقه خرجه الشيخان في صحيحيهما وقد روي عن محمد بن زيد الأسفاطي قال رأيت النبي ﷺ فيما يرى النائم فقلت يا رسول الله حديث ابن مسعود الذي حدث عنك فقال حدثني رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق فقال ﷺ والذي لا إله غيره حدثته به أنا يقوله ثلاثًا ثم قال غفر الله للأعمش كما حدث به وغفر الله لمن حدث به قبل الأعمش ولمن حدث به بعده وقد روي عن ابن مسعود من وجوه أخر قوله ﷺ إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة قد روي عن ابن مسعود تفسيره وروى الأعمش عن خيثمة عن ابن مسعود قال إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعرة وظفر فتمكث أربعين يومًا ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة قال فذلك جمعها خرجه ابن أبي حاتم وغيره وروي تفسير الجمع مرفوعًا بمعنى آخر فخرج الطبراني وابن منده في كتاب التوحيد من حديث مالك بن الحويرث أن النبي ﷺ قال إن الله تعالى إذا أراد خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعضو منها فإذا كان يوم السابع جمعه الله تعالى ثم أحضره في كل عرق له دون آدم في أي صورة ما شاء ركبك قال ابن منده إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما.
وخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني من رواية مظهر بن الهيثم عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال لجده يا فلان ما ولد لك قال يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية قال فمن يشبه قال جده عسى أن يشبه أمه أو أباه قال فقال النبي ﷺ لا يقولن أحدكم كذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم أما قرأت هذه الآية {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} قال سلكت.
وهذا إسناد ضعيف ومظهر عن موسى بن على عن أبيه أن أباه لم يسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يعني أنه لا صحبة له.
ويشهد لهذا المعنى قول النبي ﷺ للذي قال له ولدت امرأتي غلامًا أسود قال لعله نزعه عرق.
قوله ثم يكون علقة مثل ذلك يعني أربعين يومًا والعلقة قطعة من دم ثم يكون مضغة مثل ذلك يعني أربعين يومًا والمضغة قطعة من لحم ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد.
فهذا الحديث يدل على أنه ينقلب في مائة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار في كل أربعين يومًا منها يكون في طور فيكون في الأربعين الأولى نطفة ثم في الأربعين الثانية علقة ثم في الأربعين الثالثة مضغة ثم بعد المائة وعشرين يومًا ينفخ فيه الملك الروح ويكتب له هذه الأربع الكلمات.
وقد ذكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تقلب الجنين في هذه الأطوار كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} الحج.
وذكر هذه الأطوار الثلاثة النطفة والعلقة والمضغة في مواضع متعددة من القرآن وفي مواضع أخر ذكر زيادة عليها فقال في سورة المؤمنين {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} المؤمنون فبهذه سبع تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الروح فيه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول خلق ابن آدم من سبع ثم يتلو هذه الآية وسئل عن العزل فقرأ هذه الآية ثم قال فهل يخلق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة.
وفي رواية عنه قال وهل تموت نفس حتى تمر على هذا الخلق.
وروي عن رفاعة بن رافع قال جلس إلى عمر وعلي والزبير وسعد ونفر من أصحاب رسول الله ﷺ فتذاكروا العزل فقال لا بأس به فقال رجل إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى فقال علي رضي الله عنه لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع تكون سلالة من طين ثم تكون نطفة ثم تكون علقة ثم تكون مضغة ثم تكون عظامًا ثم تكون لحمًا ثم تكون خلقًا آخر فقال عمر رضي الله عنه صدقت أطال الله بقاءك.
وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها مال لم ينفخ فيه الروح وجعلوه كالعزل وهو قول ضعيف لأن الجنين ولد انعقد وربما تصور وفي العزل لم يوجد ولد بالكلية وإنما تسبب إلى منع انعقاده وقد لا يمتنع انعقاده بالعزل إذا أراد الله خلقه كما قال النبي لما سئل عن العزل قال لا عليكم أن لا تعزلوا إنه ما من نفس منفوسة إلا أن الله خلقها وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علقة لم يجز للمرأة إسقاطه لأنه ولد انعقد بخلاف النطفة فإنها لم تنعقد بعد وقد لا تنعقد ولدا.
وقد ورد في بعض الروايات في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ذكر العظام وأنه يكون عظما أربعين يومًا فخرج الإمام أحمد من رواية علي بن زيد سمعت أبا عبيدة يحدث قال قال عبد الله قال رسول الله ﷺ إن النطفة تكون في الرحم أربعين يومًا على حالها لا تغير فإذا مضت الأربعون صارت علقة ثم مضغة كذلك ثم عظاما فإذا أراد الله تعالى أن يسوي خلقه بعث الله إليه ملكا وذكر بقية الحديث ويروى من حديث عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن النطفة إذا استقرت في الرحم تكون أربعين ليلة نطفة ثم تكون علقة أربعين ليلة ثم تكون عظاما أربعين ليلة ثم يكسو الله العظام لحما ورواية الإمام أحمد تدل على أن الجنين لا يكسى اللحم إلا بعد مائة وستين يومًا وهذا غلط لا ريب فيه فإنه بعد مائة وعشرين يومًا ينفخ فيه الروح بلا ريب كما سيأتي ذكره وعلي بن زيد هو ابن جدعان لا يحتج به وقد ورد في حديث حذيفة بن أسيد ما يدل على خلق العظام واللحم في أول الأربعين الثانية ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد عن النبي ﷺ قال إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب ذكر أو أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص فظاهر هذا الحديث يدل على أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أول الأربعين الثانية فيلزم من ذلك أن يكون في الأربعين الثانية لحما وعظاما وقد تأول بعضهم ذلك على أن الملك يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء فيجعل بعضها للجلد وبعضها للحم وبعضها للعظام فيقدر ذلك كله قبل وجوده وهذا خلاف ظاهر الحديث بل ظاهره أن يصورها ويخلق هذه الأجزاء كلها وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام قد يكون هذا في بعض الأجنة دون بعض، وحديث مالك بن الحويرث المتقدم يدل على أن التصوير يكون في النطفة أيضًا في اليوم السابع وقد قال الله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ}.
وفسر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها.
قال ابن مسعود رضي الله عنه أمشاجها عرقوها.
وقد ذكر علماء الطب ما يوافق ذلك وقالوا إن المني إذا وقع في الرحم حصل له زبدية ورغوة ستة أيام أو سبعة أيام وفي هذه الأيام تصور النطفة من غير استمداد من الرحم ثم بعد ذلك تستمد منه وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام وقد يتقدم يومًا ويتأخر يومًا ثم بعد ستة أيام وهو الخامس عشر من وقت العلوق ينفذ الدم إلى الجميع فيصير علقة ثم تتميز الأعضاء تميزًا ظاهرًا ويتنحى بعضها عن ممارسة بعض وتمتد لرطوبة النخاع ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الأصابع تميزًا يستبين في بعض ويخفى في بعض قالوا وأقل مدة يتصور فيها الذكر ثلاثون يومًا والزمان المعتدل في تصوير الجنين خمسة وثلاثون يومًا وقد يتصور في خمسة وأربعين يومًا قالوا ولم يوجد في الأسقاط ذكر تم قبل ثلاثين يومًا ولا لأنثى قبل أربعين يومًا فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد في التخليق في الأربعين الثانية ومصيره لحمًا فيها أيضًا.
وقد جعل بعضهم حديث بن مسعود على أن الجنين يغلب عليه في الأربعين الأولى وصف المني وفي الأربعين الثانية وصف العلقة وفي الأربعين الثالثة وصف المضغة وإن كانت خلقته قد تمت وتم تصويره وليس في حديث ابن مسعود ذكر وقت تصوير الجنين وقد روي عن ابن مسعود نفسه ما يدل عن أن تصويره قد يقع قبل الأربعين الثالثة أيضًا فروي الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنهم قال النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك فأخذها بكفه فقال أي رب مخلقة أم غير مخلقة فإن قيل غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دما وإن قيل مخلقة قال أي رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل وما الأثر وبأي أرض تموت قال فيقال للنطفة من ربك فتقول الله فيقال من رازقك فتقول الله فيقال اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيه قصة هذه النطفة قال فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل في رزقها وتطأ في أثرها حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك ثم تلا الشعبي هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} الحج.
فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما وإن كانت مخلقة نكست نسمة خرجه ابن أبي حاتم وغيره وقد روى من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه أن لا تصوير قبل ثمانين يومًا.
فروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ في قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} قال إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا ثم تكون علقة أربعين يومًا ثم تكون مضغة أربعين يومًا فإذا بلغ أن تخلق بعث الله ملكًا يصورها فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه فيخلطه في المضغة ثم يعجنه بها ثم يصورها كما يؤمر فيقول أذكر أم أنثى شقي أم سعيد وما رزقه وما عمره وما أثره وما مصائبه فيقول الله تبارك وتعالى فيكتب الملك فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب خرجه ابن جرير الطبري في تفسيره ولكن السدي مختلف في أمره.
وكان الإملام أحمد ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد كما كان هو وغيره ينكرون على الواقدي جمعه الأسانيد المتعددة للحديث الواحد وقد أخذ طائفة من الفقهاء بظاهر هذه الرواية وتأولوا حديث ابن مسعود المرفوع عليها وقالوا أقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يومًا لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة ولا يتخلق ويتصور قبل أن يكون مضغة وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي بناء على هذا الأصل إنه لا تنقضي العدة ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلقة وأقل ما يكون أن يتخلق ويتصور في أحد وثمانين يومًا وقال أحمد رحمه الله في العلقة هي دم لا يستبين فيها الخلق فإن كانت المضغة غير مخلقة فهل تنقضي بها العدة وتصير بها أم الولد مستولدة على قولين هما روايتان عن أحمد وإن لم يظهر فيها التخطيط ولكن كان خفيا لا يعرفه إلا أهل الخبرة من النساء فتشهدن بذلك قبلت شهادتين ولا فرق بين أن يكون بعد تمام أربعة أشهر أو قبلها عند أكثر العلماء ونص على ذلك الإمام أحمد في رواية خلق من أصحابه ونقل عنه ابنه صالح في الطفل يتبين خلقه في الأربعة قال الشعبي إذا نكس في الخلق الرابع كان مخلقا انقضت به العدة وعتقت به الأمة إذا كان لأربعة أشهر وكذا نقل عنه حنبل إذا اسقطت أم الولد فإن كانت خلقته تامة عتقت وانقضت به العدة وإذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح وهذا يخالف رواية الجماعة عنه وقد قال أحمد في رواية عنه إذا تبين خلقه ليس فيه اختلاف فإنها تعتق بذلك إذا كانت أمة ونقل عنه أيضًا جماعة في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق بها وهو قول النخعي وحكى قولًا للشافعي ومن أصحابنا من طرد هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدة به أيضًا وهذا كله مبني على أنه يمكن التخليق في العلقة كما قد يستدل على ذلك بحديث حذيفة بن أسيد المتقدم أن يقال إن حديث حذيفة إنما يدل على أنه يتخلق إذا صار لحما وعظما وإن ذلك قد يقع في الأربعين الثانية لا في حال كونه علقة وفي ذلك نظر والله أعلم.
وما ذكره الأطباء يدل على أن العلقة تتخلق وتتخطط، وكذلك القوابل من النسوة يشهدن بذلك، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال كون الجنين نطفة والله أعلم.
وما بقي في حديث ابن مسعود أن بعد مصيره مضغة أنه يبعث إليه الملك فيكتب الكلمات الأربع وينفخ فيه الروح وذلك كله بعد مائة وعشرين يومًا واختلفت ألفاظ روايات هذا الحديث في ترتيب الكتابة والنفخ ففي رواية البخاري في صحيحه ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات ثم ينفخ فيه الروح ففي هذه الرواية تصريح بتأخير نفخ الروح عن الكتابة وفي رواية خرجها البيهقي في كتاب القدر ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح ثم يؤمر بأربع كلمات وهذه الرواية تصرح بتقدم النفخ على الكتابة فإما أن يكون هذا من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه وإما أن يكون المراد ترتيب الأخبار فقط لا ترتيب ما أخبر به وبكل حال فحديث ابن مسعود يدل على تأخير نفخ الروح في الجنين وكتابة الملك لأمره إلى بعد أربعة أشهر حتى تتم الأربعون الثالثة فأما نفخ الروح فقد روي صريحا عن الصحابة رضي الله عنهم أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود فروى زيد بن على عن أبيه عن على قال إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فينفخ فيها الروح في الظلمات فذلك قوله تعالى {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} المؤمنون خرجه ابن أبي حاتم وإسناده منقطع.
وخرج اللالكائي بإسناده عن ابن عباس قال إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرا ثم نفخ فيه الروح ثم مكثت أربعين ليلة ثم بعث إليها ملك فنقفها في نقرة القفا وكتب شقيا أو سعيدا وفي إسناده نظر وفيه أن نفخ الروح يتأخر عن الأربعة الأشهر بعشرة أيام وبني الإمام أحمد مذهبه المشهور عنه على ظاهر حديث ابن مسعود وأن الطفل ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وأنه إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر صلى عليه حيث كان قد نفخ فيه الروح ثم مات وحكى ذلك أيضًا عن سعيد بن المسيب وهو أحد قولي الشافعي وإسحاق ونقل غير واحد عن أحمد أنه قال إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا ففي تلك العشر ينفخ فيه الروح ويصلي عليه وقال في رواية لأبي الحارث عنه تكون النسمة نطفة أربعين ليلة وعلقة أربعين ليلة ومضغة أربعين ليلة ثم تكون عظما ولحما فإذا تم أربعة أشهر وعشرا نفخ فيه الروح وظاهر هذه الرواية أنه لا ينفخ فيه الروح إلا بعد تمام أربعة أشهر وعشر كما روي عن ابن عباس والروايات التي قبل هذه عن أحمد أنها تدل على أنه ينفخ فيه الروح في مدة العشر بعد تمام الأربعة وهذا هو المعروف عنه وكذا قال ابن المسيب لما سئل عن عدة الوفاة حيث جعلت أربعة أشهر وعشرا ما بال العشر قال ينفخ فيه الروح وأما أهل الطب فذكروا أن الجنين إن تصور في خمسة وثلاثين يومًا تحرك في سبعين يومًا وولد في مائتين وعشرة أيام وذلك سبعة أشهر وربما تقدم أياما وتأخر في التصوير والولادة وإذا كان التصوير في خمسة وأربعين يومًا تحرك في تسعين يومًا وولد في مائتين وسبعين يومًا وذلك تسعة أشهر والله أعلم.
وأما كتابة الملك فحديث ابن مسعود يدل على أنها تكون بعد أربعة أشهر أيضًا على ما سبق.
وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ﷺ قال وكل الله بالرحم ملكا يقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه وظاهر هذا يوافق حديث ابن مسعود لكن ليس فيه تقدير المدة، وحديث حذيفة ابن أسيد الذي تقدم يدل على أن الكتابة تكون في أول الأربعين الثانية وخرجه مسلم أيضًا بلفظ آخر من حديث حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ﷺ قال يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول أي رب أذكر أم أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة يتسور عليها الملك فيقول يا رب أذكر أم أنثى وذكر الحديث وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا لبضع وأربعين ليلة.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث جابر عن النبي ﷺ قال إذا استقرت النطفة في الرحم أربعين يومًا أو أربعين ليلة بعث إليها ملك فيقول يا رب شقي أم سعيد فيعلم وقد سبق ما رواه الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود من قوله وظاهره يدل على أن الملك يبعث إليه وهو نطفة.
وقد روي عن ابن مسعود من وجهين آخرين أنه قال إن الله عز وجل تعرض عليه كل يوم أعمال بني آدم فينظر فيها ثلاث ساعات ثم يؤتى بالأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات وهو قوله {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} آل عمران، وقوله {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} الشورى ويؤتى بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات وتسبحه الملائكة ثلاث ساعات قال فهذا من شأنكم وشأن ربكم ولكن ليس في هذا توقيت ما ينظر فيه من الأرحام بمدة.
وقد روي عن جماعة من الصحابة أن الكتابة تكون في الأربعين الثانية فخرج اللالكائي بإسناده عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها الملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل فيقول اخلق يا أحسن الخالقين فيقضي الله فيها ما يشاء من أمره ثم تدفع إلى الملك عند ذلك فيقول يا رب أسقط أم تمام فيبين له فيقول يا رب أناقص الأجل أم تام الأجل فيبين له فيقول يا رب أواحد أم توأم فيبين له فيقول يا رب أذكر أم أنثي فيبين له فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيبين له ثم يقول يا رب اقطع له رزقه فيقطع له رزقه مع أجله فيهبط بهما جميعًا فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسم له.
وخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه قال إن المني يمكث في الرحم أربعين ليلة فيأتيه ملك النفوس فيعرج به إلى الرحمن عز وجل فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيقضي الله عز وجل ما هو قاض ثم يقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتب ما هو لاق بين يديه ثم تلا أبو ذر يقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتب ما هو لاق بين يديه ثم تلا أبو ذر من فاتحة سورة التغابن إلى قوله {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} التغابن فهذا كله يوافق ما في حديث حذيفة بن أسيد وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كتابة الملك تكون بعد نفخ الروح بأربعين ليلة وأن إسناده فيه نظر.
وقد جمع بعضهم بين هذه الأحاديث والآثار وبين حديث ابن مسعود فأثبت الكتابة مرتين وقد يقال مع ذلك إن أحدهما في السماء والآخر في بطن الأم والأظهر والله أعلم أنها مرة واحدة ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنة فبعضهم يكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى وبعضهم بعد الأربعين الثالثة وقد يقال إن لفظة ثم في حديث ابن مسعود إنما يراد به ترتيب الأخبار لا ترتيب المخبر عنه في نفسه والله أعلم.
ومن المتأخرين من رجح أن الكتابة تكون في أول الأربعين الثانية كما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد وقال إنما أخر ذكرها في حديث ابن مسعود إلى ما بعد ذكر المضغة وأن ذكره بلفظ ثم لئلا ينقطع ذكر الأطوار الثلاثة التي ينقلب فيها الجنين وهو كونه نطفة وعلقة ومضغة فإن ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجب وأحسن ولذلك أخر المعطوف عليها وإن كان المعطوف متقدما على بعضها في الترتيب واستشهد لذلك بقوله {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ} الآية.
والمراد بالإنسان آدم عليه السلام ومعلوم أن تسويته ونفخ الروح فيه كان قبل جعل نسله من سلالة من ماء مهين لكن لما كان المقصود ذكره قدرة الله عز وجل في مبدأ خلق آدم وخلق نسله عطفت أحدهما على الآخر وأخر ذكر تسوية آدم ونفخ الروح وإن كان ذلك متوسطا بين خلق آدم من طين وبين خلق نسله والله أعلم.
وقد ورد أن هذه الكتابة تكتب بين عيني الجنين ففي مسند البزار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال إذا خلق الله النسمة قال ملك الأرحام أي رب أذكر أم أنثي قال فيقضي الله إليه أمره ثم يقول أي رب أشقي أم سعيد فيقضي الله إليه أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها وقد ورد موقوفا عن ابن عمر غير مرفوع، وحديث حذيفة بن أسيد المتقدم صريح في أن الملك يكتب ذلك في صحيفته ولعله يكتب في صحيفته ويكتب بين عيني الولد وقد روي أنه تقترن بهذه الكتابة أنه يخلق مع الجنين ما تضمنت من صفاته القائمة فروي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال إن الله إذا أراد أن يخلق الخلق بعث ملكا فدخل الرحم فيقول أي رب ماذا فيقول غلام أو جارية أو ما شاء أن يخلق في الرحم فيقول أي رب أشقي أم سعيد ويقول أي رب ما أجله فيقول كذا وكذا فيقول ما خلقه ما خلائقه فيقول كذا كذا فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم خرجه أبو داود في كتاب القدر والبزار في مسنده وبكل حال فهذه الكتابة التي تكتب للجنين في بطن أمه غير كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائق المذكورة في قوله تعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ} الحديد الآية.
كما في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفي حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال أول ما خلق الله القلم قال له اكتب فجري بما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقد سبق ذكر ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الملك إذا سأل عن حال النطفة أمر أن يذهب إلى الكتاب السابق ويقال له إنك تجد فيه قصة هذه النطفة وقد تكاثرت النصوص بذكر الكتاب السابق بالسعادة والشقاوة ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا ندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى الليل وفي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال وأن كلا ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب السعادة والشقاوة.
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال قال رجل يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال فلم يعمل العاملون قال كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له.
وقد روى هذا المعنى عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة، وحديث ابن مسعود فيه أن السعادة والشقاوة بحسب خواتيم الأعمال.
وقد قيل إن قوله في آخر الحديث فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه إلى آخر الحديث مدرج من كلام ابن مسعود كذلك رواه مسلم بن كهيل عن زيد بن وهب عن ابن مسعود من قوله قد روى هذا المعنى عن النبي ﷺ من وجوه متعددة أيضًا وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن النبي ﷺ قال إنما الأعمال بالخواتيم وفي صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال إنما الأعمال بالخواتيم وفيه أيضًا عن معاوية قال سمعت النبي ﷺ يقول إنما الأعمال بخواتيمها كالوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة.
وخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا عليكم أن لا تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملًا سيئا وإن العبد ليعمل البرهة من عمره بعمل سييء لو مات عليه دخل النار ثم يتحول فيعمل عملًا صالحًا.
وخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وهو مكتوب في الكتاب من أهل النار فإذا كان قبل موته تحول يعمل بعمل أهل النار فمات فدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه لمكتوب في الكتاب من أهل الجنة فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل الجنة فمات فدخلها.
وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله ﷺ وفي يده كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان فقلنا لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمني هذا الكتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه أبدًا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه أبدًا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمرا قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال رسول الله ﷺ بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير وقد روى هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وخرجه الطبراني من حديث علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ وزاد فيه صاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة وصاحب النار مختوم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل وقد يسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة حتى يقال ما أشبههم بهم بل هم منهم وتدركهم السعادة فتستنقذهم وقد يسلك بأهل الشقاوة طريق أهل السعادة حتى يقال ما أشبههم بهم بل هم منهم وتدركهم الشقاوة من كتبه الله سعيدا في أم الكتاب لم يخرجه من الدنيا حتى يستعمله بعمل يسعده قبل موته ولو بفواق ناقة ثم قال الأعمال بخواتيمها الأعمال بخواتيمها.
وخرج البزار في مسنده بهذا المعنى أيضًا من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ.
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي ﷺ التقي هو والمشركون وفي أصحابه رجل لا يدع شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول الله ﷺ هو من أهل النار فقال رجل من القوم أنا أصاحبه فأتبعه فجرح الرجل جرحا شديدًا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه على الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله ﷺ فقال أشهد أنك رسول الله وقص عليه القصة فقال رسول الله ﷺ إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة زاد البخاري رواية إنما الأعمال بالخواتيم، وقوله فيما يبدو للناس إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس إما من جهة عمل سييء ونحو ذلك فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفيه من خصال الخير فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة قال عبد العزيز بن أبي رواد حضرت رجلًا عند الموت يلقن الشهادة لا إله إلا الله فقال في آخر ما قال هو كافر بما تقول ومات على ذلك قال فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق فكل ذلك سبق في الكتاب السابق ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق وقد قيل إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم يقولون بماذا يختم لنا وقلوب المقربين معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا وبكى بعض الصحابة عند موته فسئل عن ذلك فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الله تعالى قبض خلقه قبضتين فقال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ولا أدري في أي القبضتين كنت.
قال بعض السلف ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق وقال سفيان لبعض الصالحين هل أبكاك قط علم الله فيك فقال له ذلك الرجل تركني لا أفرح أبدًا.
وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتيم فكان يبكي ويقول أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا ويبكي ويقول أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.
وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضا على لحيته ويقول يا رب قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك.
وقال حاتم الأصم من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار فهو مغتر فلا يأمن الشقاء الأول خطر يوم الميثاق حين قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي فلا يعلم في أي الفريقين كان والثاني حين خلق في ظلمات ثلاث فنادى الملك بالشقاوة والسعادة ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء والثالث ذكر هول المطلع فلا يدري أيبشر برضا الله أم بسخطه والرابع يوم يصدر الناس أشتاتا فلا يدري أي الطريقين يسلك به وقال سهل التستري المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ويشتد قلقهم وجزعهم منه فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر كما تقدم أن دسائس السوء الخلفية توجب سوء الخاتمة وقد كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقيل له يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا فقال نعم إن القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبها كيف شاء خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس.
وخرج الإمام أحمد من حديث أم سلمة أن النبي ﷺ كان يكثر في دعائه أن يقول اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله أو إن القلوب لتتقلب قال نعم ما من خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين اصبعين من أصابع الله عز وجل فإن شاء عز وجل أقامه وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب قالت قلت يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي قال بلى وقولي اللهم رب النبي محمد ﷺ اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وخرج مسلم من حديث عبدالله بن عمرو سمعت رسول الله ﷺ يقول إن قلوب بني آدم كلها بين اصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله ﷺ اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.