الرئيسيةبحث

البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة



ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة


فيها: أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.

استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى.

وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئا، كما ورد في الأثر: لن يغني حذر عن قدر.

وكما قال تعالى: { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ } [نوح: 4] ، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } [الرعد: 11] .

وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم.

فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة - وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه.

وهو أن هولاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجها إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئا من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه ولا بالا به حتى أزف قدومه. ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد.

وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير.

فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان لعنه الله.

ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم، ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت.

ثم عاد إلى بغداد، وفي صحبته خوجة نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله.

ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيرا لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فتقلوه رفسا، وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق، ويقال بل أغرق فالله أعلم.

فباؤوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده - وستأتي ترجمة الخليفة في الوفيات - ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون.

وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار.

ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.

وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف.

ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشا للتتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء.

وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّا كَبِيرا ** فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدا مَفْعُولا } الآيات [الإسراء: 4-5] .

وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معمورا بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاويا على عروشه واهي البناء.

وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة.

فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفي قبره.

وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن، وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدا بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.

وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.

وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا والله أعلم بالدرك الأسفل من النار.

ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوض إليه الشحنكية بها وإلى الوزير بن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعيا جلدا رافضيا خبيثا، فمات جهدا وغما وحزنا وندما، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولي بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام ولله الحمد والمنة. وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق، وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام فالله أعلم.

وفي هذه السنة اقتتل المصريون مع صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل الكبير، وكان في حبسه جماعة من أمراء البحرية، منهم ركن الدين بيبرس البندقداري، فكسرهم المصريون ونهبوا ما كان معهم من الأثقال والأموال، وأسروا جماعة من رؤوس الأمراء فقتلوا صبرا، وعادوا إلى الكرك في أسوا حال وأشنعه، وجعلوا يفسدون في الأرض ويعيثون في البلاد، فأرسل الله الناصر صاحب دمشق فبعث جيشا ليكفهم عن ذلك، فكسرهم البحرية واستنصروا فبرز إليهم الناصر بنفسه فلم يلتفتوا إليه وقطعوا أطناب خيمته التي هو فيها بإشارة ركن الدين بيبرس المذكور، وجرت حروب وخطوب يطول بسطها وبالله المستعان.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:

خليفة الوقت المستعصم بالله

أمير المؤمنين آخر خلفاء بني العباس بالعراق رحمه الله، وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الأمير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي العباسي.

مولده سنة تسع وستمائة، وبويع له بالخلافة في العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين، وكان مقتله في يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر سنة ست وخمسين وستمائة، فيكون عمره يوم قتل سبعا وأربعين سنة رحمه الله تعالى.

وقد كان حسن الصورة جيد السريرة، صحيح العقيدة مقتديا بأبيه المستنصر في المعدلة وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد، وقد استجاز له الحافظ ابن النجار من جماعة من مشايخ خراسان منهم المؤيد الطوسي، وأبو روح عبد العزيز بن محمد الهروي، وأبو بكر القاسم بن عبد الله بن الصفار وغيرهم، وحدث عنه جماعة منهم مؤدبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن النيار، وأجاز هو للإمام محيي الدين بن الجوزي، وللشيخ نجم الدين البادرائي، وحدثا عنه بهذه الإجازة.

وقد كان رحمه الله سنيا على طريقة السلف واعتقاد الجماعة كما كان أبوه وجده، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم، وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من مثل الخليفة وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير، بل من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، كما قال الله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِما } [آل عمران: 75] .

قتلته التتار مظلوما مضطهدا في يوم الأربعاء رابع عشر صفر من هذه السنة، وله من العمر ستة وأربعون سنة وأربعة أشهر، وكانت مدة خلافته خمسة عشر سنة وثمانية أشهر وأياما، فرحمه الله وأكرم مثواه، وبل بالرأفة ثراه.

وقد قتل بعده ولداه وأسر الثالث مع بنات ثلاث من صلبه، وشغر منصب الخلافة بعده، ولم يبق في بني العباس من سد مسده، فكان آخر الخلفاء من بني العباس الحاكمين بالعدل بين الناس، ومن يرتجي منهم النوال ويخشى البأس، وختموا بعبد الله المستعصم كما فتحوا بعبد الله السفاح، بويع له بالخلافة وظهر ملكه وأمره في سنة ثنتين وثلاثين ومائة، بعد انقضاء دولة بني أمية كما تقدم بيانه، وآخرهم عبد الله المستعصم وقد زال ملكه وانقضت خلافته في هذا العام.

فجملة أيامهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، وزال ملكهم عن العراق والحكم بالكلية مدة سنة وشهور في أيام البساسيري بعد الخمسين وأربعمائة، ثم عادت كما كانت.

وقد بسطنا ذلك في موضعه في أيام القائم بأمر الله ولله الحمد.

ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه خرج عن بني العباس بلاد المغرب، ملكها في أوائل الأمر بعض بني أمية ممن بقي منهم من ذرية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ثم تغلب عليه الملوك بعد دهور متطاولة كما ذكرنا، وقارن بني العباس دولة المدعين أنهم من الفاطميين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب، وما هنالك، وبلاد الشام في بعض الأحيان والحرمين في أزمان طويلة وكذلك أخذت من أيدهم بلاد خراسان وما وراء النهر، وتداولتها الملوك دولا بعد دول، حتى لم يبق مع الخليفة منهم إلى بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات، كما ذكر ذلك مبسوطا في الحوادث والوفيات.

واستمرت دولة الفاطميين قريبا من ثلاثمائة سنة حتى كان آخرهم العاضد الذي مات بعد الستين وخمسمائة في الدولة الصلاحية الناصرية القدسية، وكانت عدة ملوك الفاطميين أربعة عشر ملكا متخلفا، ومدة ملكهم تحريرا من سنة سبع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد سنة بضع وستين وخمسمائة، والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول ﷺ كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح.

فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكا فكان أول ملوك الإسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.

ثم ابنه عبد الملك ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضا، ثم مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار، وكان آخرهم فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، ثم انقرضوا من أولهم إلى خاتمهم.

وكان أول خلفاء بني العباس عبد الله السفاح، وآخرهم عبد الله المستعصم، وكذلك أول خلفاء الفاطميين، فالأول اسمه عبد الله العاضد، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جدا قل من يتنبه له، والله سبحانه أعلم.

وهذه أرجوزة لبعض الفضلاء ذكر فيها جميع الخلفاء:

الحمد لله العظيم عرشه ** القاهر الفرد القوي بطشه

مقلب الأيام والدهور ** وجامع الأنام للنشور

ثم الصلاة بدوام الأبد ** على النبي المصطفى محمد

وآله وصحبه الكرام ** السادة الأئمة الأعلام

وبعد فإن هذه أرجوزة ** نظمتها لطيفة وجيزة

نظمت فيها الراشدين الخلفا ** من قام بعد النبي المصطفى

ومن تلاهم وهلم جرا ** جعلتها تبصرة وذكرى

ليعلم العاقل ذو التصوير ** كيف جرت حوادث الأمور

وكل ذي مقدرة وملك ** معرضون للفنا والهلك

وفي اختلاف الليل والنهار ** تبصرة لكل ذي اعتبار

والملك الجبار في بلاده ** يورثه من شاء من عباده

وكل مخلوق فللفناء ** وكل ملك فإلى انتهاء

ولا يدوم غير ملك الباري ** سبحانه من ملك قهار

منفرد بالعز والبقاء ** وما سواه فإلى انقضاء

أول من بويع بالخلافة ** بعد النبي ابن أبي قحافة

أعني الإمام الهادي الصديقا ** ثم ارتضى من بعده الفاروقا

ففتح البلاد والأمصارا ** واستأصلت سيوفه الكفارا

وقام بالعدل قياما يرضي ** بذاك جبار السما والأرض

ورضي الناس بذي النورين ** ثم على والد السبطين

ثم أتت كتائب مع الحسن ** كادوا بأن يجددوا بها الفتن

فأصلح الله على يديه ** كما عزا نبينا إليه

وجمع الناس على معاوية ** ونقل القصة كل راويه

فمهد الملك كما يريد ** وقام فيه بعده يزيد

ثم ابنه وكان برا راشدا ** أعني أبا ليلى وكان زاهدا

فترك الإمرة لا عن غلبه ** ولم يكن إليها منه طلبه

وابن الزبير بالحجاز يدأب ** في طلب الملك وفيه ينصب

وبالشام بايعوا مروانا ** بحكم من يقول كن فكانا

ولم يدم في الملك غير عام ** وعافصته أسهم الحمام

واستوثق الملك لعبد الملك ** ونار نجم سعده في الفلك

وكل من نازعه في الملك ** خر صريعا بسيوف الهلك

وقتل المصعب بالعراق ** وسير الحجاج ذا الشقاق

إلى الحجاز بسيوف النقم ** وابن الزبير لائذٌ بالحرم

فجار بعد قتله بصلبه ** ولم يخف في أمره من ربه

وعندما صفت له الأمور ** تقلبت بجسمه الدهور

ثم أتى من بعده الوليد ** ثم سليمان الفتى الرشيد

ثم استفاض في الورى عدل عمر ** تابع أمر ربه كما أمر

وكان يدعى بأشجّ القوم ** وذي الصلاة والتقى والصوم

فجاء بالعدل والإحسان ** وكف أهل الظلم والطغيان

مقتديا بسنة الرسول ** والراشدين من ذوي العقول

فجرع الإسلام كأس فقده ** ولم يروا مثلا له من بعده

ثم يزيد بعده هشام ** ثم الوليد فت منه الهام

ثم يزيد وهو يدعى الناقصا ** فجاءه حمامه معافصا

ولم تطل مدة إبراهيما ** وكان كل أمره سقيما

وأسند الملك إلى مروانا ** فكان من أموره ما كانا

وانقرض الملك على يديه ** وحادث الدهر سطا عليه

وقتله قد كان بالصعيد ** ولم تفده كثرة العديد

وكان فيه حتف آل الحكم ** واستنزعت عنهم ضروب النعم

ثم أتى ملك بني العباس ** ولا زال فينا ثابت الأساس

وجاءت البيعة من أرض العجم ** وقلدت بيعتهم كل الأمم

وكل من نازعهم من أممٍ ** خر صريعا لليدين والفم

وقد ذكرت من تولى منهم ** حين تولى القائم المستعصم

أولهم ينعت بالسفاح ** وبعده المنصور ذو الجناح

ثم أتى من بعده المهدي ** يتلوه موسى الهادي الصفي

وجاء هارون الرشيد بعده ** ثم الأمين حين ذاق فقده

وقام بعد قتله المأمون ** وبعده المعتصم المكين

واستخلف الواثق بعد المعتصم ** ثم أخوه جعفر موفي الذمم

وأخلص النية في المتوكل ** لله ذي العرش القديم الأول

فأدحض البدعة في زمانه ** وقامت السنة في أوانه

ولم يبق فيها بدعة مضلةٌ ** وألبس المعتزلي ثوب ذله

فرحمة الله عليه أبدا ** ما غار نجمٌ في السماء أو بدا

وبعده استولى وقام المعتمد ** ومهد الملك وساس المقتصد

وعندما استشهد قام المنتصر ** والمستعين بعده كما ذكر

وجاء بعد موته المعتز ** والمهتدي الملتزم الأعز

والمكتفي في صحف العلا أسطر ** وبعده ساس الأمور المقتدر

واستوثق الملك بعز القاهر ** وبعده الراضي أخو المفاخر

والمتقي من بعد ذا المستكفي ** ثم المطيع ما به من خلف

والطائع الطائع ثم القادر ** والقائم الزاهد وهو الشاكر

والمقتدي من بعده المستظهر ** ثم أتى المسترشد الموقر

وبعده الراشد ثم المقتفي ** وحين مات استنجدوا بيوسف

المستضيء العادل في أفعاله ** الصادق الصدوق في أقواله

والناصر الشهم الشديد الباسِ ** ودام طول مكثه في الناس

ثم تلاه الظاهر الكريم ** وعدله كلٌ به عليم

ولم تطل أيامه في المملكة ** غير شهور واعترته الهلكه

وعهده كان إلى المستنصر ** العادل البر الكريم العنصر

دام يسوس الناس سبع عشرة ** وأشهرا بعزمات برّه

ثم توفي عام أربعينا ** وفي جمادى صادف المنونا

وبايع الخلائق المستعصما ** صلى عليه ربنا وسلما

فأرسل الرسل إلى الآفاق ** يقضون بالبيعة والوفاق

وشرفوا بذكره المنابرا ** ونشروا في جوده المفاخرا

وسار في الآفاق حسن سيرته ** وعدله الزائد في رعيته

قال الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم قلت أنا بعد ذلك أبياتا:

ثم ابتلاه الله بالتتار ** أتباع جنكيز خان الجبار

صحبته ابن ابنه هولاكو ** فلم يكن من أمره فكاك

فمزقوا جنوده وشمله ** وقتلوه نفسه وجهله

ودمروا بغداد والبلادا ** وقتلوا الأحفاد والأجدادا

وانتهبوا المال مع الحريم ** ولم يخافوا سطوة العظيم

وغرهم إنظاره وحلمه ** وما اقتضاه عدله وحكمه

وشغرت من بعده الخلافة ** ولم يؤرخ مثلها من آفة

ثم أقام الملك أعني الظاهرا ** خليفةً أعني به المستنصرا

ثم ولي من بعد ذاك الحاكم ** مسيم بيبرس الإمام العالم

ثم ابنه الخليفة المستكفي ** وبعض هذا للبيب يكفي

ثم ولي من بعده جماعة ** ما عندهم علم ولا بضاعة

ثم تولي وقتنا المعتضد ** ولا يكاد الدهر مثله يجد

في حسن خلق واعتقادٍ وحلى ** وكيف لا وهو من السيم الأولى

سادوا البلاد والعباد فضلا ** وملأوا الأقطار حكما وعدلا

أولاد عم المصطفى محمد ** وأفضل الخلق بلا تردد

صلى عليه الله ذو الجلال ** ما دامت الأيام والليالي

والفاطميون قليلوا العدة ** لكنهم مد لهم في المدة

فملكوا بضعا وستين سنة ** من بعده مائتين وكان كالسنة

والعدة أربع عشرة المهدي ** والقائم المنصور المعدي

أعني به المعز باني القاهرة ** ثم العزيز الحاكم الكوافرة

والظاهر المستنصر المستعلي ** فالآمر الحافظ عنه سوء الفعل

والظافر الفائز ثم العاضد ** آخرهم وما لهذا جاحد

أهلك بعد البضع والسنينا ** من قبلها خمسمائةٍ سنينا

وأصلهم يهود ليسوا شرفا ** بذاك أفتى السادة الأئمة

أنصار دين الله من ذي الأمة.

وهكذا خلفاء بني أمية ** عدتهم كعدة الرافضية

ولكن المدة كانت ناقصة ** عن مائة من السنين خالصة

وكلهم قد كان ناصبيا ** إلا الإمام عمر التقيا

معاوية ثم ابنه يزيد ** وابن ابنه معاوية السديد

مروان ثم ابن له عبد الملك ** منابذ لابن الزبير حتى هلك

ثم استقل بعده بالملك ** في سائر الأرض بغير شك

ثم الوليد النجل باني الجامع ** وليس مثله بشكله من جامع

ثم سليمان الجواد وعمر ** ثم يزيد وهشام وغدر

أعني الوليد بن يزيد الفاسقا ** ثم يزيد بن الوليد فائقا

يلقب الناقص وهو كامل ** ثم إبراهيم وهو عاقل

ثم مروان الحمار الجعدي ** آخرهم فاظفر بذا من عندي

والحمد لله على التمام ** كذاك نحمد على الأنعام

ثم الصلاة مع تمام العدد ** على النبي المصطفى محمد

وآله وصحبه الأخيار ** في سائر الأوقات والأعصار

وهذه الأبيات نظم الكاتب ** ثمانية تتمة المناقب

وممن قتل مع الخليفة واقف الجوزية بدمشق أستاذ دار الخلافة محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن حماد بن أحمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي.

ولد في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة، ونشأ شابا حسنا، وحين توفي أبوه وعظ في موضعه فأحسن وأجاد وأفاد، ثم لم يزل متقدما في مناصب الدنيا، فولي حسبة بغداد مع الوعظ الفائق والأشعار الحسنة، ثم ولي تدريس الحنابلة بالمستنصرية سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وكانت له تداريس أخر.

ولي أستاذ دار الخلافة، وكان رسولا للملوك من بني أيوب وغيرهم من جهة الخلفاء، وانتصب ابنه عبد الرحمن مكانه للحسبة والوعظ، ثم كانت الحسبة تتنقل في بنيه الثلاثة عبد الرحمن، وعبد الله، وعبد الكريم.

وقد قتلوا معه في هذه السنة رحمهم الله.

ولمحيي الدين هذا مصنف في مذهب أحمد، وقد ذكر له ابن الساعي أشعارا حسنة يهنئ بها الخليفة في المواسم والأعياد، تدل على فضيلة وفصاحة، وقد وقف الجوزية بدمشق وهي من أحسن المدارس، تقبل الله منه.

الصرصري المادح رحمه الله

يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعرم عبد السلام الشيخ الإمام العلامة البارع الفاضل في أنواع من العلوم، جمال الدين أبو زكريا الصرصري، الفاضل المادح الحنبلي الضرير البغدادي، معظم شعره في مدح رسول الله ﷺ، وديوانه في ذلك مشهور معروف غير منكر، ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة.

وصحب الشيخ علي بن إدريس تلميذ الشيخ عبد القادر، وكان ذكيا يتوقد نورا، وكان ينظم على البديهة سريعا أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم (الكافي) الذي ألفه موفق الدين بن قدامة، و(مختصر الخرقي).

وأما مدائحه في رسول الله ﷺ فيقال إنها تبلغ عشرين مجلدا، وما اشتهر عنه أنه مدح أحدا من المخلوقين من بني آدم إلا الأنبياء، ولما دخل التتار إلى بغداد دعي إلى ذارئها كرمون بن هولاكو فأبى أن يجيب إليه، وأعد في داره حجارة فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الأحجار فهشم منهم جماعة، فلما خلصوا إليه قتل بعكازه أحدهم، ثم قتلوه شهيدا رحمه الله تعالى، وله من العمر ثمان وستون سنة.

وقد أورد له قطب الدين اليونيني من ديوانه قطعة صالحة في ترجمته في (الذيل) استوعب حروف المعجم، وذكر غير ذلك قصائد طوالا كثيرة حسنة.

البهاء زهير صاحب الديوان

وهو زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن جعفر المهلبي العتكي المصري، ولد بمكة ونشأ بقوص، وأقام بالقاهرة، الشاعر المطبق الجواد في حسن الخط له ديوان مشهور، وقدم على السلطان الصالح أيوب، وكان غزير المروءة حسن التوسط في إيصال الخير إلى الناس، ودفع الشر عنهم، وقد أثنى عليه ابن خلكان وقال: أجاز لي رواية ديوانه وقد، بسط ترجمته القطب اليونيني.

الحافظ زكي الدين المنذري

عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد، الإمام العلامة محمد أبو زكي الدين المنذري الشافعي المصري، أصله من الشام وولد بمصر، وكان شيخ الحديث بها مدة طويلة، إليه الوفادة والرحلة من سنين متطاولة.

وقيل: إنه ولد بالشام سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وعني بهذا الشأن، حتى فاق أهل زمانه فيه، وصنف وخرج واختصر (صحيح مسلم)، و(سنن أبي داود)، وهو أحسن اختصارا من الأول، وله اليد الطولى في اللغة والفقه والتاريخ، وكان ثقة حجة متحريا زاهدا توفي يوم السبت رابع ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكاملية بمصر.

ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.

النور أبو بكر بن محمد بن محمد بن عبد العزيز

ابن عبد الرحيم بن رستم الأشعري الشاعر المشهور الخليع، كان القاضي صدر الدين بن سناء الدولة قد أجلسه مع الشهود تحت الساعات، ثم استدعاه الناصر صاحب البلد فجعله من جلسائه وندمائه، وخلع عليه خلع الأجناد فانسلخ من هذا الفن إلى غيره، وجمع كتابا سماه (الزرجون في الخلاعة والمجون) وذكر فيه أشياء كثيرة من النظم والنثر والخلاعة، ومن شعره الذي لا يحمد:

لذة العمر خمسة فاقتنيها ** من خليعٍ غدا أديبا فقيها

في نديم وقينةٍ وحبيبٍ ** ومدامٍ وسب من لام فيها

الوزير بن العلقمي الرافضي قبحه الله

محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب، الوزير مؤيد الدين أبو طالب ابن العلقمي، وزير المستعصم البغدادي، وخدمة في زمان المستنصر أستاذ دار الخلافة مدة طويلة، ثم صار وزير المستعصم وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين، مع أنه من الفضلاء في الإنشاء والأدب، وكان رافضيا خبيثا رديء الطوية على الإسلام وأهله.

وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، ثم مالأ على الإسلام وأهله الكفار هولاكو خان، حتى فعل ما فعل بالإسلام وأهله مما تقدم ذكره.

ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيدي التتار الذين مالأهم وزال عنه ستر الله، وذاق الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وقد رأته امرأة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذونا وهو مرسم عليه، وسائق يسوق به ويضرب فرسه، فوقفت إلى جانبه وقالت له:

يا ابن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا، وقلة وذلة، في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه، ورأى بعينيه من الإهانة من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف.

وتولى بعده ولده الخبيث الوزارة، ثم أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة سريعا، وقد هجاه بعض الشعراء فقال فيه:

يا فرقة الإسلام نوحوا واندبوا ** أسفا على ما حل بالمستعصم

دست الوزارة كان قبل زمانه ** لابن الفرات فصار لابن العلقمي

محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة

فتح الدين أبو عبد الله بن العدل محتسب دمشق، كان مشكورا حسن الطريقة، وجده العدل نجيب الدين أبو محمد عبد الله بن حيدرة، وهو واقف المدرسة التي بالزبداني في سنة تسعين وخمسمائة تقبل الله منه وجزاه خيرا.

القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم

أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث المدرس بالإسكندرية، ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير هناك واختصر (الصحيحين)، وشرح (صحيح مسلم)المسمى بالمفهم، وفيه أشياء حسنة مفيدة محررة رحمه الله.

الكمال إسحاق بن أحمد بن عثمان

أحد مشايخ الشافعية، أخذ عنه الشيخ محيي الدين النووي وغيره، وكان مدرسا بالرواحية، توفي في ذي القعدة من هذه السنة.

العماد داود بن عمر بن يحيى بن عمر بن كامل

أبو المعالي وأبو سليمان الزبيدي المقدسي، ثم الدمشقي خطيب بيت الأبار، وقد خطب بالأموي ست سنين بعد ابن عبد السلام، ودرس بالغزالية، ثم عاد إلى بيت الأبار فمات بها.

علي بن محمد بن الحسين، صدر الدين أبو الحسن بن النيار شيخ الشيوخ ببغداد

وكان أولا مؤدبا للإمام المستعصم، فلما صارت الخلافة إليه برهة من الدهور رفعه وعظمه وصارت له وجاهة عنده، وانضمت إليه أزمة الأمور، ثم إنه ذبح بدار الخلافة كما تذبح الشاة على أيدي التتار

الشيخ علي العابد الخباز

كان له أصحاب وأتباع ببغداد، وله زاوية يزار فيها، قتلته التتار وألقي على مزبلة بباب زاويته ثلاثة أيام حتى أكلت الكلاب من لحمه، ويقال إنه أخبر بذلك عن نفسه في حال حياته.

محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفرج أبو عبد الله المقدسي

الخطيب براد سمع الكثير، وعاش تسعين سنة، ولد في سنة ثلاث وخمسين فسمع الناس عليه الكثير بدمشق، ثم عاد فمات ببلده برادا في هذه السنة، رحمه الله.

البدر لؤلؤ صاحب الموصل

الملقب بالملك الرحيم، توفي في شعبان عن مائة سنة، وقد ملك الموصل نحوا من خمسين سنة، وكان ذا عقل ودهاء ومكر، لم يزل يعمل على أولاد أستاذه حتى أبادهم وأزال الدولة الأتابكية عن الموصل، ولما انفصل هولاكو خان عن بغداد - بعد الوقعة الفظيعة العظيمة - سار إلى خدمته طاعة له، ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمه، ورجع من عنده فمكث بالموصل أياما يسيرة. ثم مات ودفن بمدرسته البدرية، وتأسف الناس عليه لحسن سيرته وجودة معدلته، وقد جمع له الشيخ عز الدين كتابه المسمى (بالكامل في التاريخ) فأجازه عليه وأحسن إليه، وكان يعطي لبعض الشعراء ألف دينار.

وقام في الملك بعده ولده الصالح إسماعيل.

وقد كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمنيا اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ابن آقسنقر الأتابكي، صاحب الموصل، وكان مليح الصورة، فحظي عنده وتقدم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه.

ثم إنه قتل أولاد أستاذه غيلة واحدا بعد واحد إلى أن لم يبق معه أحد منهم، فاستقل هو بالملك، وصفت له الأمور، وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد على قنديلا ذهبا زنته ألف دينار، وقد بلغ من العمر قريبا من تسعين سنة، وكان شابا حسن الشباب من نضارة وجهه، وحسن شكله، وكانت العامة تلقبه: قضيب الذهب.

وكان ذا همة عالية، وداهية شديد المكر، بعيد الغور، وبعثه إلى مشهد علي بذلك القنديل الذهب في كل سنة دليل على قلة عقله وتشيعه، والله أعلم.

الملك الناصر داود المعظم

ترجمه الشيخ قطب الدين اليونيني في (تذييله على المرآة) في هذه السنة، وبسط ترجمته جدا وما جرى له من أول أمره إلى آخره.

وقد ذكرنا ترجمته في الحوادث، وأنه أودع الخليفة المستعصم في سنة سبع وأربعين وديعة قيمتها مائة ألف دينار فجحدها الخليفة، فتكرر وفوده إليه، وتوسله بالناس في ردها إليه، فلم يفد من ذلك شيئا، وتقدم أنه قال لذلك الشاعر الذي مدح الخليفة بقوله:

لو كنت في يوم السقيفة حاضرا ** كنت المقدم والإمام الأورعا

فقال له الناصر داود: أخطأت، فقد كان جد أمير المؤمنين العباس حاضرا يوم السقيفة، ولم يكن المقدم وهو أفضل من أمير المؤمنين، وإنما كان المقدم أبو بكر الصديق.

فقال الخليفة: صدق، وخلع عليه، ونفى ذلك الشاعر - وهو الوجيه الفزاري - إلى مصر، وكانت وفاة الناصر داود بقرية البويضا مرسما عليه، وشهد جنازته صاحب دمشق.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697