الرئيسيةبحث

البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة تسع وسبعين وستمائة


ثم دخلت سنة تسع وسبعين وستمائة


كان أولها يوم الخميس ثالث أيار، والخليفة الحاكم بأمر الله وملك مصر الملك المنصور قلاوون الصالحي، وبعض بلاد الشام أيضا، وأما دمشق وأعمالها فقد ملكها سنقر الأشقر، وصاحب الكرك الملك المسعود بن الظاهر، وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، والعراق وبلاد الجزيرة وخراسان والموصل وإربل وأذربيجان وبلاد بكر وخلاط وما والاها وغير ذلك من البلاد بأيدي التتار، وكذلك بلاد الروم في أيديهم أيضا.

ولكن فيها غياث الدين بن ركن الدين، ولا حكم له سوى الاسم وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وصاحب الحرم الشريف نجم الدين بن أبي نمي الحسني، وصاحب المدينة عز الدين جماز بن شيحه الحسيني.

ففي مستهل السنة المذكورة ركب السلطان الملك الكامل سنقر الأشقر من القلعة إلى الميدان وبين يديه الأمراء ومقدموا الحلقة الفاشية، وعليهم الخلع والقضاة والأعيان ركاب معه، فسير في الميدان ساعة ثم رجع إلى القلعة، وجاء إلى خدمته الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب، فقّبل الأرض بين يديه، وجلس إلى جانبه وهو على السماط، وقام له الكامل، وكذلك جاء إلى خدمته ملك الأعراب بالحجاز، وأمر الكامل سنقر أن تضاف البلاد الحلبية إلى ولاية القاضي شمس الدين بن خلكان، وولاه تدريس الأمينية وانتزعها من ابن سني الدولة.

ولما بلغ الملك المنصور بالديار المصرية ما كان من أمر سنقر الأشقر بالشام أرسل إليه جيشا كثيفا فهزموا عسكر سنقر الأشقر الذي كان قد أرسله إلى غزة، وساقوهم بين أيديهم حتى وصل جيش المصريين إلى قريب دمشق، فأمر الملك الكامل أن يضرب دهليزه بالجسورة، وذلك في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، ونهض بنفسه وبمن معه فنزل هنالك واستخدم خلقا كثيرا وأنفق أموالا جزيلة.

وأنضاف إليه عرب الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، وشهاب الدين أحمد بن حجي، وجاءته نجدة حلب ونجدة حماة ورجال كثيرة من رجال بعلبك، فلما كان يوم الأحد السادس عشر من صفر أقبل الجيش المصري صحبة الأمير علم الدين سنجر الحلبي، فلما تراءى الجمعان وتقابل الفريقان وتقاتلوا إلى الرابعة في النهار، فقتل نفر كثير وثبت الملك الكامل سنقر الأشقر ثباتا جيدا، ولكن خامر عليه الجيش فمنهم من صار إلى المصري ومنهم من انهزم في كل وجه.

وتفرق عنه أصحابه فلم يسعه إلا الانهزام على طريق المرح في طائفة يسيرة، في صحبة عيسى بن مهنا، فسار بهم إلى برية الرحبة فأنزلهم في بيوت من شعر، وأقام بهم وبدوابهم مدة مقامهم عنده.

ثم بعث الأمراء الذين انهزموا عنه فأخذوا لهم أمانا من الأمير سنجر، وقد نزل في ظاهر دمشق وهي مغلوقة، فراسل نائب القلعة ولم يزل به حتى فتح باب الفرج من آخر النهار، وفتحت القلعة من داخل البلد فتسلمها للمنصور وأفرج عن الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالحالق، والأمير لاجين حسام الدين المنصوري وغيرهم من الأمراء الذين كان قد اعتقلهم الأمير سنقر الأشقر وأرسل سنجر البريدية إلى الملك المنصور يعلمونه بصورة الحال.

وأرسل سنجر بثلاثة آلاف في طلب سنقر الأشقر.

وفي هذا اليوم جاء ابن خلكان ليسلم على الأمير سنجر الحلبي فاعتقله في علو الخانقاه النجيبية، وعزله في يوم الخميس العشرين من صفر، ورسم للقاضي نجم الدين بن سني الدولة بالقضاء فباشره.

ثم جاءت البريدية معهم كتاب من الملك المنصور قلاوون بالعتب على طوائف الناس، والعفو عنه كلهم، فتضاعفت له الأدعية، وجاء تقليد النيابة بالشام للأمير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، فدخل معه علم الدين سنجر الحلبي فرتبه في دار السعادة، وأمر سنجر القاضي ابن خلكان أن يتحول من المدرسة العادلية الكبيرة ليسكنها نجم الدين بن سني الدولة، وألح عليه في ذلك، فاستدعى جمالا لينقل أهله وثقله عليها إلى الصالحية فجاء البريد بكتاب من السلطان فيه تقرير ابن خلكان على القضاء والعفو عنه وشكره والثناء عليه.

وذكر خدمته المتقدمة، ومعه خلعة سنية له فلبسها وصلى بها الجمعة وسلم على الأمراء فأكرموه وعظموه، وفرح الناس به وبما وقع من الصفح عنه.

وأما سنقر الأشقر فإنه لما خرجت العساكر في طلبه فارق الأمير عيسى بن مهنا وساء إلى السواحل فاستحوذ منها على حصون كثيرة، منها صهيون، وقد كان بها أولاده وحواصله، وحصن بلاطس، وبرزية، وعكا، وجبلة، واللاذقية، والشفر، بكاس، وشيزر واستناب فيها الأمير عز الدين أزدمر الحاج.

فأرسل السلطان المنصور لحصار شيزر طائفة من الجيش، فبينما هم كذلك إذ أقبلت التتار لما سمعوا بتفريق كلمة المسلمين، فانجفل الناس من بين أيديهم من سائر البلاد إلى الشام، ومن الشام إلى مصر، فوصلت التتار إلى حلب فقتلوا خلقا كثيرا، ونهبوا جيشا كبيرا، وظنوا أن جيش سنقر الأشقر يكون معهم على المنصور، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، وذلك أن المنصور كتب إلى سنقر الأشقر.

إن التتار قد أقبلوا إلى المسلمين، والمصلحة أن نتفق عليهم لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم، وإذا ملكوا البلاد لم يدعوا منا أحدا.

فكتب إليه سنقر بالسمع والطاعة وبرز من حصنه فخيم بجيشه ليكون على أهبة متى طلب أجاب، ونزلت نوابه من حصونهم وبقوا مستعدين لقتال التتار، وخرج الملك المنصور من مصر في أواخر جمادى الآخرة ومعه العساكر.

وفي يوم الجمعة الثالث من جمادى الآخرة قرئ على منبر جامع دمشق كتاب من السلطان أنه قد عهد إلى ولده علي، ولقب بالملك الصالح، فلما فرغ من قراءة الكتاب جاءت البريدية فأخبروا برجوع التتار من حلب إلى بلادهم، وذلك لما بلغهم من اتفاق كلمة المسلمين، ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد، وعاد المنصور إلى مصر وكان قد وصل إلى غزة، أراد بذلك تخفيف الوطأة عن الشام فوصل إلى مصر في نصف شعبان.

وفي جمادى الآخرة أعيد برهان الدين السنجاري إلى وزارة مصر ورجع فخر الدين بن لقمان إلى كتابة الإنشاء.

وفي أواخر رمضان أعيد إلى القضاء ابن رزين وعزل ابن بنت الأعز، وأعيد القاضي نفيس الدين بن شكر المالكي، ومعين الدين الحنفي، وتولي قضاء الحنابلة عز الدين المقدسي.

وفي ذي الحجة جاء تقليد ابن خلكان بإضافة المعاملة الحلبية إليه يستنيب فيها من شاء من نوابه.

وفي مستهل ذي الحجة خرج الملك المنصور من بلاد مصر بالعساكر قاصدا الشام، واستناب على مصر ولده الملك الصالح علي بن المنصور إلى حين رجوعه.

قال الشيخ قطب الدين: وفي يوم عرفة وقع بمصر برد كبار أتلف شيئا كثيرا من المغلات، ووقعت صاعقة بالإسكندرية وأخرى في يومها تحت الجبل الأحمر على صخرة فأحرقتها، فأخذ ذلك الحديد فسبك فخرج منه أواقي بالرطل المصري.

وجاء السلطان فنزل بعساكره تجاه عكا، فخافت الفرنج منه خوفا شديدا وراسلوه في طلب تحديد الهدنة، وجاء الأمير عيسى بن مهنا من بلاد العراق إلى خدمة المنصور، وهو بهذه المنزلة فتلقاه السلطان بجيشه وأكرمه واحترمه وعامله بالصفح والعفو والإحسان.

من الأعيان:

الأمير الكبير جمال الدين آقوش الشمسي

أحد أمراء الإسلام وهو الذي باشر قتل كتبغانوين أحد مقدمي التتار، وهو المطاع فيهم يوم عين جالوت، وهو الذي مسك عز الدين أيدمر الظاهري في حلب من السنة الماضية، وكانت وفاته بها.

الشيخ الصالح داود بن حاتم

ابن عمر الحبال، كان حنبلي المذهب له كرامات وأحوال صالحة ومكاشفات صادقة، وأصل آبائه من حران، وكانت إقامته ببعلبك، وتوفي فيها رحمه الله عن ست وتسعين سنة، وقد أثنى عليه الشيخ قطب الدين ابن الشيخ الفقيه اليونيني.

الأمير الكبير نور الدين علي بن عمر أبو الحسن الطوري

كان من أكابر الأمراء، وقد نيف على تسعين سنة وكانت وفاته بسبب أنه وقع يوم مصاف سنقر الأشقر تحت سنابك الخيل فمكث بعد ذلك متمرضا إلى أن مات بعد شهرين ودفن بسفح قاسيون.

الجزار الشاعر يحيى بن عبد العظيم بن يحيى

بن محمد بن علي جمال الدين أبو الحسين المصري، الشاعر الماجن، المعروف بالجزار.

مدح الملوك والوزراء والأمراء، وكان ماجنا ظريفا حلو المناظرة، وله في حدود ستمائة بعدها بسنة أو سنتين، وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شوال من هذه السنة.

ومن شعره:

أدركوني فبي من البرد همٌ ** ليس ينسى وفي حشاي التهاب

ألبستني الأطماع وهما فها ** جسمي عارٍ ولي فرى وثياب

كلما ازرق لون جسمي من الـ ** ـبرد تخيلت أنه سنجاب

وقال وقد تزوج أبوه بعجوزة:

تزوج الشيخ أبي شيخةٍ ** ليس لها عقلٌ ولا ذهن

كأنها في فرشها رمة ** وشعرها من حولها قطن

وقال لي كم سنها ** قلت ليس في فمنها سن

لو أسفرت غربها في الدجى ** ما جسرت تبصرها الجن

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697