الرئيسيةبحث

جامع العلوم والحكم/الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه ثم قال كف عليك هذا قلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح

هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجه من رواية معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال الترمذي حسن صحيح وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين أحدهما أنه لم يثبت سماع أبي وائل عن معاذ وإن كان قد أدركه بالسن، وكان معاذ بالشام وأبو وائل بالكوفة وما زال الأئمة كأحمد وغيره يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء قد أدركه، وكان بالكوفة وأبو الدرداء بالشام يعني أنه لم يصح منه سماع وقد حكى أبو زرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر أو نفوه فسماعه من معاذ أبعد والثاني أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر بن حوشب عن معاذ خرجه الإمام أحمد مختصرًا قال الدارقطني وهو أشبه بالصواب لأنه الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه قلت رواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه وقد خرجه الإمام أحمد من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وخرجه الإمام أحمد أيضًا من رواية عروة بن النزال بن عروة وميمون بن أبي شبيب كلاهما عن معاذ ولم يسمع عروة ولا ميمون من معاذ وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة، وقوله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار وقد تقدم في شرح الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب وغيرهما أن النبي ﷺ سئل عن مثل هذه المسئلة فأجاب بنحو ما أجاب به في حديث معاذ وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنه قال يا رسول الله إني أريد أن أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحرقتني قال سل عما شئت قال أخبرني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك غيره وهذا يدل على شدة اهتمام معاذ رضي الله عنه بالأعمال الصالحة وفيه دليل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة كما قال تعالى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} الزخرف.

وأما قوله ﷺ لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله فالمراد والله أعلم أن العمل بنفسه لا يستحق به أحد الجنة لولا أن الله عز وجل جعله بفضله ورحمته سببًا لذلك والعمل بنفسه من فضل الله ورحمته على عبده فالجنة وأسبابها كل من فضل الله ورحمته.

وقوله لقد سألت عن عظيم قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أن النبي ﷺ قال لرجل سأله عن مثل هذا لئن كنت أوجزت المسئلة لقد أعظمت وأطولت وذلك لأن دخول الجنة والنجاة من النار أمر عظيم جدًا ولأجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل وقال النبي ﷺ لرجل كيف تقول إذا صليت قال أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسئلة فقال النبي ﷺ حولها ندندن.

وفي رواية هل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار.

وقوله ﷺ وإنه ليسير على من يسره الله عليه إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل فمن يسر الله عليه الهداية اهتدى ومن لم ييسر عليه لم ييسر له ذلك قال تعالى {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} الليل وقال النبي ﷺ اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم تلا ﷺ هذه الآية، وكان النبي ﷺ يقول في دعائه واهدني ويسر الهدي لي أخبر الله عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال في دعائه {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} طه.

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيه ترتيب دخول الجنة على الإتيان بأركان الإسلام الخمسة وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، وقوله ألا أدلك على أبواب الخير لما رتب دخول الجنة على واجبات الإسلام دله بعد ذلك على أبواب الخير من النوافل فإن أفضل أولياء الله المقربين الذين يتقربون إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض، وقوله الصوم جنة هذا الكلام ثابت عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة وخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ وخرجه الإمام أحمد بزيادة وهي الصيام جنة وحصن حصين من النار وخرجه من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الصوم جنة من النار كجنة أحدكم من القتال ومن حديث جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال قال ربنا عز وجل الصيام جنة يستجن بها العبد من النار.

وخرج الإمام أحمد والنسائى من حديث أبي عبيدة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الصيام جنة ما لم تخرقها، وقوله ما لم تخرقها يعني بالكلام السيء ونحوه ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في الصحيحين عن النبي ﷺ الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل فإن امرؤ سابه فليقل إني امرؤ صائم وقال بعض السلف الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرفعه فمن استطاع منكم أن لا يأتي بصوم مخرق فليفعل.

وقال ابن المنكدر الصائم إذا اغتاب خرق وإذا استغفر رقع وخرجه الطبراني بإسناد فيه نظر عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا إن الصيام جنة ما لم يخرقها قيل بم يخرقها قال بكذب أو غيبة فالجنة هي ما يستجن به العبد كالمجن الذي يقيه عند القتال من الضرب فكذلك الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا كما قال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة فإذا كان له جنة من المعاصي كان له في الآخرة جنة من النار ومن لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي لم يكن له جنة في الآخرة من النار وخرجه ابن مردويه من حديث على مرفوعًا قال بعث الله يحيى بن زكريا إلى بني إسرائيل بخمس كلمات فذكر الحديث بطوله وفيه إن الله يأمركم أن تصوموا ومثل ذلك كمثل رجل مشى إلى عدوه وقد أخذ للقتال جنة فلا يخاف من حيث ما أتي وخرجه من وجه آخر عن علي رضي الله عنه مرفوعًا وفيه قال الصيام مثله كمثل رجل أبصره الناس فاستحد في السلاح حتى ظن أن لن يصل إليه سلاح العدو فكذلك الصيام جنة قوله ﷺ والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار هذا الكلام روي عن النبي ﷺ من وجوه أخر فخرجه الإمام أحمد والترمذى من حديث كعب بن عجرة عن النبي ﷺ قال الصوم جنة حصينة والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار وخرجه الطبراني وغيره من حديث أنس بمعناه مرفوعًا وخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث أنس عن النبي ﷺ قال إن صدقة السر لتطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء وروى عن على بن الحسين رضي الله عنهما أنه كان يحمل الخبز على ظهره بالليل يتتبع به المساكين في ظلمة الليل ويقول إن الصدقة في ظلام الليل تطفئ غضب الرب عز وجل وقد قال الله تعالى {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} البقرة فدل على أن الصدقة تكفر بها السيئات إما مطلقات أو صدقة السر.

وقوله ﷺ وصلاة الرجل في جوف الليل يعني أنها تطفيء الخطيئة أيضًا كالصدقة ويدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من رواية عروة بن النزال عن معاذ رضي الله عنه قال أقبلت مع النبي ﷺ من غزوة تبوك فذكر الحديث وفيه إن الصوم جنة والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل وقد روي عن جماعة من الصحابة أن الناس يحرقون بالنهار من الذنوب وكلما قاموا إلى صلاة من الصلوات المكتوبات أطفأوا ذنوبهم وروى ذلك مرفوعًا من وجوه فيها نظر، وكذلك قيام الليل يكفر الخطايا لأنه أفضل نوافل الصلاة وفي الترمذي من حديث بلال رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله عز وجل ومنهاة عن الإثم وتكفير السيئات ومطردة للداء عن الجسد وخرجه أيضًا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي ﷺ بنحوه وقال هو أصح من حديث بلال وخرجه الحاكم وابن خزيمة في صحيحيهما من حديث أبي أمامة أيضًا.

وقال ابن مسعود فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية وخرجه أبو نعيم عنه مرفوعًا والموقوف أصح وقد تقدم أن صدقة السر تطفيء الخطيئة وتطفيء غضب الرب فكذلك صلاة الليل، وقوله ﷺ ثم تلا قوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} السجدة حتى بلغ يعملون.

يعني أن النبي ﷺ تلا هاتين الآيتين عند ذكره فضل صلاة الليل ليبين بذلك فضل صلاة الليل.

وقد روي عن أنس رضي الله عنه أن هذه الآية نزلت في انتظار صلاة العشاء خرجه الترمذي وصححه وروي عنه أنه قال في هذه الآية كانوا ينتظرون بين المغرب والعشاء خرجه أبو داود وروى نحوه عن بلال وخرجه البزار بإسناد ضعيف وكل هذا يدخل في عموم لفظ الآية فإن الله مدح الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لدعائه فيشمل ذلك كله من ترك النوم بالليل لذكر الله ودعائه فيدخل فيه من صلى بين العشاءين ومن انتظر صلاة العشاء فلم يقم حتى يصليها لا سيما مع حاجته إلى النوم ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة وقد قال النبي ﷺ لمن انتظر صلاة العشاء إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة ويدخل فيه من نام ثم قام من نومه بالليل للتهجد وهو أفضل أنواع التطوع بالصلاة مطلقا وربما دخل فيه من ترك النوم عند طلوع الفجر وقام إلى أداء صلاة الصبح لا سيما مع غلبة النوم عليه ولهذا شرع للمؤذن في أذان الفجر أن يقول في أذانه الصلاة خير من النوم.

وقوله ﷺ وصلاة الرجل في جوف الليل ذكر أفضل أوقات التهجد بالليل وهو جوف الليل.

وخرج النسائي والترمذى من حديث أبي أمامة قيل يارسول الله أي الدعاء أسمع قال جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات وخرجه ابن أبي الدنيا ولفظه جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال أي الصلاة أفضل قال جوف الليل الأوسط قال أي الدعاء أسمع قال دبر المكتوبات.

وخرج النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال سألت النبي ﷺ أي الليل خير قال خير الليل جوفه.

وخرجه الإمام أحمد من حديث أبي مسلم قال قلت لأبي ذر أي قيام الليل أفضل قال سألت النبي ﷺ كما سألتني فقال جوف الليل الغابر أو نصف الليل وقليل فاعله وخرجه البزار والطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال سئل النبي ﷺ أي الليل أجوب دعوة قال جوف الليل زاد البزار في روايته الأخرى وخرجه الترمذي من حديث عمرو بن عبسة سمعت النبي ﷺ يقول أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن وصححه وخرجه الإمام أحمد ولفظه قال قلت يا رسول الله أي الساعات أفضل قال جوف الليل الآخر وفي رواية له أيضًا وقال جوف الليل الآخر أجوب دعوة وفي رواية له قلت يارسول الله هل من ساعة أقرب إلى الله من ساعة أخري قال جوف الليل الآخر وخرجه ابن ماجه وعنده جوف الليل الأوسط وفي رواية الإمام أحمد عن عمر بن عبسة قال قلت يا رسول الله هل من ساعة أفضل من ساعة قال إن الله لينزل في جوف الليل فيغفر إلا ما كان من الشرك وقد قيل إن جوف الليل إذا أطلق فالمراد به وسطه وإن قيل جوف الليل الآخر فالمراد به وسط النصف الثاني وهو السدس الخامس من أسداس الليل وهو الوقت الذي ورد فيه النزول الإلهي، وقوله ﷺ ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يارسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد وفي رواية الإمام أحمد من رواية شهر بن حوشب عن ابن غنم عن معاذ رضي الله عنه قال قال لي رسول الله ﷺ إن شئت حدثتك برأس هذا الأمر وقوام هذا الدين وذروة السنام قلت بلى فقال نبي الله ﷺ إن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وإن قوام هذا الأمر إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله وإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل وقال رسول الله ﷺ والذي نفس محمد بيده ما شج وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغي به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كالجهاد في سبيل الله عز وجل ولا ثقل ميزان عبد كالدابة تنفق له في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله عز وجل فأخبرني النبي ﷺ عن ثلاثة أشياء رأس الأمر وعموده وذروة سنامه فأما رأس الأمر فيعني بالأمر الدين الذي بعث به وهو الإسلام وقد جاء تفسيره في رواية أخرى بالشهادتين فمن لم يقر بهما باطنا وظاهرا فليس من الإسلام في شيء وأما قوام الدين الذي يقوم به الدين كما يقوم الفسطاط على عموده فهي الصلاة وفي الرواية الأخرى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما سبق القول في أركان الإسلام وارتباط بعضها ببعض وأما ذروة سنامه وهو أعلى ما فيه وأرفعه فهو الجهاد وهذا يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء، وقوله في رواية الإمام أحمد والذي نفس محمد بيده ما شحت وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغي به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كالجهاد في سبيل الله عز وجل يدل على ذلك صريحا.

وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال إيمان بالله ثم جهاد في سبيل الله وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أفضل الأعمال إيمان بالله ثم جهاد في سبيل الله والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا، وقوله ﷺ ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسان نفسه ثم قال كف عليك هذا إلى آخر الحديث هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت وفي شرح حديث قل آمنت بالله ثم استقم وخرجه البزار في مسنده من حديث أبي اليسر أن رجلًا قال يارسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال أمسك هذا وأشار إلى لسانه فأعادها عليه فقال ثكلتك أمك هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم وقال إسناده حسن والمراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام المحرم وعقوباته فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما زرع فمن زرع خيرًا من قول أو عمل حصد الكرامة ومن زرع شرًا من قول أو عمل حصد غدا الندامة وظاهر حديث معاذ يدل على أن أكثر ما يدخل الناس به النار النطق بألسنتهم فإن معصية النطق يدخل فيها الشرك وهي أعظم الذنوب عند الله عز وجل ويدخل فيها القول على الله بغير علم وهو قرين الشرك ويدخل فيها شهادة الزور التي عدلت الإشراك بالله عز وجل ويدخل فيها السحر والقذف وغير ذلك من الكبائر والصغائر كالكذب والغيبة والنميمة وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالبًا من قول يقترن بها يكون معينا عليها.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفم والفرج خرجه الإمام أحمد والترمذى.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب وخرجه الترمذي ولفظه إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفا في النار.

وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر دخل على أبي بكر رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه فقال عمر مه غفر الله لك فقال أبو بكر هذا الذي أوردني الموارد.

وقال ابن بريدة رأيت ابن عباس رضي الله عنهما أخذ بلسانه وهو يقول ويحك قل خيرًا تغنم أو اسكت عن سوء تسلم وإلا فاعلم أنك ستندم قال فقيل له يا ابن عباس لم تقول هذا قال إنه بلغني أن الإنسان أراه قال ليس على شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا يوم القيامة منه على لسانه إلا من قال به خيرًا أو أملي به خيرًا.

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لساني وقال الحسن اللسان أمير البدن فإذا جنى على الأعضاء شيئًا جنت وإذا عف عفت وقال يونس بن عبيد ما رأيت أحدًا لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صالحًا في سائر عمله وقال يحيى بن أبي كثير ما صلح منطق رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله ولا فسد منطق رجل قط إلا عرفت ذلك في سائر عمله.

وقال ابن المبارك عن فضالة عن يونس بن عبيد رحمهم الله لا تجد شيئًا من البر واحدًا يتبعه البر كله غير اللسان فإنك تجد الرجل يصوم النهار ويفطر على حرام ويقوم الليل ويشهد الزور بالنهار وذكر أشياء نحو هذا ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك عمله أبدًا.
جامع العلوم والحكم
المقدمة | الحديث الأول | الحديث الثاني | الحديث الثالث | الحديث الرابع | الحديث الخامس | الحديث السادس | الحديث السابع | الحديث الثامن | الحديث التاسع | الحديث العاشر | الحديث الحادي عشر | الحديث الثاني عشر | الحديث الثالث عشر | الحديث الرابع عشر | الحديث الخامس عشر | الحديث السادس عشر | الحديث السابع عشر | الحديث الثامن عشر | الحديث التاسع عشر | الحديث العشرون | الحديث الحادي والعشرون | الحديث الثاني والعشرون | الحديث الثالث والعشرون | الحديث الرابع والعشرون | الحديث الخامس والعشرون | الحديث السادس والعشرون | الحديث السابع والعشرون | الحديث الثامن والعشرون | الحديث التاسع والعشرون | الحديث الثلاثون | الحديث الحادي والثلاثون | الحديث الثاني والثلاثون | الحديث الثالث والثلاثون | الحديث الرابع والثلاثون | الحديث الخامس والثلاثون | الحديث السادس والثلاثون | الحديث السابع والثلاثون | الحديث الثامن والثلاثون | الحديث التاسع والثلاثون | الحديث الأربعون | الحديث الحادي والأربعون | الحديث الثاني والأربعون | الحديث الثالث والأربعون | الحديث الرابع والأربعون | الحديث الخامس والأربعون | الحديث السادس والأربعون | الحديث السابع والأربعون | الحديث الثامن والأربعون | الحديث التاسع والأربعون | الحديث الخمسون