→ ثم دخلت سنة تسع وثمانين وستمائة | البداية والنهاية – الجزء الثالث عشر ثم دخلت سنة تسعين وستمائة من الهجرة ابن كثير |
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وستمائة ← |
☰ جدول المحتويات
- فتح عكا وبقية السواحل
- أرغون بن أبغا ملك التتار
- المسند المعمر الرحالة فخر الدين بن النجار
- الشيخ تاج الدين الفزاري
- الطبيب الماهر عز الدين إبراهيم بن محمد بن طرخان
- الشيخ الإمام العلامة علاء الدين أبو الحسن
- الشيخ الإمام أبو حفص عمر بن يحيى بن عمر الكرخي
- الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر
- العفيف التلمساني
فيها: فتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مدد متطاولة، ولم يبق لهم فيها حجر واحد، ولله الحمد والمنة.
استهلت هذه السنة والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس العباسي، وسلطان البلاد الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، ونائبه بمصر وأعمالها بدر الدين بيدرا، ووزيره ابن السلعوس الصاحب شمس الدين، ونائبه بالشام حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها، وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول، وصاحب مكة نجم الدين أبو نمي محمد بن إدريس بن علي بن قتادة الحسيني، وصاحب المدينة عز الدين جماز بن شيحة الحسيني، وصاحب الروم غياث الدين كيخسرو، وهو ابن ركن الدين قلج أرسلان السلجوقي، وصاحب حماة تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمد، وسلطان بلاد العراق وخراسان وتلك النواحي أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكيز خان.
وكان أول هذه السنة يوم الخميس وفيه تصدق عن الملك المنصور بأموال كثيرة جدا من الذهب والفضة، وأنزل السلطان إلى تربته في ليلة الجمعة فدفن بها تحت القبة، ونزل في قبره بدر الدين بيدرا، وعلم الدين الشجاعي، وفرقت صدقات كثيرة حينئذ، ولما قدم الصاحب شمس الدين بن السلعوس من الحجاز خلع عليه للوزارة، وكتب تقليده بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر كاتب الإنشا بيده، وركب الوزير في أبهة الوزارة إلى داره، وحكم.
ولما كان يوم الجمعة قبض على شمس الدين سنقر الأشقر وسيف الدين بن جرمك الناصري، وأفرج عن الأمير زين الدين كتبغا، وكان قد قبض عليه مع طرقطاي، ورد عليه أقطاعه، وأعيد التقي توبة إلى وزارة دمشق مرة أخرى.
وفيها: أثبت ابن الخوي محضرا يتضمن أن يكون تدريس الناصرية للقاضي الشافعي وانتزعها من زين الدين الفارقي.
فتح عكا وبقية السواحل
وفيها جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الأول لتجهيز آلات الحصار لعكا، ونودي في دمشق الغزاة في سبيل الله إلى عكا، وقد كان أهل عكا في هذا الحين عدوا على من عندهم من تجار المسلمين فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأبرزت المناجيق إلى ناحية الجسورة، وخرجت العامة والمتطوعة يجرون في العجل حتى الفقهاء والمدرسين والصلحاء، وتولى ساقها الأمير علم الدين الدويداري، وخرجت العساكر بين يدي نائب الشام، وخرج هو في اخترهم، ولحقه صاحب حماة الملك المظفر وخرج الناس من كل صوب، واتصل بهم عسكر طرابلس، وركب الأشرف من الديار المصرية بعساكره قاصدا عكا.
فتوافت الجيوش هنالك، فنازلها يوم الخميس رابع ربيع الآخر ونصبت عليها المناجيق من كل ناحية يمكن نصبها عليها، واجتهدوا غاية الاجتهاد في محاربتها والتضييق على أهلها، واجتمع الناس بالجوامع لقراءة صحيح البخاري، فقرأه الشيخ شرف الدين الفزاري، فحضر القضاة والفضلاء والأعيان.
وفي أثناء محاصرة عكا وقع تخبط من نائب الشام حسام الدين لاجين، فتوهم أن السلطان يريد مسكه، وكان قد أخبره بذلك الأمير الذي يقال له أبو خرص، فركب هاربا فرده علم الدين الدويداري بالمسا به، وجاء به إلى السلطان، فطيب قلبه وخلع عليه.
ثم أمسكه بعد ثلاثة أيام وبعثه إلى قلعة صفد واحتاط على حواصله، ورسم على أستاذ داره بدر الدين بكداش، وجرى ما لا يليق وقوعه هنالك، إذ الوقت وقت عسر وضيق وحصار.
وصمم السلطان على الحصار فرتب الكوات ثلاثمائة حمل، ثم زحف يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى ودقت الكوات جملة واحدة عند طلوع الشمس، وطلع المسلمون على الأسوار مع طلوع الشمس ونصبت السناجق الإسلامية فوق أسوار البلد، فولت الفرنج عند ذلك الأدبار، وركبوا هاربين في مراكب التجار.
وقتل منهم عدد لا بعمله إلا الله تعالى، وغنموا من الأمتعة والرقيق والبضائع شيئا كثيرا جدا، وأمر السلطان بهدمها وتخريبها، بحيث لا ينتفع بها بعد ذلك، فيسر الله فتحها نهار جمعة، كما أخذتها الفرنج من المسلمين في يوم الجمعة، وسلمت صور وصيدا قيادتهما إلى الأشرف، فاستوثق الساحل للمسلمين، وتنظف من الكافرين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وجاءت البطاقة إلى دمشق بذلك ففرح المسلمون، ودقت البشائر في سائر الحصون، وزينت البلاد ليتنزه فيها الناظرون المتفرجون، وأرسل السلطان إلى صور أميرا فهدم أسوارها وعفا آثارها.
وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة ثمان عشرة وخمسمائة.
وأما عكا فقد كان الملك الناصر يوسف بن أيوب أخذها من أيدي الفرنج، ثم إن الفرنج جاؤوا فأحاطوا بها بجيوش كثيرة، ثم جاء صلاح الدين ليمنعهم عنها مدة سبعة وثلاثين شهرا، ثم آخر ذلك استملكوها وقتلوا من كان فيها من المسلمين، كما تقدم ذلك.
ثم إن السلطان الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، سار من عكا قاصدا دمشق في أبهة الملك، وحرمة وافرة، وفي صحبته وزيره ابن السلعوس والجيوش المنصورة، وفي هذا اليوم استناب بالشام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وسكن بدار السعادة، وزيد في إقطاع حرستا ولم تقطع لغيره، وإنما كانت لمصالح حوا صل القلعة، وجعل له في كل يوم ثلاثمائة على دار الطعام.
وفوض إليه أن يطلق من الخزانة ما يريد من غير مشاورة ولا مراجعة، وأرسله السلطان إلى صيدا لأنه كان قد بقي بها برج عصي، ففتحه ودقت البشائر بسببه، ثم عاد سريعا إلى السلطان فودعه، وسار السلطان نحو الديار المصرية في أواخر رجب، وبعثه إلى بيروت ليفتحها فسار إليها ففتحها في أقرب وقت، وسلمت عقلية وانطرطوس وجبيل.
ولم يبق بالسواحل ولله الحمد معقل للإفرنج إلا بأيدي المسلمين، وأراح الله منهم البلاد والعباد، ودخل السلطان إلى القاهرة في تاسع شعبان في أبهة عظيمة جدا، وكان يوما مشهودا، وأفرج عن بدر الدين بيسرى بعد سجن سبع سنين.
ورجع علم الدين سنجر الشجاعي نائب دمشق إلى دمشق في سابع عشرين الشهر المذكور، وقد نظف السواحل من الفرنج بالكلية، ولم يبق لهم بها حجر.
وفي رابع رمضان أفرج عن حسام الدين لاجين من قلعة صفد ومعه جماعة أمراء، ورد عليهم إقطاعياتهم، وأحسن إليهم وأكرمهم.
وفي أوائل رمضان طلب القاضي بدر الدين بن جماعة من القدس الشريف وهو حاكم به، وخطيب فيه، على البريد إلى الديار المصرية فدخلها في رابع عشرة، وأفطر ليلتئذ عند الوزير بن السلعوس وأكرمه جدا واحترمه، وكانت ليلة الجمعة، فصرح الوزير بعزل تقي الدين ابن بنت الأعز، وتوليه ابن جماعة بالديار المصرية قضاء القضاة، وجاء القضاة إلى تهنئته وأصبح الشهود بخدمته، ومع القضاء خطابة الجامع الأزهر، وتدريس الصالحية، وركب في الخلعة والطرحة ورسم لبقية القضاة أن يستمروا بلبس الطريحات، وذهب فخطب بالجامع الأزهر، وانتقل إلى الصالحية ودرس بها في الجمعة الأخرى، وكان درسا حافلا، ولما كان يوم الجمعة رسم السلطان للحاكم بأمر الله أن يخطب هو بنفسه الناس يومئذ، وأن يذكر في خطبته أنه قد ولى السلطنة لأشرف خليل بن المنصور.
فلبس خلعة سوداء وخطب الناس بالخطبة التي كان خطب بها في الدولة الظاهرية، وكانت من إنشاء الشيخ شرف الدين المقدسي في سنة ستين وستمائة، فيكون بين الخطبتين أزيد من ثلاثين سنة، وذلك بجامع قلعة الجبل، ثم استمر ابن جماعة يخطب بالقلعة عند السلطان، وكان يستنيب في الجامع الأزهر.
وأما ابن بنت الأعز فناله من الوزير إخراق ومصادرة وإهانة بالغة، ولم يترك له من مناصبه شيئا، وكان بيده سبعة عشر منصبا، منها القضاء والخطابة ونظر الأحباش ومشيخة الشيوخ، ونظر الخزانة وتداريس كبار، وصادره بنحو من أربعين ألف، غير مراكبه وأشياء كثيرة، ولم يظهر منه استكانة له ولا خضوع.
ثم عاد فرضي عنه وولاه تدريس الشافعي، وعملت ختم عند قبر المنصور في ليلة الاثنين رابع ذي القعدة وحضرها القضاة والأمراء، ونزل السلطان ومعه الخليفة إليهم وقت السحر، وخطب الخليفة بعد الختم خطبة بليغة، حرض الناس على غزو بلاد العراق واستنقاذها من أيدي التتر، وقد كان الخليفة قبل ذلك محتجبا فرآه الناس جهرةً، وركب في الأسواق بعد ذلك.
وعمل أهل دمشق ختمة عظيمة بالميدان الأخضر إلى جانب القصر الأبلق، فقرئت ختمات كثيرة، ثم خطب الناس بعدها الشيخ عز الدين القاروني، ثم ابن البزوري، ثم تكلم من له عادة بالكلام وجاءت البريدية بالتهيؤ لغزو العراق، ونودي في الناس بذلك، وعملت سلاسل عظام بسبب الجسورة على دجلة بغداد، وحصلت الأجور على المقصود وإن لم يقع المقصود، وحصل لبعض الناس أذىً بسبب ذلك.
وفيها: نادى نائب الشام الشجاعي أن لا تلبس امرأة عمامة كبيرة، وخرب الأبنية التي على نهر بانياس والجداول كلها والمسالح والسقايات التي على الأنهار كلها، وأخرب جسر الزلابية وما عليه من الدكاكين، ونادى أن لا يمشي أحد بعد العشاء الآخرة، ثم أطلق لهم هذه فقط.
وأخرب الحمام الذي كان بناه الملك السعيد ظاهر باب النصر، ولم يكن بدمشق أحسن منه، ووسع الميدان الأخضر من ناحية الشمال مقدار سدسه، ولم يترك بينه وبين النهر إلا مقدارا يسيرا، وعمل هو بنفسه والأمراء بحيطانه.
وفيها: حبس جمال الدين آقوش الأفرم المنصوري وأميرا آخر معه في القلعة.
وفيها: حمل الأمير علم الدين الدويداري إلى الديار المصرية مقيدا.
وقد نظم الشيخ شهاب الدين محمود قصيدة في فتح عكا:
الحمد لله زالت دولة الصلب ** وعز الترك دين المصطفى العربي
هذا الذي كانت الآمال لو طلبت ** رؤياه في النوم لاستحيت من الطلب
ما بعد عكا وقد هدت قواعدها ** في البحر للترك عند البر من أرب
لم يبق من بعدها للكفر إذ خربت ** في البحر والبر ما ينجي سوى الهرب
أم الحروب فكم قد أنشأت فتنا ** شاب الوليد بها هولا ولم تشب
يا يوم عكا لقد أنسيت ما سبقت ** به الفتوح وما قد خط في الكتب
لم يبلغ النطق حد الشكر فيك فما ** عسى يقوم به ذو الشعر والأدب
أغضبت عباد عيسى إذ أبدتهم ** لله أي رضى في ذلك الغضب
وأشرف الهادي المصطفى البشير على ** ما أسلف الأشرف السلطان من قرب
فقر عينا لهذا الفتح وابتهجت ** ببشره الكعبة الغراء في الحجب
وسار في الأرض سيرا قد سمعت به ** فالبر في طرب، والبحر في حرب
وهي طويلة جدا، وله ولغيره في فتح عكا أشعار كثيرة.
ولما رجع البريد أخبر بأن السلطان لما عاد إلى مصر خلع على وزيره ابن السلعوس جميع ملابسه التي كانت عليه، ومركوبه الذي كان تحته، فركبه ورسم له بثمانية وسبعين ألفا من خزانة دمشق، ليشتري له بها قرية قرحتا من بيت المال.
وفي هذه السنة انتهت عمارة قلعة حلب بعد الخراب الذي أصابها من هولاكو وأصحابه عام ثمان وخمسين.
وفيها: في شوال شرع في عمارة قلعة دمشق وبناء الدور السلطانية والطارمة والقبة الزرقاء، حسب ما رسم به السلطان الأشرف خليل بن قلاوون لنائبه علم الدين سنجر الشجاعي.
وفيها: في رمضان أعيد إلى نيابة القلعة الأمير أرجواش وأعطى إقطاعات سنية.
وفيها: أرسل الشيخ الرجيحي من ذرية الشيخ يونس مضيقا عليه محصورا إلى القاهرة.
وفيها: درس عز الدين القاروني بالمدرسة النجيبية عوضا عن كمال الدين ابن خلكان، وفي ذلك اليوم درس نجم الدين مكي بالرواحية عوضا عن ناصر الدين ابن المقدسي.
وفيه درس كمال الدين الطبيب بالمدرسة الدخوارية الطبية، وفي هذا الشهر درس الشيخ جلال الدين الخبازي بالخاتونية البرانية، وجمال الدين بن الناصر بقي بالفتحية، وبرهان الدين الإسكندري بالقوصية التي بالجامع والشيخ نجم الدين الدمشقي بالشريفية عند حارة الغرباء.
وفيها: أعيدت الناصرية إلى الفارقي، وفيه درس بالأمينية القاضي نجم الدين بن صصرى بعد ابن الزملكاني، وأخذت منه العادلية الصغيرة لكمال الدين ابن الزملكاني.
من الأعيان:
أرغون بن أبغا ملك التتار
كان شهما شجاعا سفاكا للدماء، قتل عمه السلطان أحمد بن هولاكو، فعظم في أعين المغول، فلما كان في هذه السنة مات من شراب شربه فيه سم، فاتهمت المغول اليهود به - وكان وزيره سعد الدولة ابن الصفي يهوديا - فقتلوا من اليهود خلقا كثيرا، ونهبوا منهم أموالا عظيمة جدا في جميع مدائن العراق، ثم اختلفوا فيمن يقيمونه بعده، فمالت طائفة إلى كيختو فأجلسوه على سرير المملكة، فبقي مدة، قيل سنة وقيل أقل من ذلك، ثم قتلوه وملكوا بعده بيدرا.
وجاء الخبر بوفاة أرغون إلى الملك الأشرف وهو محاصر عكا ففرح بذلك كثيرا، وكانت مدة ملك أرغون ثمان سنين، وقد وصفه بعض مؤرخي العراق بالعدل والسياسة الجيدة.
المسند المعمر الرحالة فخر الدين بن النجار
وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي المعروف بابن النجار، ولد في سلخ أو مستهل سنة ست وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل مع أهله، وكان رجلا صالحا عابدا زاهدا ورعا ناسكا، تفرد بروايات كثيرة لطول عمره، وخرجت له مشيخات وسمع منه الخلق الكثير والجم الغفير، وكان منصوبا لذلك حتى كبر وأسن وضعف عن الحركة، وله شعر حسن، منه قوله:
تكررت السنون عليَّ حتى ** بليت وصرت من سقط المتاع
وقل النفع عندي غير أني ** أعلل بالرواية والسماع
فإن يك خالصا فله جزاء ** وإن يك مالقا فإلى ضياع
وله أيضا:
إليك اعتذاري من صلاتي قاعدا ** وعجزي عن سعي إلى الجمعات
وتركي صلاة الفرض في كل مسجد ** تجمع فيه الناس للصلوات
فيا رب لا تمقت صلاتي ونجني ** من النار واصفح لي عن الهفوات
توفي ضحى نهار الأربعاء ثاني ربيع الآخر من هذه السنة، عن خمس وتسعين سنة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن عند والده الشيخ شمس الدين أحمد بن عبد الواحد بسفح قاسيون.
الشيخ تاج الدين الفزاري
عبد الرحمن بن سباع بن ضياء الدين أبو محمد الفزاري، الإمام العلامة العالم، شيخ الشافعية في زمانه، حاز قصب السبق دون أقرانه، وهو والد شيخنا العلامة برهان الدين.
كان مولد الشيخ تاج الدين في سنة ثلاثين وستمائة، وتوفي ضحى الاثنين خامس جمادى الآخرة، بالمدرسة البادرائية، وصلي عليه بعد الظهر بالأموي، تقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين بن الخوي، ثم صلّي عليه عند جامع جراح الشيخ زين الدين الفارقي، ودفن عند والده بباب الصغير، وكان يوما شديد الزحام.
وقد كان ممن اجتمع فيه فنون كثيرة من العلوم النافعة، والأخلاق اللطيفة، وفصاحة المنطق، وحسن التصنيف، وعلو الهمة، وفقه النفس، وكتابة الأقليد الذي جمع على أبواب التنبيه وصل فيه إلى باب الغصب، دليل على فقه نفسه وعلو قدره، وقوة همته ونفوذ نظره، واتصافه بالاجتهاد الصحيح في غالب ما سطره، وقد انتفع به الناس، وهو شيخ أكابر مشايخنا هو ومحيي الدين النووي، وله اختصار الموضوعات لابن الجوزي، وهو عندي بخطه، وقد سمع الحديث الكثير وحضر عند ابن الزبيدي صحيح البخاري، وسمع من ابن الليثي وابن الصلاح واشتغل عليه، وعلى ابن عبد السلام وانتفع بهما، وخرج له الحافظ علم الدين البرزالي أحد تلاميذه مشيخة في عشرة أجزاء عن مائة شيخ فسمعها عليه الأعيان: وله شعر جيد فمنه:
لله أيام جمع الشمل ما برحت ** بها الحوادث حتى أصبحت سمرا
ومبتدا الحزن من تاريخ مسألتي ** عنكم، فلم ألق لاعينا ولا أثرا
يا راحلين قدرتم فالنجاة لكم ** ونحن للعجز لا نستعجز القدرا
وقد ولي الدرس بعده بالبادرائية والحلقة والفتيا بالجامع ولده شيخنا برهان الدين، فمشى على طريقة والده وهديه وسمته، رحمه الله.
وفي ثالث شعبان توفي:
الطبيب الماهر عز الدين إبراهيم بن محمد بن طرخان
السويدي الأنصاري، ودفن بالسفح عن تسعين سنة، وروى شيئا من الحديث، وفاق أهل زمانه في صناعة الطب، وصنف كتبا في ذلك، وكان يرمى بقلة الدين وترك الصلوات وانحلال في العقيدة، وإنكار أمور كثيرة مما يتعلق باليوم الآخر، والله يحكم فيه وفي أمثاله بأمره العدل الذي لا يجور ولا يظلم.
وفي شعره ما يدل على قلة عقله ودينه وعدم إيمانه، واعتراضه على تحريم الخمر، وأنه قد طال رمضان عليه في تركها وغير ذلك.
الشيخ الإمام العلامة علاء الدين أبو الحسن
علي بن الإمام العلامة كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف الأنصاري الزملكاني، وقد درس بعد أبيه المذكور بالأمينية، وكانت وفاة والده هذا ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الآخر بالأمينية.
ودفن بمقابر الصوفية عند والده الأمير الكبير بدر الدين علي بن عبد الله الناصري، ناظر الرباط بالصالحية، عن وصية أستاذه، وهو الذي ولى الشيخ شرف الفزاري مشيخة الرباط بعد ابن الشريشي جمال الدين، وقد دفن بالتربة الكبيرة داخل الرباط المذكور.
الشيخ الإمام أبو حفص عمر بن يحيى بن عمر الكرخي
صهر الشيخ تقي الدين بن الصلاح، وأحد تلاميذه، ولد سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ومات يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن إلى جانب ابن الصلاح.
الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر
الذي كان قد بويع بالملك بعد أخيه الملك السعيد، وجعل الملك المنصور قلاوون أتابكه.
ثم استقل قلاوون بالملك، وأرسلهم إلى الكرك، ثم أعادهم إلى القاهرة، ثم سفرهم الأشرف خليل في أول دولته إلى بلاد الأشكري من ناحية استنبول، فمات سلامش هناك وبقي أخوه نجم الدين خضر وأهلوهم بتلك الناحية، وقد كان سلامش من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا، وقد افتتن به خلق كثير، واللوطية الذين يحبون المردان، وشبب به الشعراء وكان عاقلا رئيسا مهيبا وقورا.
العفيف التلمساني
أبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن علي بن يس العابدي الكومي، ثم التلمساني الشاعر المتقن المتفنن في علوم منها النحو والأدب والفقه والأصول، وله في ذلك مصنفات، وله شرح (مواقف النفر)، وشرح (أسماء الله الحسنى)، وله ديوان مشهور، ولولده محمد ديوان آخر، وقد نسب هذا الرجل إلى عظائم في الأقوال والاعتقاد في الحلول والاتحاد والزندقة والكفر المحض، وشهرته تغني عن الإطناب في ترجمته، توفي يوم الأربعاء خامس رجب ودفن بالصوفية، ويذكر عنه أنه عمل أربعين خلوة كل خلوة أربعين يوما متتابعة فالله أعلم.
البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر | |
---|---|
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697 |