الحديث الثامن والعشرون |
عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة . رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
هذا الحديث خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبدالرحمن بن عمرو السلمي رضي الله عنه زاد أحمد في رواية له وأبو داود وحجر بن حجر الكلاعي كلاهما عن العرباض رضي الله عنه وقال الترمذي حسن صحيح وقال الحافظ أبو نعيم هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين قال ولم يترك له البخاري ومسلم من جهة إنكار منهما له وزعم الحاكم أن سبب تركهما له أنهما توهما أنه ليس له راو عن خالد بن معدان عن ثور بن يزيد وقد رواه عنه أيضًا بجير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما قلت ليس الأمر كما ظنه وليس الحديث على شرطهما فإنما لم يخرجا لعبد الرحمن بن عمرو السلمي ولا لحجر الكلاعي شيئًا وليس ممن اشتهر بالعلم والرواية وأيضا فقد اختلف فيه على خالد بن معدان فروي عنه كما تقدم وروي عنه ابن عمرو عن أبي بلال عن العرباض وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه أيضًا عن ضمرة بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض خرجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه وزاد في حديثه فقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وزاد في آخر الحديث فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد وقد أنكر طائفة من الحفاظ هذه الزيادة في آخر الحديث وقالوا هي مدرجة فيه وليست منه قاله أحمد بن صالح المصري وغيره وقد خرجه الحاكم وقال في حديثه، وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث فإن المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد وخرجه ابن ماجه أيضًا من رواية عبدالله بن العلاء بن زبير حدثني يحيى بن أبي المطاع سمعت العرباض فذكره وهذا في الظاهر إسناد جيد متصل ورواته ثقات مشهورون وقد صرح فيه بالسماع وقد ذكر البخاري في تاريخه أن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتمادا على هذه الرواية إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك وقالوا يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ولم يلقه وهذه الرواية غلط وممن ذكر ذلك زرعة الدمشقي وحكاه عن دحيم وهؤلاء أعرف بشيوخهم من غيرهم والبخاري رحمه الله يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام وقد روي عن العرباض من وجوه أخر وروي من حديث بريدة عن النبي ﷺ إلا أن إسناد بريدة لا يثبت والله أعلم.
فقول العرباض وعظنا رسول الله ﷺ وفي رواية الإمام أحمد وأبي داود والترمذي بليغة وفي روايتهم أن ذلك بعد صلاة الصبح، وكان النبي ﷺ كثيرًا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة كخطب الجمع والأعياد وقد أمره الله عز وجل بذلك فقال تعالى {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} النساء وقال تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} النمل.
ولكنه كان لا يديم وعظهم بل يتخولهم بها أحيانا كما في الصحيحين عن أبي وائل قال كان عبدالله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس فقال له رجل يا أبا عبدالرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك تحدثنا كل يوم فقال ما يمنعني أن أحدثكم كل يوم إلا كراهة أن أملكم إن رسول الله ﷺ كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علنيا والبلاغة في الموعظة مستحسنة لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها والبلاغة هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها وأفصحها وأحلاها لدى أسماع وأوقعها في القلوب.
وكان النبي ﷺ يقصر الخطبة ولا يطيلها بل كان يبلغ ويوجز.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كنت أصلي مع النبي ﷺ فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا وخرجه أبو داود ولفظه كان رسول الله ﷺ لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات وخرجه مسلم من حديث أبي وائل قال خطبنا عمار رضي الله عنه فأوجز وأبلغ فلما نزل قلنا يا أبا اليقظا لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست قال إني سمعت رسول الله ﷺ يقول إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيل الصلاة وأقصر الخطبة فإن من البيان سحرا.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث الحاكم بن حزم رضي الله عنه قال شهدت مع رسول الله ﷺ الجمعة فقام متوكئا على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات.
وخرج أبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رجلًا قام يومًا فأكثر القول فقال عمرو فلو قصد في قوله لكان خيرًا له سمعت رسول الله ﷺ يقول لقد رأيت أو أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير، وقوله ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عند سماع الذكر كما قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} الأنفال وقال {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} الحديد وقال تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر وقال تعالى {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} المائدة.
وكان النبي ﷺ يتغير حاله عند الموعظة كما قال جابر كان النبي ﷺ إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته واحمرت عيناه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم خرجه مسلم بمعناه.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أن بين يديها أمورا عظاما ثم قال من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه فوالله ما تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به في مقامي هذا قال أنس فأكثر الناس البكاء وأكثر رسول الله ﷺ يقول سلوني فقام إليه رجل فقال أين مدخلي يا رسول الله قال النار وذكر الحديث.
وفي مسند الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه خطب فقال سمعت رسول الله ﷺ يخطب يقول أنذرتكم النار حتى لو أن رجلًا كان بالسوق لسمع من مقامي هذا قال حتى وقعت خميصته على عاتقه عند رجليه.
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ اتقوا النار قال ثم أعرض وأشاح ثم قال اتقوا النار قال ثم أعرض وأشاح ثلاثًا حتى قلت إنه ينظر إليها ثم قال اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة.
وخرجه الإمام أحمد من حديث عبدالله بن سلمة عن على أو عن الزبير بن العوام قال كان رسول الله ﷺ يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى يعرف ذلك في وجهه وكأنه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة، وكان إذا كان حديث عهد بجبرائيل لم يتبسم ضاحكا حتى يرتفع عنه.
وخرج الطبراني والبزار من حديث جابر قال كان النبي ﷺ إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت نذير قوم أتاهم العذاب فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجها وأكثرهم ضحكا وأحسنهم بشرا ﷺ، وقوله فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودعة فأوصنا يدل على أنه كان ﷺ قد أبلغ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها فلذلك فهموا أنها موعظة مودع فإن المودع يستقصي ما لم يستقص غيره في القول والفعل ولذلك أمر النبي ﷺ أن يصلي صلاة مودع لأنه من استشعر أنه مودع بصلاته أتقنها على أكمل وجوهها وربما كان قد وقع منه ﷺ تعريض في تلك الخطبة بالتوديع كما عرض بذلك في خطبته في حجة الوداع وقال لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا وطفق يودع الناس فقالوا هذه حجة الوداع ولما رجع من حجه إلى المدينة جمع الناس بماء بين مكة والمدينة يسمى خما وخطبهم وقال يا أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته خيرًا خرجه مسلم.
وفي الصحيحين ولفظه لمسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال صلى رسول الله ﷺ على قتلى أحد ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات فقال إني فرطكم على الحوض فإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخشى عليكم الدنيا تتنافسوا فيها فتقتتلون فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة رضي الله عنه فكان آخر ما رأيت رسول الله ﷺ على المنبر.
وخرج الإمام أحمد ولفظه صلي رسول الله ﷺ على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال أيها الناس إني فرطكم وأنا شهيد عليكم وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه ولست أخشى عليكم الفقر ولكن الدينا أن تنافسوها.
وخرج الإمام أحمد أيضًا عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله ﷺ يومًا كالمودع فقال أنا محمد النبي الأمي قال ذلك ثلاث مرات ولا نبي بعدي أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه وعلمتكم خزنة النار وحملة العرش وتجوز لي ربي وعوفيت أمتي فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه فلعل في الخطبة التي أشار إليها العرباض بن سارية في حديثه كانت بعض هذه الخطبة أو شبيهة بها ما يشعر بالتوديع وقولهم أوصنا يعنون وصية جامعة كافية فإنهم لما فهموا أنه مودع استوصوه وصية ينفعهم بها التمسك بعده ويكون فيها كفاية لمن تمسك بها وسعادة له في الدنيا والآخرة، وقوله ﷺ أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة فهاتان الكلمتان يجمعان سعادة الدنيا والآخرة أما التقوى فهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها وهي وصية الله للأولين والآخرين كما قال تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ} وقد سبق في شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث النبي ﷺ لمعاذ رضي الله عنه وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر إن كان فاجرا عبدالمؤمن فيه ربه وحمل الفاجر فيها إلى أجله وقال الحسن في الأمراء هم يلون من أمورنا خمسا الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا أو ظلموا والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون مع أن والله إن طاعتهم لغيظ وإن فرقتهم لكفر.
وخرج الخلال في كتاب الإمارة من حديث أبي أمامة قال أمر رسول الله ﷺ أصحابه حين صلوا العشاء أن احشدوا فإن لي إليكم حاجة فلما فرغوا من صلاة الصبح قال هل حشدتم كما أمرتكم قالوا نعم قال اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا هل عقلتم هذه ثلاثًا قلنا نعم قال فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة هل عقلتم هذه ثلاثًا قلنا نعم قال اسمعوا وأطيعوا هل عقلتم هذه ثلاثًا قلنا نعم قال فكنا نرى أن رسول الله ﷺ سيتكلم كلاما طويلا ثم نظرنا في كلامه فإذا هو قد جمع لنا الأمر كله في هذين الأصلين وصى النبي ﷺ في حجة الوداع في خطبته أيضًا كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من رواية أم الحصين الأحمسية قالت سمعت رسول الله ﷺ يخطب في حجة الوداع فسمعته يقول يا أيها الناس اتقوا الله وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله.
وخرج مسلم منه ذكر السمع والطاعة.
وخرج الإمام أحمد والترمذي أيضًا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يخطب في حجة الوداع يقول اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة ما لكم وأطيعوا إذ أمركم تدخلوا جنة ربكم وفي رواية أخرى قال يا أيها الناس إنه لا نبي بعد ولا أمة بعدكم وذكر الحديث بمعناه.
وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من لقي الله لا يشرك به شيئًا وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسبا وسمع وأطاع فله الجنة، وقوله ﷺ ولو تأمر عليكم عبد وفي رواية حبشي هذا مما تكاثرت به الروايات عن النبي ﷺ وهو مما اطلع عليه النبي ﷺ من أمر أمته بعده وولاية العبيد عليهم وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كان رأسه زبيبة وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال إن خليلي ﷺ أوصاني أن أسمع وأطيع ولو كان عبدًا حبشيا مجدع الأطراف والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًا ولا ينافي هذا قوله ﷺ لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان، وقوله ﷺ الناس تبع لقريش، وقوله الأئمة من قريش لا ولاية للعبيد قد تكون من جهة إمام قريش ويشهد لذلك ما أخرجه الحاكم من حديث علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الأئمة من قريش أبرارها أمراء أبرارها وفجارها أمراء فجارها ولكل حق فآتوا كل ذي حق حقه وإن أمرت قريش فيكم عبدًا حبشيا فاسمعوا له وأطيعوا وإسناده جيد ولكنه روي عن على موقوفا وقال الدارقطني هو أشبه وقد قيل إن العبد الحبشي إنما ذكره على وجه ضرب المثل وإن لم يصح وقوعه كما قال النبي ﷺ فيمن بنى مسجدا ولو كمحفص قطاة، وقوله ﷺ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ هذا إخبار منه ﷺ بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه وفي الأعمال والأقوال والاعتقادات وهذا موافق لما روي عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة وأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة وهي ما كان عليه وأصحابه ولذلك في هذا الحديث أمر عند الافتراق والاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده والسنة هي الطريق المسلوك فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال وهذه هي السنة الكاملة ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله وروي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد إلا أنها أصل الدين والمخالف فيها على خطر عظيم وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسمع والطاعة لأولي الأمر إشارة إلى أنه لا طاعة لأولي الأمر في غير طاعة الله كما صح عنه ﷺ أنه قال إنما الطاعة في المعروف.
وفي المسند عن أنس أن معاذ بن جبل رضي الله عنهما قال يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ولا يأخذون بأمرك فما تأمر في أمرهم فقال رسول الله ﷺ لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل وخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة بالبدعة ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فقلت يا رسول الله وإن أدركتهم كيف أفعل قال لا طاعة لم عصى الله وفي أمره ﷺ باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع السنة بخلاف غيرهم من ولاة الأمور.
وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال كنا عند النبي ﷺ جلوسا فقال إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه وفي رواية فتمسكوا بعهد ابن أم عبد واهتدوا بهدي عمار فنص رسول الله ﷺ في آخر عمره على من يقتدي به من بعده والخلفاء الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم فإن في حديث سفينة عن النبي ﷺ والخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا وقد صحيح الإمام أحمد واحتج به على خلافة الأئمة الأربعة ونص كثير من الأئمة على أن عمر بن عبدالعزيز خليفة راشد أيضًا ويدل عليه ما خرجه الإمام أحمد من حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبوة ﷺ قال تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبي فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله ثم تكون ملكا عاضا ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج نبوة ثم سكت فلما ولي عمر بن عبدالعزيز دخل عليه رجل فحدثه بهذا الحديث فسر به وأعجبه، وكان محمد بن سيرين يسئل أحيانا عن شيء من الأشربة فيقول نهى عنه إمام هدي عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ورحمه وقد اختلف العلماء في إجماع الخلفاء الأربعة هل هو إجماع أو حجة مع مخالفة غيرهم من الصحابة أم لا وفيه روايتان عن الإمام أحمد وحكم أبو حازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام ولم يعتد بمن خالف الخلفاء وأنفذ حكمه في ذلك في الآفاق ولو قال بعض الخلفاء الأربعة قولًا ولم يخالفه أحد بل خالفه غيره من الصحابة فهل يقدم قوله على قول غيره فيه قولان أيضًا للعلماء والمنصوص عن أحمد أنه يقدم قوله على قول غيره من الصحابة وكذا ذكره الخطابي وغيره وكلام أكثر السلف يدل على ذلك خصوصًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه روي عن النبي ﷺ من وجوه أنه قال إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وكان عمر بن عبد العزيز يتبع أحكامه ويستدل بقول النبي ﷺ إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقال مالك قال عمر بن عبد العزيز سن رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله وليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها من اهتدى بها فهو المهتدي ومن استنصر بها فهو المنصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا وحكى عبدالله بن عبد الحكم عن مالك أنه قال أعجبني عزم عمر على ذلك يعني هذا الكلام وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الكلام عن مالك ولم يحكه عن عمر وقال خلف بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة فقال في خطبته ألا إن ما سن رسول الله ﷺ وصاحباه فهو وظيفة دين نأخذ به وننتهي إليه وروى أبو نعيم من حديث عزوب الكندي أن رسول الله ﷺ قال إنه سيحدث بعدي أشياء فاجتهدوا إلى أن تلزموا ما أحدث عمر، وكان علي رضي الله عنه يتبع قضاياه وأحكامه ويقول إن عمر كان رشيد الأمر وروى الأشعث عن الشعبي قال إذا اختلف الناس في شيء فانظروا فيه كيف قضى عمر فإنه لم يكن يقضي عمر في أمر لم يقض فيه قلبه حتى يشاور وقال مجاهد إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به وقال أيوب عن الشعبي انظروا ما اجتمعت عليه أمة محمد ﷺ فإن الله لم يكن يجمعها على ضلالة فإذا اختلفت فانظروا ما صنع عمر بن الخطاب فخذوا به وسئل عكرمة عن أم الولد فقال تعتق بموت سيدها قيل له بأي شيء تقول قال بالقرآن قال بأي القرآن قال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم النساء وعمر رضي الله عنه من أولي الأمور وقال وكيع إذا اجتمع عمر وعلي على شيء فهو الأمر وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يحلف أن الصراط المستقيم هو الذي ثبت عليه عمر رضي الله عنه وبكل حال فما جمع عمر عليه الصحابة فاجتمعوا عليه في عصره فلا شك أنه الحق ولو خالفه من بعد ذلك من خالفه كقضائه في مسائل من الفرائض كالعول وفي زوج وأبوين وزوجة وأبوين أن للأم ثلث الباقي وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ومثل ما قضى به في امرأة المفقود ووافقه غيره من الخلفاء أيضًا ومثل ما جمع عليه الناس في الطلاق الثلاث وفي تحريم متعة النساء ومثل ما فعله من وضع الديوان ووضع الخراج على أرض العنوة وعقد الذمة لأهل الذمة بالشروط التي شرطها عليهم ونحو ذلك ويشهد لصحته ما جمع عليه عمر أصحابه فاجتمعوا عليه رضي الله عنهم ولم يخالف في وقته قول النبي ﷺ رأيتني في المنام أنزع على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا فلم أر أحدًا يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن وفي رواية فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع ابن الخطاب وفي رواية أخرى حتى تولى الحوض يتفجر وهذا إشارة إلى أن عمر لم يمت حتى وضع الأمور في مواضعها واستقامت الأمور وذلك لطول مدته وتفرغه للحوادث واهتمامه بها بخلاف مدة أبي بكر فإنها كانت قصيرة، وكان مشغولا فيها بالفتوح وبعث البعوث للقتال فلم يتفرغ لكثير من الحوادث وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلغه ولا يرفع إليه حتى رفعت تلك الحوادث إلى عمر فرد الناس فيها إلى الحق وحملهم على الصواب رضي الله عنه وعن أبي بكر وعن الصحابة أجمعين وأما ما لم يجمع عمر الناس عليه بل كان له فيه رأي وهو يسوغ لغيره أن يرى رأيا يخالف رأيه كمسائل الجد مع الإخوة ومسئلة طلاق البتة فلا يكون قول عمر فيه حجة على غيره من الصحابة والله أعلم.
وإنما وصف الخلفاء بالراشدين لأنهم عرفوا الحق وقضوا به والراشد ضد الغاوي والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه وفي رواية المهديين يعني أن الله يهديهم للحق ولا يضلهم عنه فالأقسام ثلاثة راشدٍ وغاوٍ وضالٍ فالراشد عرف الحق واتبعه والغاوي عرفه ولم يتبعه والضال لم يعرفه بالكلية فكل راشد فهو مهتد وكل مهتد هداية تامة فهو راشد لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضًا.
وقوله عضوا عليها بالنواجذ كناية عن شدة التمسك بها والنواجذ الأضراس قوله وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة وأكد ذلك بقوله كل بدعة ضلالة والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ كان يقول في خطبته إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن عبدالله المزني وفيه ضعف عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ولا رسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا.
وخرج الإمام أحمد من رواية غضيف بن الحارث الشمالي قال بعث إلى عبد الملك بن مروان فقال إنا قد جمعنا الناس على أمرين رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقصص بعد صلاة الصبح والعصر فقال أما إنهما أمثل بدعتكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منها لأن النبي ﷺ قال ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة وقد روى ابن عمر رضي الله عنه من قوله نحو هذا فقوله ﷺ كل بدعة ضلالة من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين وهو شبيه بقوله ﷺ من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد.
وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال نعمت البدعة هذه وروي عنه أنه قال إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة وروى عن أبي بن كعب قال له إن هذا لم يكن فقال عمر قد علمت ولكنه حسن ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليها فمنها أن النبي ﷺ كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا وهو ﷺ صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم فيعجزوا عن القيام به وهذا قد أمن بعده ﷺ وروي عنه ﷺ أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الإفراد في العشر الأواخر ومنها أنه ﷺ أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن ذلك أذان الجمعة الأول زاده عثمان لحاجة الناس إليه وأقره واستمر عمل المسلمين عليه وروى عن ابن عمر أنه قال هو بدعة ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام شهر رمضان ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد توقف فيه زيد بن ثابت وقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كيف تفعلان ما لم يفعله النبي ﷺ ثم علم أنه مصلحة فوافق على جمعه وقد كان النبي ﷺ يأمر بكتابة الوحي ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا بل جمعه صار أصلح، وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة وقد استحسنه على وأكثر الصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك عين المصلحة، وكذلك قتال من منع الزكاة توقف فيه عمر وغيره حتى بين له أبو بكر أصله الذي يرجع إليه من الشريعة فوافقه الناس على ذلك ومن ذلك القصص وقد سبق قول غضيف بن الحارث إنه بدعة وقال الحسن إنه بدعة ونعمت البدعة كم من دعوة مستجابة وحاجة مقضية وأخ مستفاد وإنما عني هؤلاء بأنه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين فإن النبي ﷺ لم يكن له وقت معين يقص على أصحابه فيه غير خطبته الراتبة في الجمع والأعياد وإنما كان يذكرهم أحيانا أو عند حدوث أمر يحتاج إلى التذكير عنده ثم إن الصحابة رضي الله عنهم اجتمعوا على تعيين وقت له كما سبق عن ابن مسعود أنه كان يذكر أصحابه كل يوم خميس وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال حدث الناس في كل جمعة مرة فإن أبيت فمرتين فإن أكثرت فثلاثا ولا تمل الناس.
وفي المسند عن عائشة رضي الله عنها أنها وصت قاص أهل المدينة بمثل ذلك وروى عنها أنها قالت لسعيد بن عمير حدث الناس يومًا ودع الناس يومًا وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القاص أن يقص كل ثلاثة أيام مرة وروي عنه أنه قال روح الناس ولا تثقل عليهم ودع القصص يوم السبت ويوم الثلاثاء وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناد عن إبراهيم بن الجنيد قال سمعت الشافعي يقول البدعة بدعتان بدعة محمودة وبدعة مذمومة فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم واحتج بقول عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هي ومراد الشافعي رضي الله عنه ما ذكرناه من قبل أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه وهي البدعة في إطلاق الشرع وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة يعني ما كان لها أصل من السنة ترجع إليه وإنما هي بدعة لغة لا شرعا لموافقتها السنة وقد روي عن الشافعي كلام آخر يفسر هذا وأنه قال المحدثات ضربان ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة وما أحدث فيه من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا وهذه محدثة غير مذمومة وكثير من الأمور التي أحدثت ولم يكن قد اختلف العلماء في أنها بدعة حسنة حتى ترجع إلى السنة أم لا فمنها كتابة الحديث نهى عنه عمر وطائفة من الصحابة ورخص فيها الأكثرون واستدلوا له بأحاديث من السنة ومنها كتابة تفسير الحديث والقرآن كرهه قوم من العلماء ورخص فيه كثير منهم، وكذلك اختلافهم في كتابه الرأي في الحلال والحرام ونحوه وفي توسعة الكلام في المعاملات وأعمال القلوب التي لم تنقل عن الصحابة والتابعين، وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك وفي هذه الأزمان التي بعد العهد فيها بعلوم السلف يتعين ضبط ما نقل عنهم من ذلك كله ليتميز به ما كان من العلم موجودًا في زمانهم وما أحدث في ذلك بعدهم فيعلم بذلك السنة من البدعة وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالعهد الأول وابن مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين وروى ابن حميد عن مالك قال لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان، وكان مالك يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات من أمور الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم أو في تخليدهم في النار أو في تفسيق خواص هذه الأمة أو عكس ذلك من زعم أن المعاصي لا تضر أهلها وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال الله تعالى في قضائه وقد مرد وكذب بذلك من كذب وزعم أنه نزه الله بذلك عن الظلم وأصعب من ذلك ما حدث من الكلام في ذات الله وصفاته مما سكت عنه النبي ﷺ والصحابة والتابعون لهم بإحسان فقوم نفوا كثيرًا مما أورد في الكتاب والسنة من ذلك وزعموا أنهم فعلوا تنزيها لله عما تقتضيه العقول بتنزيهه عنه وزعموا أن لازم ذلك لمستحيل على الله عز وجل وقوم لم يكتفوا بإثباته حتى أثبتوا ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين وهذه اللوازم نفيا وإثباتا درج صدر الأمة على السكوت عنها ومما حدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلام في الحلال والحرام بمجرد الرأي ورد كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته الرأي والأقيسة العقلية ومما حدث بعد ذلك الكلام في الحقيقة بالذوق والكشف وزعم أن الحقيقة تنافي الشريعة وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة وأنه لا حاجة إلى الأعمال وأنها حجاب أو أن الشريعة إنما يحتاج إليها العوام وربما انضم إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يعلم قطعا مخالفته الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.