الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الأربعون


كتاب الصيام

وأما الحقنة ، والتقطير في الإحليل ، والتقطير في الأذن ، والسعوط ، والكحل ، ومداواة الجائفة ، والمأمومة - : فإنهم قالوا : إن ما وصل إلى الجوف وإلى باطن الرأس - لأنه جوف - فإنه ينقض الصوم ، قياسا على الأكل ؟ ثم تناقضوا ، فلم ير الحنفيون ، والشافعيون في الكحل قضاء ، وإن وصل إلى حلقه ، ولم ير مالك بالفتائل تستدخل لدواء بأسا للصائم ، ولم ير الكحل يفطر ، إلا أن يكون فيه عقاقير ؟ وقال الحسن بن حي : لا تفطر الحقنة إن كانت لدواء ؟ وعن إبراهيم النخعي لا بأس بالسعوط للصائم ؟ ومن طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي . أن أباه ، ومنصور بن المعتمر ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة كانوا يقولون : إن اكتحل الصائم فعليه أن يقضي يوما مكانه . قال أبو محمد : إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع ، وتعمد القيء ، والمعاصي ، وما علمنا أكلا ، ولا شربا ، يكون على دبر ، أو إحليل ، أو أذن ، أو عين ، أو أنف ، أو من جرح في البطن ، أو الرأس وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف - بغير الأكل ، والشرب - ما لم يحرم علينا إيصاله والعجب أن من رأى منهم الفطر بكل ذلك لا يرى على من احتقن بالخمر ، أو صبها في أذنه حدا فصح أنه ليس شربا ، ولا أكلا ؟ ثم تناقضهم في الكحل عجب جدا وهو أشد وصولا إلى الحلق ، ومجرى الطعام من القطور في الأذن ؟ واحتج بعضهم بأنه كغبار الطريق ، والطحين ؟ فقيل له : ليس مثله ؛ لأن غبار الطريق ، والطحين : لم يتعمد إيصاله إلى الحلق ، والكحل تعمد إيصاله ؟ وأيضا : فإن قياس السعوط على غبار الطريق ، والطحين أولى ؛ لأن كل ذلك مسلكه الأنف ؛ ولكنهم لا يحسنون قياسا ولا يلتزمون نصا ، ولا يطردون أصلا وأما المضمضة ، والاستنشاق فيغلبه الماء فيدخل حلقه عن غير تعمد . فإن أبا حنيفة قال : إن كان ذاكرا لصومه فقد أفطر وعليه القضاء ، وإن كان ناسيا فلا شيء عليه - وهو قول إبراهيم . وقال مالك : عليه القضاء في كل ذلك . وقال ابن أبي ليلى : لا قضاء عليه ، ذاكرا كان أوغير ذاكر . وروينا عن بعض التابعين - وهو الشعبي ، وحماد - وعن الحسن بن حي : إن كان ذلك في وضوء لصلاة فلا شيء عليه ، وإن كان لغير وضوء فعليه القضاء . قال أبو محمد : قال الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال رسول الله ﷺ : { رفع عن أمتي : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . وروينا قولنا في هذه المسألة عن عطاء بن أبي رباح . واحتج من أفطر بذلك بالأثر الثابت عن رسول الله ﷺ { : وإذا استنشقت فبالغ ، إلا أن تكون صائما } . قال أبو محمد : ولا حجة لهم فيه ؛ لأنه ليس فيه أنه يفطر الصائم بالمبالغة في الاستنشاق ؛ وإنما فيه إيجاب المبالغة في الاستنشاق لغير الصائم ، وسقوط وجوب ذلك عن الصائم فقط ؛ لا نهيه عن المبالغة ؛ فالصائم مخير بين أن يبالغ في الاستنشاق وبين أن لا يبالغ فيه ، وأما غير الصائم فالمبالغة في الاستنشاق فرض عليه ، وإلا كان مخالفا لأمره عليه السلام : بالمبالغة ؛ ولو أن امرأ يقول : إن المبالغة في الاستنشاق تفطر الصائم لكان أدخل في التمويه منهم ؛ لأنه ليس في هذا الخبر من وصول الماء إلى الحلق أثر ولا عثير ولا إشارة ولا دليل ؛ ولكنهم لا يزالون يتكهنون في السنن ما يوافق آراءهم بالدعاوى الكاذبة وبالله تعالى التوفيق

وأما الذباب يدخل في الحلق غلبة ، ومن رفع رأسه إلى السماء فتثاءب فوقع في حلقه نقطة من المطر - : فإن مالكا قال : يفطر ؛ وقال أبو حنيفة : لا يفطر بالذباب . وقد روينا من طريق وكيع عن أبي مالك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في الذباب يدخل حلق الصائم قال : لا يفطر ؟ وعن وكيع عن الربيع عن الحسن في الذباب يدخل حلق الصائم قال : لا يفطر . وعن الشعبي مثله : وما نعلم لابن عباس في هذا مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم إلا تلك الرواية الضعيفة عنه . وعن ابن مسعود : الفطر مما دخل وليس مما خرج ؛ والوضوء مما خرج وليس مما دخل ؟ وكلهم قد خالف هذه الرواية ؛ لأنهم يرون الفطر بتعمد خروج المني ، وهو خارج لا داخل ، ويبطلون الوضوء بالإيلاج ، وهو داخل لا خارج ؟ قال أبو محمد : قد قلنا : إن ما ليس أكلا ، ولا شربا ، ولا جماعا ، ولا معصية ، فلا يفطر ؛ لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك ، ولا رسوله ﷺ

وأما السواك بالرطب ، واليابس ، ومضغ الطعام أو ذوقه ما لم يصل منه إلى الحلق أي شيء بتعمد - : فكلهم لا يرون الصيام بذلك منتقضا ، وإن كان الشافعي كره السواك في آخر النهار ، ولم يبطل بذلك الصوم . وكره بعضهم مضغ الطعام وذوقه ، وهذا لا شيء ؛ لأن كراهة ما لم يأت قرآن ولا سنة بكراهته خطأ ، وهم لا يكرهون المضمضة ، ولا فرق بينهما وبين مضغ الطعام ؛ بل الماء أخفى ولوجا وأشد امتزاجا بالريق من الطعام ؛ وهذا مما خالفوا فيه القياس ؟ واحتج الشافعي بالخبر الثابت : { إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك } . قال أبو محمد : الخلوف خارج من الحلق ، وليس في الأسنان ، والمضمضة تعمل في ذلك عمل السواك ، وهو لا يكرهها ، وقول الشافعي في هذا هو قول مجاهد ، ووكيع ، وغيرهما . وقد حص رسول الله ﷺ على السواك لكل صلاة ، ولم يخص صائما من غيره فالسواك سنة - للعصر ، والمغرب ، وسائر الصلوات ؟ وقد كره أبو ميسرة الرطب من السواك للصائم ، ولم يكرهه الحسن وغيره . وروينا من طريق الحسن ، وحماد ، وإبراهيم : أنهم كانوا لا يكرهون للصائم أن يمضغ الطعام للصبي ، وكان الحسن يفعله

وأما مضغ العلك ، والزفت ، والمصطكى : فروينا من طريق لا يصح عن أم حبيبة أم المؤمنين : أنها كرهت العلك للصائم ؟ وروينا عن الشعبي : أنه لم ير به بأسا ؟ وقد قلنا : إن ما لم يكن أكلا ، ولا شربا ، ولا جماعا ، ولا معصية : فهو مباح في الصوم ؛ ولم يأت به نص بنهي الصائم عن شيء مما ذكرنا ، وليس أكلا ، ولا شربا ، ولا ينقص منه شيء بطول المضغ لو وزن - وبالله تعالى التوفيق

وأما غبار ما يغربل فقد ذكرنا عن أبي حنيفة : أنه لا يفطر ، ورويناه أيضا من طريق ابن وضاح عن سحنون وهو لا يسمى أكلا ، ولا شربا ، فلا يفطر الصائم

وأما طعام يخرج من بين الأسنان في أي وقت من النهار خرج فرمى به - : فهذا لم يأكل ، ولا شرب ؛ فلا حرج ، ولا يبطل الصوم - : وبالله تعالى التوفيق ؛ وهو قولهم كلهم .

وأما من أصبح جنبا عامدا أو ناسيا - ما لم يتعمد التمادي ضحى كذلك حتى يترك الصلاة عامدا ذاكرا لها : - فإن السلف اختلفوا في هذا ؟ فرأى بعضهم أنه يبطل صومه بترك الغسل قبل الفجر ؟ وقال الحنفيون ، والمالكيون ؛ والشافعيون : صومه تام وإن تعمد أن لا يغتسل من الجنابة شهر رمضان كله ؟ قال أبو محمد : أما هذا القول فظاهر الفساد ، لما ذكرنا قبل من أن تعمد المعصية يبطل الصوم ، ولا معصية أعظم من تعمد ترك الصلاة حتى يخرج وقتها ؟ وذهبت طائفة من السلف إلى ما ذكرنا قبل - : كما روينا من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني عبد الله بن عبد الله بن عمر : " أنه احتلم ليلة في رمضان ثم نام فلم ينتبه حتى أصبح ، قال : فلقيت أبا هريرة فاستفتيته ؟ فقال : أفطر ، فإن رسول الله ﷺ كان يأمر بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا قال : فجئت إلى أبي فأخبرته بما أفتاني به أبو هريرة ، فقال : أقسم بالله لئن أفطرت لأوجعن متنك ، صم ، فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل . وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة سمعت عبد الله بن عمرو القارئ قال { : سمعت أبا هريرة يقول : لا ورب هذا البيت ، ما أنا قلت : من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصم ، محمد - ورب الكعبة - قاله } . قال أبو محمد : وقد عاب من لا دين له ولا علم له هذا الخبر بأن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام روى عن أبي هريرة أنه قال له في هذا الخبر : إن أسامة بن زيد حدثه به ، وإن الفضل بن عباس حدثه به ؟ قال أبو محمد : وهذه قوة زائدة للخبر ، أن يكون أسامة والفضل روياه عن النبي ﷺ وما ندري إلى ما أشار به هذا الجاهل ؟ وما يخرج من هذا الاعتراض إلا نسبة أبي هريرة للكذب ، والمعترض بذلك أحق بالكذب منه ؟ وكذلك عارض قوم - لا يحصلون ما يقولون - هذا الخبر بأن أمي المؤمنين روتا { أن النبي ﷺ كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك النهار } . قال أبو محمد : وليس يعارض هذا الخبر ما رواه أبو هريرة لأن رواية أبي هريرة هي الزائدة . والعجب ممن يرد روايتهما رضي الله عنهما في أن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم برأيه - : ثم يجعل روايتهما هاهنا حجة على السنة الثابتة لا سيما مع صحة الرواية { عن عائشة رضي الله عنها : أنها قالت : ما أدرك الفجر قط رسول الله ﷺ إلا وهو نائم } فهلا حملوا هذا على غلبة النوم ، لا على تعمد ترك الغسل ؟ واحتج أيضا قوم بما رويناه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : رجع أبو هريرة عن فتياه في الرجل يصبح جنبا . قال علي : ولا حجة في رجوعه ، لأنه رأي منه ؛ إنما الحجة في روايته عن النبي ﷺ وقد افترض علينا اتباع روايتهم ، ولم نؤمر باتباع الرأي ممن رآه منهم . والعجب ممن يحتج بهذا من المالكيين وهم قد ثبتوا على ما روي عن عمر رضي الله عنه من تحريم المتزوجة في العدة على الذي دخل بها في الأبد . وقد صح رجوع عمر عن ذلك إلى أنه مباح له ابتداء زواجها ؟ وممن قال بهذا من السلف كما روينا من طريق ابن جريج عن عطاء : أنه لما اختلف عليه أبو هريرة ، وعائشة في هذا قال عطاء : يبدل يوما ويتم يومه ذلك . ومن طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال : من أدركه الصبح جنبا وهو متعمد أبدل الصيام ؛ ومن أتاه غير متعمد فلا يبدله ؟ فهذا عروة ابن أخت عائشة رضي الله عنها قد ترك قولها لرواية أبي هريرة . ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر قال : سألت إبراهيم النخعي عن الرجل يصبح جنبا ؟ فقال : أما رمضان فيتم صومه ويصوم يوما مكانه ؛ وأما التطوع فلا ؟ ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي ثنا ابن إسحاق هو عبد الله قال : سألت سالما عن رجل أصبح جنبا في رمضان ؟ قال : يتم يومه ويقضي يوما مكانه . ومن طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه قال : من أصبح جنبا في شهر رمضان فاستيقظ ولم يغتسل حتى يصبح فإنه يتم ذلك ويصوم يوما مكانه ؛ فإن لم يستيقظ فلا بدل عليه . ومن طريق وكيع عن الربيع عن الحسن البصري فيمن أصبح جنبا في رمضان : يقضيه في الفرض . ومن طريق ابن أبي شيبة عن عائذ بن حبيب عن هشام بن عروة في الذي يصبح جنبا في رمضان قال : عليه القضاء . قال أبو محمد : لو لم يكن إلا ما ذكرنا لكان الواجب القول بخبر أبي هريرة ، لكن منع من ذلك صحة نسخه ؟ وبرهان ذلك قول الله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } . حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا عبد الواحد ثنا حماد بن سلمة ثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } كان أحدهم إذا نام لم تحل له النساء ، ولم يحل له أن يأكل شيئا إلى القابلة ، ورخص الله لكم . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرني هلال بن العلاء بن هلال الرقي ثنا حسين بن عياش - ثقة من أهل باجدا - : ثنا زهير بن معاوية ثنا أبو إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب : أن أحدهم كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئا ولا يشرب ليلته ويومه من الغد حتى تغرب الشمس ، حتى نزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } . قال أبو محمد : فصح أن هذه الآية ناسخة لكل حال تقدمت الصوم ، وخبر أبي هريرة موافق لبعض الأحوال المنسوخة ، وإذ صح أن هذه الآية ناسخة لما تقدم فحكمها باق لا يجوز نسخه وفيها إباحة الوطء إلى تبين الفجر ؛ فإذ هو مباح بيقين ، فلا شك في أن الغسل لا يكون إلا بعد الفجر ، ولا شك في أن الفجر يدركه وهو جنب ، فبهذا وجب ترك حديث أبي هريرة ، لا بما سواه - وبالله تعالى التوفيق