→ كتاب الصيام (مسألة 763 - 770) | ابن حزم - المحلى كتاب الصيام (مسألة 771 - 774) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الصيام (مسألة 775 - 787) ← |
كتاب الصيام
771 - مسألة : ومن وطئ مرارا في اليوم عامدا فكفارة واحدة فقط ، ومن وطئ في يومين عامدا فصاعدا فعليه لكل يوم كفارة ، سواء كفر قبل أن يطأ الثانية أو لم يكفر : قال أبو حنيفة : عليه لكل ذلك - ولو أنه أفطر في كل يوم من رمضان عامدا - كفارة واحدة فقط إلا أن يكون قد كفر ثم أفطر نهارا آخر فعليه كفارة أخرى . وقد روي عنه : أنه سواء كفر أو لم يكفر ليس عليه إلا كفارة واحدة إذا كانت الأيام من شهر واحد ؛ فإن كان اليومان اللذان أفطر فيهما من شهر رمضان اثنين ، فلكل يوم منهما كفارة غير كفارة اليوم الآخر . فلم يختلف قوله فيمن تعمد الفطر أيام رمضان كلها أو بعضها أو يوما واحدا منها في أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة فقط ، إذا لم يكفر في خلال ذلك ، ولم يختلف قوله فيمن أفطر يومين من رمضانين أن عليه كفارتين كفر بينهما أو لم يكفر . واختلف قوله فيمن أفطر يومين فصاعدا من رمضان واحد وكفر في خلال ذلك ؛ فمرة قال : عليه كفارة أخرى ، ومرة قال : ليس عليه إلا الكفارة التي كفر بعد . وقال مالك والليث ، والحسن بن حي ، والشافعي : مثل قولنا وهو عطاء ، وأحد قول الشافعي . قال أبو محمد : وهذا مما تناقض فيه أبو حنيفة وخالف فيه جمهور العلماء . برهان صحة قولنا - : أمر رسول الله ﷺ الذي وطئ امرأته في رمضان بالكفارة ، فصح أن لذلك اليوم الكفارة المأمور بها ، وكل يوم فلا فرق بينه وبين ذلك اليوم ؛ لأن الخطاب بالكفارة واقع عليه فيه كما وقع في اليوم الأول ولا فرق . فإن قيل : هلا قستم هذا على الحدود ؟ قلنا : القياس باطل ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأن الحدود التي يقيمها الإمام والحاكم على المرء كرها ، ولا يحل للمرء أن يقيمها على نفسه ، بخلاف الكفارة التي إنما يقيمها المرء على نفسه وهو مخاطب بها على نفسه ، وليس مخاطبا بالحدود على نفسه ؛ وفروق أخر نذكرها إن شاء الله تعالى في الحدود ؟ وأيضا : فإن أبا حنيفة رأى إن كان اليومان من رمضانين فكفارتان ولا بد ؛ ولا خلاف منه في أنه لو زنى بامرأتين من بلدين مختلفتين في عامين مختلفين فحد واحد ، ولو شرب خمرا من عصير عام واحد ، وخمرا من عصير عام آخر فحد واحد ، ولو سرق في عامين مختلفين فقطع واحد - وبالله تعالى التوفيق . ومن أعجب الأشياء أن أبا حنيفة قال ما ذكرنا ، ورأى فيمن ظاهر من امرأتيه بلفظ واحد أن عليه لكل امرأة كفارة أخرى . وقال فيمن قال في مجلس : والله لا كلمت زيدا ، ثم قال في مجلس آخر : والله لا كلمت زيدا - : أنهما يمينان يجب عليه كفارتان ، ومن قال : والله والرحمن لا كلمت زيدا - : فعليه كفارتان إلا أن ينوي أنهما يمين واحدة . قال علي : وأما إذا كرر الوطء في يوم واحد مرارا فإن النبي ﷺ لم يأمره إلا بكفارة واحدة ولم يسأله أعاد أم لا ؟ وأيضا : فإنه إذا وطئ فقد أفطر ، فالوطء الثاني وقع في غير صيام فلا كفارة فيه ، وأيضا : فإن الواطئ بأول إيلاجه متعمدا ذاكرا وجبت عليه الكفارة عاود أو لم يعاود ، ولا كفارة في إيلاجه ثانية بالنص ، والإجماع ؟
772 - مسألة : ومن أفطر رمضان كله بسفر أو مرض فإنما عليه عدد الأيام التي أفطر ولا يجزئه شهر ناقص مكان تام ، ولا يلزمه شهر تام مكان ناقص لقول الله تعالى : { فعدة من أيام أخر } وقال الحسن بن حي : يجزئ شهر مكان شهر إذا صام ما بين الهلالين ولا برهان على صحة هذا القول .
773 - مسألة : وللمرء أن يفطر في صوم التطوع إن شاء ، لا نكره له ذلك ، إلا أن عليه إن أفطر عامدا قضاء يوم مكانه . برهان ذلك - : أن الشريعة كلها فرض وتطوع ، وهذا معلوم بنصوص القرآن ، والسنن ، والإجماع ، وضرورة العقل ، إذ لا يمكن قسم ثالث أصلا ؛ فالفرض هو الذي يعصي من تركه ؛ والتطوع هو الذي لا يعصي من تركه ولو عصى لكان فرضا ، والمفرط في التطوع تارك ما لا يجب عليه فرضا ، فلا حرج عليه في ذلك . وقد { أخبر رسول الله ﷺ الأعرابي الذي سأله عن الصوم فأخبره عليه السلام برمضان ؟ فقال : هل علي غيره ؟ قال : لا إلا أن تتطوع شيئا ؟ فقال الأعرابي : والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه ؛ فقال عليه السلام : أفلح إن صدق ، دخل الجنة إن صدق } فلم يجعل النبي ﷺ في ترك التطوع كراهة أصلا . وهكذا نقول فيمن قطع صلاة تطوع ، أو بدا له في صدقة تطوع ، أو فسخ عمدا حج تطوع ، أو اعتكاف تطوع ، ولا فرق لما ذكرنا ، وما عدا ذلك فدعوى لا برهان عليها ، وإيجاب ما لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله ﷺ إلا أنه لا قضاء عليه في شيء مما ذكرنا إلا في فطر التطوع فقط لما نذكر إن شاء الله تعالى ؟ فإن قيل : إنكم توجبون فرضا في الصوم غير رمضان كالنذر وصيام الكفارات ؟ قلنا : نوجب ما أوجب رسول الله ﷺ ونضيفه إلى فرض رمضان ، ولا نوجب ما لم يوجب ولا نتعدى حدوده ولا نعارضه بآرائنا ، وقد جاءت في ذلك سنة - : كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب : أخبرني عبد الله بن الهيثم نا أبو بكر الحنفي نا سفيان عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن مجاهد عن عائشة أم المؤمنين قالت : { إن رسول الله ﷺ أتانا يوما فقال : هل عندكم من شيء ؟ قلنا : نعم ، أهدي لنا حيس ؟ فقال : أما إني أصبحت أريد الصوم فأكل } . وقد رويناه من طريق عائشة بنت طلحة عن أم المؤمنين ؟ قال علي : وهذه سنة ثابتة ، نا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا محمد بن بشار نا جعفر بن عون نا أبو العميس هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : { آخى النبي ﷺ بين سلمان ، وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال : كل قال فإني صائم ؛ قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل ؟ فأكل } ، وذكر باقي الحديث . وفيه : { أن سلمان قال له : إن لربك عليك حقا ، وإن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه ، فأتى النبي ﷺ فقال عليه السلام : صدق سلمان } فهذا النبي ﷺ قد صوب قول سلمان في إفطار الصائم المتطوع ولم ينكره : ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي داود عمر بن سعد الحفري عن سفيان الثوري عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال : { أتي النبي ﷺ بطعام وهو بمر الظهران فقال لأبي بكر وعمر ادنوا فكلا ؟ قالا : إنا صائمان ، فقال رسول الله ﷺ ارحلوا لصاحبكم ، اعملوا لصاحبكم ، ادنوا فكلا } . وهذه كلها آثار صحاح ، وبهذا يقول جمهور السلف . روينا من طريق وكيع عن سيف بن سليمان المكي عن قيس بن سعد عن داود بن أبي عاصم عن سعيد بن المسيب قال : خرج عمر بن الخطاب يوما على أصحابه فقال : إني أصبحت صائما فمرت بي جارية لي فوقعت عليها فما ترون ؟ قال : فلم يألوا ما شكوا عليه ، وقال له علي : أصبت حلالا وتقضي يوما مكانه ؛ قال له عمر : أنت أحسنهم فتيا . ومن طريق وكيع عن مسعر بن كدام عن عمران بن عمير عن سعيد بن جبير عن ابن عمر في الذي يأكل بعد أن أصبح صائما قال ابن عمر : لا جناح عليه ما لم يكن نذرا أو قضاء ومن طريق وكيع عن الربيع بن صبيح عن قيس بن سعد عن ابن عباس قال : الصيام تطوعا والطواف والصلاة والصدقة إن شاء مضى وإن شاء قطع . وروينا أنه كان يصبح متطوعا ثم يفطر ولا يبالي ويأمر بقضاء يوم مكانه . وعن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه كان لا يرى بإفطار التطوع بأسا . وهو قول سعيد بن جبير ، وعطاء ، وسليمان بن موسى ؛ والشافعي ، وأبي سليمان ، إلا أنهما لم يريا في ذلك قضاء . وقال مالك : إن أفطر فيه ناسيا يتم صومه ولا شيء عليه وإن أفطر فيه عمدا فقد أساء ويقضي . قال علي : ولا برهان على صحة هذا القول مع خلافه لمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم : أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وأم المؤمنين وغيرهم . وأما إيجابنا القضاء فلما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن عيسى عن ابن وهب عن جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة { عن عائشة قالت : أصبحت صائمة أنا وحفصة أهدي لنا طعام فأعجبنا فأفطرنا فدخل النبي ﷺ فبدرتني حفصة فسألته ؟ فقال : صوما يوما مكانه } . قال علي : لم يخف علينا قول من قال : إن جرير بن حازم أخطأ في هذا الخبر ، إلا أن هذا ليس بشيء لأن جريرا ثقة ؛ ودعوى الخطأ باطل إلا أن يقيم المدعي له برهانا على صحة دعواه ؛ وليس انفراد جرير بإسناده علة ، لأنه ثقة . قال أبو محمد : لا خلاف بين أحد في أن حكم ما أفطر به من جماع أو غيره حكم واحد ، فمن موجب للقضاء في كل ذلك ، ومسقط له في كل ذلك ؛ وقد صح النص بالقضاء في الإفطار فما نبالي بأي شيء أفطر ؛ وبالله تعالى التوفيق . وأما تفريق مالك بين الإفطار ناسيا في صوم تطوع أو فرض فخطأ لا وجه له ، وليس إلا صائم أو مفطر ، فإن كان مفطرا فالحكم واحد في القضاء أو تركه ؛ وإن كان صائما فلا قضاء على صائم .
774 - مسألة : ومن أفطر عامدا في قضاء رمضان فليس عليه إلا قضاء يوم واحد فقط ؛ لأن إيجاب القضاء إيجاب شرع لم يأذن به الله تعالى . وقد صح أنه عليه السلام قضى ذلك اليوم من رمضان فلا يجوز أن يزاد عليه غيره بغير نص ولا إجماع . وروينا عن قتادة أن عليه الكفارة كمن فعل ذلك في رمضان ؛ لأنه بدل منه . قال أبو محمد : هذا أصح ما يكون من القياس إن كان القياس حقا ، وعن بعض السلف - : عليه قضاء يومين ، يوم رمضان ، ويوم القضاء - .