الحديث الرابع عشر |
عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله ﷺ لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة . رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود وفي رواية لمسلم التارك للإسلام بدل قوله التارك لدينه وفي هذا المعنى أحاديث متعددة فخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ مثل حديث ابن مسعود.
وخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس وفي رواية للنسائي رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم أو قتل عمدا فعليه القود أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل وقد روي هذا المعنى عن النبي ﷺ من رواية ابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم وقد ذكرنا حديث أنس فيما تقدم وفيه تفسير أن هذه الثلاث خصال هي حق الإسلام التي يستباح بها دم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين فأما زنا الثيب فأجمع المسلمون على أن حده الرجم حتى يموت وقد رجم النبي ﷺ ماعزا والغامدية، وكان في القرآن الذي نسخ لفظه والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم وقد استنبط ابن عباس الرجم من القرآن من قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} المائدة قال فمن كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ثم تلا هذه الآية وقال كان الرجم مما أخفوا أخرجه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ويستنبط أيضًا من قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} إلى قوله {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} المائدة وقال الزهري بلغنا أنها نزلت في اليهوديين اللذين رجمهما النبي ﷺ وقال إني أحكم بما في التوارة وأمر بهما فرجما.
وخرج مسلم في صحيحه من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين وقال في حديثه فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} المائدة وأنزل {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة في الكفار كلها وخرجه الإمام أحمد وعنده فأنزل الله {لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} المائدة إلى قوله {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقولون ائتوا محمدًا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا إلى قوله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة قال في اليهود وروي من حديث جابر قصة رجم اليهوديين وفي حديثه قال فأنزل الله {فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} المائدة، وكان الله تعالى قد أمر أولا بحبس النساء الزواني إلى أن {يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} ثم جعل الله لهن سبيلًا ففي صحيح مسلم عن عبادة عن النبي ﷺ قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا البكر بالكبر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من العلماء وأوجبوا جلد الثيب مائة ثم رجمه كما فعل على بشراحة الهمدانية وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله ﷺ ويشير إلى أن كتاب الله فيه جلد الزانيين من غير تفصيل بين ثيب وبكر وجاءت السنة برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضًا وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق وهو قول الحسن وطائفة من السلف وقالت طائفة منهم إن كان الثيبان شيخين جلدا ورجما وإن كانا شابين رجما بغير جلد لأن ذنب الشيخ أقبح لا سيما بالزنا وهذا قول أبي بن كعب.
وروي عنه مرفوعًا ولا يصح رفعه وهو رواية عن أحمد وإسحق أيضًا وأما النفس بالنفس فمعناه أن المكلف إذا قتل نفسا بغير حق عمدا يقتل بها وقد دل القرآن على ذلك بقوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} المائدة وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} البقرة ويستثنى من عموم قوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْس} صور منها أن يقتل الوالد ولده فالجمهور على أنه لا يقتل به وصح ذلك عن عمر رضي الله عنه وروي عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وقد تكلم في أسانيدها وقال مالك إن تعمد قتله تعمدا لا يشك فيه مثل أن يذبحه فإنه يقتل به وإن حذفه بسيف أو عصا لم يقتل وقال الليث يقتل بقتله بجميع وجوه العمد للعمومات ومنها أن يقتل الحر عبدًا فالأكثرون على أنه لا يقتل به وقد وردت في ذلك أحاديث في أسانيدها مقال وقيل يقتل بعبد غيره دون عبده وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقيل يقتل بعبده وعبد غيره وهي رواية عن الثوري وقول طائفة من أهل الحديث لحديث سمرة عن النبي ﷺ من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه وقد طعن فيه الإمام أحمد وغيره وقد أجمعوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار في الأطراف وهذا يدل على أن هذا الحديث مطرح لا يعمل به وهذا مما يستدل به على أن المراد بقوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْس} المائدة الأحرار لأنه ذكر بعده القصاص في الأطراف وهو يختص بالأحرار ومنها أن يقتل المسلم كافرًا فإن كان حربيا لم يقتل به بغير خلاف لأن قتل الحربي مباح بلا ريب وإن كان ذميا أو معاهدا فالجمهور على أنه لا يقتل به أيضًا وفي صحيح البخاري عن على عن النبي ﷺ قال لا يقتل مسلم بكافر وقال أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الكوفيين يقتل به وقد روى ربيعة عن أبي البيلماني عن النبي ﷺ أنه قتل رجلًا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة وقال أنا أحق من وفي بذمته وهذا مرسل ضعيف قد ضعفه الإمام أحمد وأبو عبيد وإبراهيم الحربي والجوزجاني وابن المنذر والدارقطني وقال ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا الحديث فكيف بما يرسل وقال الجوزجاني إنما أخذه ربيعة عن إبراهيم بن أبي يحيى عن ابن المنذر عن ابن البيلماني وابن أبي يحيى متروك الحديث وفي مراسيل أبو داود حديث آخر مرسل أن النبي ﷺ قتل يوم خيبر مسلمًا بكافر غيلة وقال أنا أولى وأحق من وفي بذمته وهذا مذهب مالك وأهل المدينة أن القتل غيلة لا تشترط له المكافأة فيقتل فيه والمسلم بالكافر وعلى هذا حملوا حديث ابن البيلماني أيضًا على تقدير صحته ومنها أن يقتل الرجل امرأة فيقتل بها بغير خلاف وفي كتاب عمرو ابن حزم عن النبي قال إن الرجل يقتل بامرأة وصح أنه ﷺ قتل يهوديا قتل جارية وأكثر العلماء على أنه لا يدفع إلى أولياء الرجل شيء وروي عن على أنه يدفع إليهم نصف الدية لأن دية المرأة نصف دية الرجل وهو قول طائفة من السلف وأحمد في رواية عنه وأما التارك لدينه المفارق للجماعة فالمراد به من ترك الإسلام وارتد عنه وفارق جماعة المسلمين كما جاء التصريح بذلك في حديث عثمان وإنما استثناه مع من يحل دمه من أهل الشهادتين باعتبار ما كان عليه قبل الردة وحكم الإسلام لازم له بعدها ولهذا يستتاب ويطلب منه العود إلى الإسلام وفي إلزامه بقضاء ما فاته في زمن الردة من العبادات اختلاف مشهور بين العلماء وأيضا فقد يترك دينه ويفارق الجماعة وهو مقر بالشهادتين ويدعي الإسلام كما إذا جحد شيئًا من أركان الإسلام أو سب الله ورسوله أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال من بدل دينه فاقتلوه ولا فرق في هذا بين الرجل والمرأة عند أكثر العلماء ومنهم من قال لا تقتل المرأة إذا ارتدت كما لا تقتل نساء أهل الحرب في الحرب وإنما تقتل رجالهم وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وجعلوا الكفر الطاريء كالأصل والجمهور فرقوا بينهما وجعلوا الطاريء أغلظ لما سبقه من الإسلام ولهذا يقتل بالردة عنه من لا يقتل من أهل الحرب كالشيخ الفاني والزمن والأعمى ولا يقتلون في الحرب، وقوله ﷺ التارك لدينه المفارق للجماعة يدل على أنه لو تاب ورجع إلى الإسلام لا يقتل لأنه ليس بتارك لدينه بعد رجوعه ولا مفارق للجماعة فإن قيل بل استثنى هذا ممن يعصم دمه من أهل الشهادتين يدل على أنه يقتل ولو كان مقرا بالشهادتين كما يقتل الزاني المحصن وقاتل النفس وهذا يدل على أن المرتد لا تقبل توبته كما حكي عن الحسن أو أن يحمل ذلك على من ارتد ممن ولد على الإسلام فإنه لا تقبل توبته وإنما تقبل توبة من كان كافرًا ثم أسلم ثم ارتد على قول طائفة من العلماء ومنهم الليث بن سعد وأحمد في رواية عنه وإسحق قيل إنما استثناه من المسلمين باعتبار ما كان عليه قبل مفارقة دينه كما سبق تقريره وليس هذا كالثيب الزاني وقاتل النفس لأن قتلهما يوجب عقوبة لجريمتهما الماضية ولا يمكن تلافي ذلك وأما المرتد فإنما قتل لوصف قائم به في الحال وهو ترك دينه ومفارقة الجماعة فإذا عاد إلى دينه وإلى موافقته للجماعة فالوصف الذي أبيح به دمه قد انتفى فتزول إباحة دمه والله أعلم.
فإن قيل فقد خرج النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم ورجل قتل متعمدًا فيقتل ورجل خرج من الإسلام فحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض وهذا يدل على أن المراد من جمع بين الردة والمحاربة.
قيل قد خرج أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر وهو أن رسول الله ﷺ قال لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا في إحدى ثلاث زنا بعد إحصان فإنه يرجم ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها وهذا يدل على أن من وجد منه الحرب من المسلمين خير الإمام فيه مطلقا كما يقوله علماء أهل المدينة كمالك وغيره والرواية الأولى قد تحمل على أن المراد بخروجه عن الإسلام خروجه عن أحكام الإسلام وقد تحمل على ظاهرها وقد يستدل بذلك من يقول إن آية المحاربة تختص بالمرتدين فمن ارتد وحارب فعل به ما في الآية ومن حارب من غير ردة أقيمت عليه أحكام المسلمين من القصاص والقطع في السرقة وهذا رواية عن أحمد رحمه الله لكنها غير مشهورة عنه وكذا قالت طائفة من السلف إن آية المحاربة تختص بالمرتدين منهم أبو قلابة وغيره وبكل حال فحديث عائشة رضي الله عنها ألفاظه مختلفة وقد روى عنها مرفوعًا وروي عنها موقوفا، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه لفظه لا اختلاف فيه وهو ثابت متفق على صحته ولكن يقال على هذا إنه قد ورد قتل المسلم بغير إحدى الثلاث الخصال فمنها في اللواط وقد جاء من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال اقتلوا الفاعل والمفعول به وأخذ به كثير من العلماء كمالك وأحمد وقالوا إنه موجب للقتل بكل حال محصنا كان أو غير محصن وقد روي عن عثمان أنه قال لا يحل دم امريء مسلم إلا بأربع فذكر الثلاثة المتقدمة وزاد ورجل عمل عمل قوم لوط ومنها من أتى ذات محرم وقد روي الأمر بقتله وروي أن النبي ﷺ قتل من تزوج بامرأة أبيه وأخذ بذلك طائفة من العلماء وأوجبوا قتله محصنا كان أو غير محصن ومنها الساحر وفي الترمذي من حديث جندب مرفوعًا حد الساحر ضربة بالسيف وذكر أن الصحيح وقفه على جندب وهو مذهب جماعة من العلماء منهم عمر بن عبدالعزيز ومالك وأحمد وإسحق ولكن هؤلاء يقولون إنه يكفر بسحره فيكون حكمه حكم المرتد ومنها قتل من وقع على بهيمة ومنها من ترك الصلاة فإنه يقتل عند كثير من العلماء مع قولهم إنه ليس بكافر وقد سبق ذكر ذلك مستوفي ومنها قتل شارب الخمر في المرة الرابعة وقد ورد الأمر به عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وأخذ بذلك عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وغيره وأكثر العلماء على أن القتل نسخ وروي أن النبي ﷺ أتى بالشارب في المرة الرابعة فلم يقتله وفي صحيح البخاري أن رجلًا كان يؤتى به للنبي ﷺ في الخمر فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي ﷺ لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ولم يقتله بذلك وقد روي قتل السارق في المرة الخامسة وقيل إن بعض الفقهاء ذهب إليه ومنها ما روي عنه ﷺ أنه قال إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما خرجه مسلم من حديث أبي سعيد وقد ضعف العقيلي أحاديث هذا الباب كلها ومنها قوله ﷺ من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد فأراد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه وفي رواية فاضربوا رأسه بالسيف كائنا من كان وقد خرجه مسلم أيضًا من رواية عرفجة ومنها من شهر السلاح فخرج النسائي من حديث ابن الزبير رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من شهر السلاح ثم وضعه فدمه هدر وقد روي عن ابن الزبير مرفوعًا وموقوفا وقال البخاري إنما هو موقوف وسئل أحمد رحمه الله عن معنى هذا الحديث فقال ما أدري ما هذا وقال إسحق بن راهويه إنما يريد من شهر سلاحه ثم وضعه في الناس حتى استعرض الناس فقد حل قتله وهو مذهب الحرورية يستعرضون الرجال والنساء والذرية.
وقد روي عن عائشة ما يخالف تفسير إسحق فخرج الحاكم من رواية علقمة بن أبي علقمة عن أمه أن غلامًا شهر السيف على مولاه في إمرة سعيد بن العاص وتفلت به عليه فأمسكه الناس عنه فدخل المولى على عائشة فقالت سمعت رسول الله ﷺ يقول من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين يريد قتله فقد وجب دمه فأخذه مولاه فقتله وقال صحيح على شرط الشيخين وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال من قتل دون ماله فهو شهيد وفي رواية من قتل دون دمه فهو شهيد فإذا أريد مال المرء أو دمه دفع عنه بالأسهل هذا مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله وهل يجب أن ينوي أنه لا يريد قتلة أم لا فيه روايتان عند الإمام أحمد وذهب طائفة إلى أن من أراد ماله أو دمه أبيح له قتله ابتداء ودخل على ابن عمر لص فقام إليه بالسيف صلتا فلولا أنهم حالوا بينه وبينه لقتله وسئل الحسن عن لص دخل بيت رجل ومعه حديدة قال اقتله بأي قتلة قدرت عليه وهؤلاء أباحوا قتله وإن ولى هاربا من غير جناية منهم أبو أيوب السختياني.
وخرج الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال الدار حرمك فمن دخل عليك حرمك فاقتله ولكن في إسناده ضعف ومنها قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للكفار على المسلمين وقد توقف فيه أحمد وأباح قتله طائفة من أصحاب مالك وابن عقيل من أصحابنا ومن المالكية من قال إن تكرر ذلك منه أبيح قتله واستدل من أباح قتله بقول النبي ﷺ في حق حاطب بن أبي بلتعة لما كتب الكتاب إلى أهل مكة يخبرهم بسير النبي ﷺ إليهم ويأمرهم فاستأذن عمر في قتله فقال إنه شهد بدرا فلم يقل إنه لم يأت بما يبيح دمه وإنما علل بوجود مانع من قتله وهو شهوده بدرا ومغفرة الله لأهل بدر وهذا المانع منتف في حق من بعده ومنها ما خرجه أبو داود في المراسيل من رواية ابن المسيب أن النبي ﷺ قال من ضرب أباه فاقتلوه وروي مسندا من وجه آخر لا يصح والله أعلم.
واعلم أن من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصح ولا يعرف به قائل معتبر كحديث من ضرب أباه فاقتلوه، وحديث قتل السارق في المرة الخامسة وباقي النصوص كلها يمكن ردها إلى حديث ابن مسعود وذلك أن حديث ابن مسعود يتضمن أنه لا يستباح دم المسلم إلا بإحدى ثلاث خصال إما أن يترك ويفارق جماعة المسلمين وأما أن يزني وهو محصن وإما أن يقتل نفسا بغير حق فيؤخذ منه أن قتل المسلم لا يستباح إلا بإحدى ثلاثة أنواع ترك الدين وإراقة الدم المحرم وانتهاك الفرج المحرم فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تبيح دم المسلم دون غيرها فأما انتهاك الفرج المحرم فقد ذكر في حديث أنه الزنا بعد الإحصان وهذا والله أعلم على وجه المثال فإن المحصن قد تمت عليه النعمة بنيل هذه الشهوة بالنكاح فإذا أتاها بعد ذلك من فرج محرم عليه أبيح دمه وقد ينفي شرط الإحصان فيخلفه شرط آخر وهو كون الفرج لا يستباح بحال إما مطلقا كاللواط أو في حق الواطيء كمن وطيء ذات محرم بعقد أو غيره فهذا الوصف هل يكون قائمًا مقام الإحصان وخلفا عنه هذا هو محل النزاع بين العلماء والأحاديث دالة على أنه يكون خلفا عنه ويكتفي به في إباحة الدماء وأما سفك الدم الحرام فهل يقوم مقامه إثارة الفتن المؤدية إلى سفك الدماء كتفريق جماعة المسلمين وشق العصا والمبايعة لإمام ثان ودل الكفار على عورات المسلمين هذا هو محل النزاع وقد روي عن عمر ما يدل على إباحة القتل بمثل هذا، وكذلك شهر السلاح لطلب القتل هل يقوم مقام القتل في إباحة الدم أم لا فابن الزبير وعائشة رأياه قائمًا مقام القتل الحقيقي في ذلك، وكذلك قطع الطريق بمجرده هل يبيح القتل أم لا لأنه مظنة لسفك الدماء المحرمة وقال الله عز وجل {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} يدل على أنه إنما يباح قتل النفس بشيئين أحدهما بالنفس والثاني بالفساد في الأرض ويدخل في الفساد في الأرض الحرب والردة والزنا فإن ذلك كله فساد في الأرض، وكذلك يكون شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنة سفك الدماء المحرمة وقد أجمع الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه على حده ثمانين وجعلوا السكر مظنة الافتراء والقذف الموجب لجلد الثمانين ولما قدم وفد عبدالقيس على النبي ﷺ ونهاهم عن الأشربة والانتباذ في الظروف قال إن أحدكم ليقوم إلى ابن عمه يعني إذا شرب فيضربه بالسيف، وكان فيهم رجل قد أصابته جراحة من ذلك فكان يخبؤها حياء من النبي ﷺ فهذا كله يرجع إلى إباحة الدم بالقتل إقامة لمظان القتل مقام حقيقته لكن هل نسخ ذلك أم حكمه باق وهذا هو محل النزاع وأما ترك الدين ومفارقة الجماعة فمعناه الارتداد عن دين الإسلام ولو أتى بالشهادتين فلو سب الله ورسوله ﷺ وهو مقر بالشهادتين أبيح دمه لأنه قد ترك بذلك دينه، وكذلك لو استهان بالمصحف وألقاه في القاذورات أو جحد ما يعلم من الدين بالضرورة كالصلاة وما أشبه ذلك مما يخرج من الدين وهل يقوم مقام ذلك ترك شيء من أركان الإسلام الخمس وهذا ينبني على أنه هل يخرج من الدين بالكلية بذلك أم لا فمن رآه خروجا عن الدين كان عنده كترك الشهادتين وإنكارهما ومن لم يره خروجا عن الدين فاختلفوا هل يلحق بتارك الدين في القتل لكونه ترك أحد مباني الإسلام أم لا لكونه لم يخرج عن الدين ومن هذا الباب ما قاله كثير من العلماء في قتل الداعية إلى البدع فإنهم نظروا إلى أن ذلك شبيه بالخروج عن الدين وهو ذريعة ووسيلة إليه فإن استخفى بذلك ولم يدع غيره كان حكمه حكم المنافقين إذا استخفوا وإذا دعا إلى ذلك تغلظ جرمه بإفساد دين الأمة وقد صح عن النبي ﷺ الأمر بقتال الخوارج وقتلهم وقد اختلف العلماء في حكمهم فمنهم من قال هم كفار فيكون قتلهم لكفرهم ومنهم من قال إنما يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين وتكفيرهم لهم وهو قول مالك وطائفة من أصحابنا وأجازوا الأبتداء بقتالهم والإجهاز على جريحهم ومنهم من قال إن دعوا إلى ما هم عليه قوتلوا وإن أظهروه ولم يدعوا إليه لم يقاتلوا وهو نص عن أحمد رحمه الله وإسحق وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدءوا بقتالنا وإنما يبيح قتالهم من سفك دماء ونحوه كما روي عن علي رضي الله عنه وهو قول الشافعي وكثير من أصحابنا وقد روي من وجوه متعددة أن النبي ﷺ أمر بقتل رجل كان يصلي وقال لو قتل لكان أول فتنة وآخرها وفي رواية لو قتل لم يختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال خرجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره فاستدل بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شره عن المسلمين ويحسم مادة الفتن وقد حكى ابن عبدالبر وغيره عن مذهب مالك جواز قتل الداعي إلى البدعة فرجعت نصوص القتل كلها إلى ما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه بهذا التقدير ولله الحمد وكثير من العلماء يقول في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هاهنا إنها منسوخة بحديث ابن مسعود وفي هذا نظر من وجهين أحدهما أنه لا يعلم أن حديث ابن مسعود كان متأخرا عن تلك النصوص كلها لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين وكثير من تلك النصوص يرويها من تأخر إسلامه كأبي هريرة وجرير بن عبدالله ومعاوية فإن هؤلاء كلهم رووا حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة والثاني أن الخاص لا ينسخ بالعام ولو كان العام متأخرا عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء لأن دلالة الخاص على معناه بالنص ودلالة العام عليه بالظاهر عند الأكثرين فلا يبطل الظاهر حكم النص وقد روي أن النبي ﷺ أمر بقتل رجل كذب عليه في حياته وقال لحي من العرب إن رسول الله ﷺ أرسلني وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم وهذا روي من وجوه متعددة كلها ضعيفة وفي بعضها أن هذا الرجل كان قد خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه وأنه لما قال لهم هذه المقالة صدقوه ونزل على تلك المرأة وحينئذ فهذا الرجل قد زني ونسب إباحة ذلك إلى النبي ﷺ وهذا كفر وردة عن الدين وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ أمر عليا بقتل القبطي الذي كان يدخل على أم ولده مارية، وكان الناس يتحدثون بذلك فلما وجده على مجبوبا تركه وقد حمله بعضهم على أن القبطي لم يكن أسلم بعد وأن المعاهد إذا فعل ما يؤذي المسلمين أنقض عهده فكيف إذا آذى النبي ﷺ وقال بعضهم بل كان مسلمًا ولكنه نهى عن ذلك فلم ينته حتى تكلم الناس بسببه في فراش النبي ﷺ وأذى النبي ﷺ في فراشه مبيح للدم لكن لما ظهرت براءته بالعيان تبين للناس براءة مارية فزال السبب المبيح للقتل وقد روي عن الإمام أحمد أن النبي ﷺ كان له أن يقتل بغير هذه الأسباب الثلاثة التي في حديث ابن مسعود وغيره ليس له ذلك كأنه يشير إلى أنه ﷺ كان له أن يعزر بالقتل إذا رأى ذلك مصلحة لأنه ﷺ معصوم من التعدي والحيف وأما غيره فليس له ذلك لأنه غير مأمون عليه من التعدي بالهوى قال أبو داود سمعت أحمد سئل عن حديث أبي بكر ما كانت لأحد بعد النبي ﷺ قال لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلًا إلا بإحدى ثلاث والنبي ﷺ كان له أن يقتل، وحديث أبي بكر المشار إليه هو أن رجلًا كلم أبا بكر فأغلظ له فقال له أبو برزة ألا أقتله يا خليفة رسول الله فقال أبو بكر ما كانت لأحد بعد النبي ﷺ وعلى هذا يتخرج حديث الأمر بقتل هذا القبطي ويتخرج عليه أيضًا حديث الأمر بقتل السارق إن كان صحيحا فإن فيه أن النبي ﷺ أمر بقتله في أول مرة فراجعوه فيه فقطعه ثم فعل ذلك أربع مرات وهو يأمر بقتله فيراجع فيه فيقطع حتى قطعت أطرافه الأربع ثم قتل في الخامسة والله أعلم.