→ ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة | البداية والنهاية – الجزء الثالث عشر ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة ابن كثير |
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ← |
فيها: كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبن مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرّس لكل مذهب، وشيخ حديث وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد.
ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرت الدروس بها وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة وأهل دولته من الأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء، ولم يتخلف أحد من هؤلاء، وعمل سماط عظيم بها أكل منه الحاضرون، وحمل منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواص والعوام، وخلع على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها، وعلى جميع الدولة والفقهاء والمعيدين وكان يوما مشهودا.
وأنشدت الشعراء الخليفة المدائح الرائقة والقصائد الفائقة، وقد ذكر ذلك ابن الساعي في تاريخه مطولا مبسوطا شافيا كافيا، وقدر لتدريس الشافعية بها الإمام محي الدين أبو عبد الله بن فضلان.
وللحنفية الإمام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني.
وللحنابلة الإمام العالم محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، ودرس عنه يومئذ ابنه عبد الرحمن نيابة لغيبته في بعض الرسالات إلى الملوك، ودرس للمالكية ويومئذ الشيخ الصالح العالم أبو الحسن المغربي المالكي نيابة أيضا، حتى يعين شيخ غيره، ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها.
وكان المتولي لعمارة هذه المدرسة مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي الذي وزر بعد ذلك، وقد كان إذ ذاك أستاذ دار الخلافة، وخلع عليه يومئذ وعلى الوزير نصير الدين.
ثم عزل مدرس الشافية في رابع عشر ذي القعدة بقاضي القضاة أبي المعالي عبد الرحمن بن مقبل، مضافا إلى ما بيده من القضاء، وذلك بعد وفاة محيي الدين بن فضلان، وقد ولي القضاء مدة ودرس بالنظامية وغيرها، ثم عزل ثم رضي عنه ثم درس آخر وقت بالمستنصرية كما ذكرنا، فلما توفي وليها بعده ابن مقبل رحمهم الله تعالى.
وفيها: عمر الأشرف مسجد جراح ظاهر باب الصغير.
وفيها: قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج إلى الأشرف ومعه هدايا منها دب أبيض شعره مثل شعر الأسد، وذكروا أنه ينزل إلى البحر فيخرج السمك فيأكله.
وفيها: طاووس أبيض أيضا.
وفيها: كملت عمارة القيسارية التي هي قبل النحاسين، وحول إليها سوق الصاغة وشغر سوق اللؤلؤ الذي كان فيه الصاغة العتيقة عند الحدادين.
وفيها: جددت الدكاكين التي بالزيادة. قلت: وقد جددت شرقي هذه الصاغة الجديدة قيساريتان في زماننا وسكنها الصياغ وتجار الذهب، وهما حسنتان وجميعهما وقف الجامع المعمور.
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:
أبو الحسن علي بن أبي علي ابن محمد بن سالم الثعلبي
الشيخ سيف الدين الآمدي ثم الحموي ثم الدمشقي، صاحب المصنفات في الأصلين وغير ذلك، من ذلك: (أبكار الأفكار في الكلام)، و(دقائق الحقائق في الحكمة)، و(أحكام الأحكام في أصول الفقه)، وكان حنبلي المذهب فصار شافعيا أصوليا منطقيا جدليا خلافيا، وكان حسن الأخلاق سليم الصدر كثير البكاء رقيق القلب، وقد تكلموا فيه بأشياء الله أعلم بصحتها.
والذي يغلب على الظن أنه ليس لغالبها صحة، وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظم والكامل يكرمونه وإن كانوا لا يحبونه كثيرا، وقد فوض إليه المعظم تدريس العزيزية، فلما ولي الأشرف دمشق عزله عنها ونادى بالمدارس أن لا يشتغل أحد بغير التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بعلوم الأوائل نفيته، فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفي بدمشق في هذه السنة في صفر، ودفن بتربته بسفح قاسيون.
وذكر القاضي ابن خلكان: أنه اشتغل ببغداد على أبي الفتح نصر بن فتيان بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن ابن فضلان وغيره، وحفظ طريقة الخلاف للشريف وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام واشتغل بعلوم المعقول، ثم إلى الديار المصرية فأعاد بمدرسة الشافعية بالقرافة الصغرى، وتصدر بالجامع الظافري، واشتهر فضله وانتشرت فضائله، فحسده أقوام فسعوا فيه وكتبوا خطوطهم باتهامه بمذهب الأوائل والتعطيل والانحلال، فطلبوا من بعضهم أن يوافقهم فكتب:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ** فالقوم أعداء له وخصوم
فانتقل سيف الدين إلى حماه ثم تحول إلى دمشق فدرس بالعزيزية، ثم عزل عنها ولزم بيته إلى أن مات في هذه السنة، وله ثمانون عاما رحمه الله تعالى وعفا عنه.
واقف الركنية الأمير ركن الدين منكورس الفلكي
غلام فلك الدين أخي الملك العادل، لأنه وقف الفلكية كما تقدم، وكان هذا الرجل من خيار الأمراء، ينزل في كل ليلة وقت السحر إلى الجامع وحده بطوافه ويواظب على حضور الصلوات فيه مع الجماعة، وكان قليل الكلام كثير الصدقات، وقد بنى المدرسة الركنية بسفح قاسيون، ووقف عليها أوقافا كثيرة وعمل عندها تربة، وحين توفي بقرية حدود حمل إليها رحمه الله تعالى.
الشيخ الإمام العالم رضي الدين
أبو سليمان بن المظفر بن غنائم الجيلي الشافعي، أحد فقهاء بغداد والمفتيين بها والمشغلين للطلبة مدة طويلة، له كتاب في المذهب نحو من خمسة عشر مجلدا، يحكى فيه الوجوه الغريبة والأقوال المستغربة وكان لطيفا ظريفا، توفي رحمه الله يوم الأربعاء ثالث ربيع الأول من هذه السنة ببغداد.
الشيخ طي المصري أقام مدة بالشام في زاوية له بدمشق، وكان لطيفا كيسا زاهدا، يتردد إليه الأكابر ودفن بزاويته المذكورة رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله الأرمني
أحد العباد الزهاد الذين جابوا البلاد وسكنوا البراري والجبال والوهاد، واجتمعوا بالأقطاب والأبدال والأوتاد، وممن كانت له الأحوال والمكاشفات والمجاهدات والسياحات في سائر النواحي والجهات، وقد قرأ القرآن في بدايته وحفظ كتاب (القدوري على مذهب أبي حنيفة).
ثم اشتغل بالمعاملات والرياضات، ثم أقام آخر عمره بدمشق حتى مات بها ودفن بسفح قاسيون، وقد حكي عنه أشياء حسنة منها أنه قال: اجتزت مرة في السياحة ببلدة فطالبتني نفسي بدخولها فآليت أن لا أستطعم منها بطعام، ودخلتها فمررت برجل غسال فنظر إلى شزرا فخفت منه وخرجت من البلد هاربا، فلحقني ومعه طعام فقال: كل فقد خرجت من البلد، فقلت له: وأنت في هذا المقام وتغسل الثياب في الأسواق؟
فقال: لا ترفع رأسك ولا تنظر إلي شيء من عملك، وكن عبدا الله فإن استعملك في الحش فارض به، ثم قال رحمه الله.
ولو قيل لي مت قلت سمعا وطاعةً ** وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا
وقال اجتزت مرة في سياحتي براهب في صومعة فقال لي: يا مسلم ما أقرب الطرق عندكم إلى الله عز وجل؟
قلت: مخالفة النفس، قال: فرد رأسه إلى صومعته، فلما كنت بمكة زمن الحج إذا رجل يسلم علي عند الكعبة فقلت: من أنت؟
فقال: أنا الراهب، قلت: بم وصلت إلى هاهنا؟ قال: بالذي قلت.
وفي رواية عرضت الإسلام على نفسي فأبت، فعلمت أنه حق فأسلمت وخالفتها، فأفلح وأنجح.
وقال: بينا أنا ذات يوم بجبل لبنان إذا حرامية الفرنج فأخذوني فقيدوني وشدوا وثاقي فكنت عندهم في أضيق حال، فلما كان النهار شربوا وناموا، فبينا أنا موثوق إذا حرامية المسلمين قد أقبلوا نحوهم فأنبهتهم فلجأوا إلى مغارة هنالك فسلموا من أولئك المسلمين، فقالوا: كيف فعلت هذا وقد كان خلاصك على أيديهم؟
فقلت: إنك أطعمتموني فكان من حق الصحبة أن لا أغشكم، فعرضوا علي شيئا من متاع الدنيا فأبيت وأطلقوني.
وحكى السبط قال: زرته مرة ببيت المقدس وكنت قد أكلت سمكا مالحا، فلما جلست عنده أخذني عطش جدا وإلى جانبه إبريق فيه ماء بارد فجعلت أستحيي منه، فمد يده إلى الإبريق وقد أحمر وجهه وناولني، وقال خذ كم تكاسر، فشربت.
وذكر أنه لما ارتحل من بيت المقدس كان سورها بعد قائما جديدا على عمارة الملك صلاح الدين قبل أن يخربه المعظم، فوقف لأصحابه يودعهم ونظر إلى السور، وقال: كأني بالمعاول وهي تعمل في هذا السور عما قريب، فقيل له معاول المسلمين أو الفرنج؟ فقال: بل معاول المسلمين، فكان كما قال.
وقد ذكرت له أحوال كثيرة حسنة، ويقال إن أصله أرمني وإنه أسلم على يدي الشيخ عبد الله اليونيني، وقيل بل أصله رومي من قونية، وأنه قدم على الشيخ عبد الله اليونيني وعليه برنس كبرانس الرهبان، فقال له: أسلم فقال: أسلمت لرب العالمين.
وقد كانت أمه داية امرأة الخليفة، وقد جرت له كائنة غريبة فسلمه الله بسبب ذلك، وعرفه الخليفة فأطلقه.
البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر | |
---|---|
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697 |