الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الخامسة والثلاثون


كتاب الصيام

726 - مسألة : الصيام قسمان فرض ، وتطوع ، وهذا إجماع حق متيقن ، ولا سبيل في بنية العقل إلى قسم ثالث ؟

727 - مسألة : فمن الفرض صيام شهر رمضان ، الذي بين شعبان ، وشوال ، فهو فرض على كل مسلم عاقل بالغ صحيح مقيم ، حرا كان أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ، إلا الحائض والنفساء ، فلا يصومان أيام حيضهما ألبتة ، ولا أيام نفسهما ، ويقضيان صيام تلك الأيام وهذا كله فرض متيقن من جميع أهل الإسلام .

728 - مسألة : ولا يجزئ صيام أصلا - رمضان كان أو غيره - إلا بنية مجددة في كل ليلة لصوم اليوم المقبل ، فمن تعمد ترك النية بطل صومه ؟ برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } فصح أنهم لم يؤمروا بشيء في الدين إلا بعبادة الله تعالى والإخلاص له فيها بأنها دينه الذي أمر به . وقال رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } . فصح أنه لا عمل إلا بنية له ، وأنه ليس لأحد إلا ما نوى . فصح أن من نوى الصوم فله صوم ، ومن لم ينوه فليس له صوم . ومن طريق النظر : أن الصوم إمساك عن الأكل والشرب ؛ وتعمد القيء ، وعن الجماع ، وعن المعاصي ، فكل من أمسك عن هذه الوجوه - لو أجزأه الصوم بلا نية للصوم - لكان في كل وقت صائما ، وهذا ما لا يقول أحد . ومن طريق الإجماع : أنه قد صح الإجماع على أن من صام ونواه من الليل فقد أدى ما عليه ، ولا نص ولا إجماع على أن الصوم يجزئ من لم ينوه من الليل . واختلف الناس في هذا - : فقال زفر بن الهذيل : من صام رمضان ، وهو لا ينوي صوما أصلا ، بل نوى أنه مفطر في كل يوم منه ، إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ، ولا جامع - : فإنه صائم ويجزئه ، ولا بد له في صوم التطوع من نية ؟ وقال أبو حنيفة : النية فرض للصوم في كل يوم من رمضان ، أو التطوع ، أو النذر إلا أنه يجزئه أن يحدثها في النهار ، ما لم تزل الشمس ، وما لم يكن أكل قبل ذلك ، ولا شرب ، ولا جامع ، فإن لم يحدثها - لا من الليل ولا من النهار ما لم تزل الشمس - لم ينتفع بإحداث النية بعد زوال الشمس ، ولا صوم له ، وعليه قضاء ذلك اليوم ، وأما قضاء رمضان والكفارات فلا بد فيها من النية من الليل لكل يوم ، وإلا فلا صوم له ، ولا يجزئه أن يحدث النية في ذلك بعد طلوع الفجر . وقال مالك : لا بد من نية في الصوم وأما في رمضان فتجزئه نيته لصومه كله من أول ليلة منه ، ثم ليس عليه أن يجدد نية كل ليلة ، إلا أن يمرض فيفطر ، أو يسافر فيفطر ، فلا بد له من نية - حينئذ - مجددة قال : وأما التطوع فلا بد له من نية لكل ليلة . وقال الشافعي ، وداود : مثل قولنا ، إلا أن الشافعي رأى في التطوع خاصة إحداث النية له ما لم تزل الشمس ، وما لم يكن أكل قبل ذلك ، أو شرب ، أو جامع - : وروينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر قال : لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر . وعن مالك عن الزهري : أن عائشة أم المؤمنين قالت : لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر ( ) - : ومن طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب : أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قالت حفصة أم المؤمنين : لا صيام لمن لم يجمع قبل الفجر ؟ فهؤلاء ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف أصلا ، والحنفيون ، والمالكيون : يعظمون مثل هذا إذا خالف أهواءهم وقد خالفوهم هاهنا ، ما نعلم أحدا قبل أبي حنيفة ، ومالك قال بقولهما في هذه المسألة ؛ هم يشنعون أيضا بمثل هذا على من قاله متبعا للقرآن والسنة الصحيحة ، وهم هاهنا خالفوا القرآن والسنن الثابتة برأي فاسد لم يحفظ عن أحد قبلهم ؟ قال أبو محمد : برهان صحة قولنا ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن الأزهر ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن حفصة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال : { من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له } . وهذا إسناد صحيح ، ولا يضر إسناد ابن جريج له أن أوقفه معمر ، ومالك ، وعبيد الله ، ويونس ، وابن عيينة ، فابن جريج لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ ، والزهري واسع الرواية ، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه ، ومرة عن حمزة عن أبيه ، وكلاهما ثقة ، وابن عمر كذلك ، مرة رواه مسندا ، ومرة روى أن حفصة أفتت به ، ومرة أفتى هو به ، وكل هذا قوة للخبر . والعجب أن المعترضين بهذا من مذهبهم : أن المرسل كالمسند . قال أبو محمد : وهذا عموم لا يحل تخصيصه ، ولا تبديله ، ولا الزيادة فيه ، ولا النقص منه ، إلا بنص آخر صحيح ؟ فإن قيل : فهلا أوجبتم النية متصلة بتبين الفجر ، كما تقولون : في الوضوء والصلاة ، والزكاة ، والحج ، وسائر الفرائض . ؟ قلنا : لوجهين اثنين أحدهما هذا النص الوارد الذي لا يحل خلافه ولسنا والحمد لله ممن يضرب كلام رسول الله ﷺ بعضه ببعض فيؤمن ببعضه ، ويكفر ببعضه ، ولا ممن يعارض أوامر الله تعالى على لسان رسول الله ﷺ بنظره الفاسد ؛ بل نأخذ جميع السنن كما وردت ؛ ونسمع ونطيع لجميعها كما أتت ؟ والثاني : قول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولم يكلفنا - عز وجل - السهر مراعاة لتبين الفجر ، وإنما ألزمنا النية من الليل ؛ ثم نحن عليها إلى أن يتبين الفجر وإن نمنا وإن غفلنا ، ما لم نتعمد إبطالها . فإن قيل : فأنتم تجيزون لمن نسي النية من الليل إحداثها في اليوم الثاني ؟ . قلنا : نعم ، بنص صحيح ورد في ذلك ولو لا ذلك ما فعلناه ؟ قال أبو محمد : وما نعلم لزفر حجة إلا أنه قال : رمضان موضع للصيام وليس . موضعا للفطر أصلا ، فلا معنى لنية الصوم فيه ، إذ لا بد منه ؟ قال علي : وهذه حجة عليه ، مبطلة لقوله ؛ لأنه لما كان موضعا للصوم لا للفطر أصلا وجب أن ينوي ما افترض الله تعالى عليه من العبادة بذلك الصوم ، وأن يخلص النية لله تعالى فيها ، ولا يخرجها مخرج الهزل واللعب . ووجه آخر : وهو أن شهر رمضان أمرنا بأن نجعله للصوم ، ونهينا فيه عن الفطر ، إلا حيث جاءنا النص بالفطر فيه ، فهو وقت للطاعة ممن أطاع بأداء ما أمر به ووقت - والله - للمعصية العظيمة فمن عصى الله تعالى فيه وخالف أمره عز وجل فلم يصمه كما أمر ؛ فإذ هو كذلك - يقينا بالحس والمشاهدة - فلا بد ضرورة من قصد إلى الطاعة المفروضة ، وترك المعصية المحرمة ، وهذا لا يكون إلا بنية لذلك . وهذا في غاية البيان والحمد لله . ووجه ثالث : وهو أنه يلزم على هذا القول أن من لم يبق له من وقت صلاة الصبح إلا مقدار ركعتين فصلى ركعتين تطوعا أو عابثا - : أن يجزئه ذلك من صلاة الصبح ؛ لأن ذلك الوقت وقت لها ، لا لغيرها أصلا ، وهذا هو القياس : إن كان القياس حقا . وما علمنا لأبي حنيفة حجة أصلا في تلك التقاسيم الفاسدة السخيفة ، إلا أن بعض من ابتلاه بتقليده موه في ذلك بحديث نذكره في المسألة التالية ، لأنه موضعه ، وليس في هذا الخبر متعلق لأبي حنيفة أصلا ، بل قد نقض أصله ، فأوجب فيه نية ؛ بخلاف قوله في الطهارة ، ثم أوجبها في النهار بلا دليل ، وما نعرف لمالك حجة أصلا ؛ إلا أنهم قالوا : رمضان كصلاة واحدة ؟ قال أبو محمد : وهذه مكابرة بالباطل ؛ لأن الصلاة الواحدة لا يحول بين أعمالها - بعمد - ما ليس منها أصلا ، وصيام رمضان يحول بين كل يومين منه ليل يبطل فيه الصوم جملة ويحل فيه الأكل والشرب والجماع ، فكل يوم له حكم غير حكم اليوم الذي قبله واليوم الذي بعده ؛ وقد يمرض فيه أو يسافر ، أو تحيض ، فيبطل الصوم ، وكان بالأمس صائما ، ويكون غدا صائما . وإنما شهر رمضان كصلوات اليوم والليلة ، يحول بين كل صلاتين ما ليس صلاة ، فلا بد لكل صلاة من نية ، فكذلك لا بد لكل يوم في صومه من نية . وهم أول من أبطل هذا القياس ، فرأوا من أفطر عامدا في يوم من رمضان أن عليه قضاءه وأن سائر صيامه كسائر أيام الشهر صحيح ، فقد أقروا بأن حكم الشهر كصلاة ليلة واحدة ، ويوم واحد . وإنما يخرج هذا على قول سعيد بن المسيب الذي يرى من أفطر يوما من رمضان عامدا أو أفطره كله - سواء ، وأن عليه في اليوم قضاء شهر ، كما عليه في الشهر كله ، ولا فرق . وهذا مما أخطئوا فيه القياس - لو كان القياس حقا - فلا النص اتبعوا ، ولا الصحابة قلدوا ، ولا قياس صحبوا ، ولا الاحتياط التزموا ، وبالله تعالى التوفيق .

729 - مسألة : ومن نسي أن ينوي من الليل في رمضان فأي وقت ذكر من النهار التالي لتلك الليلة - سواء أكل وشرب ووطئ أو لم يفعل شيئا من ذلك - فإنه ينوي الصوم من وقته إذا ذكر ، ويمسك عما يمسك عنه الصائم ، ويجزئه صومه ذلك تاما ، ولا قضاء عليه ، ولو لم يبق عليه من النهار ، إلا مقدار النية فقط ، فإن لم ينو كذلك فلا صوم له ، وهو عاص لله تعالى متعمد لإبطال صومه ، ولا يقدر على القضاء . وكذلك من جاءه الخبر بأن هلال رمضان رئي البارحة - فسواء أكل وشرب ووطئ أو لم يفعل شيئا من ذلك - في أي وقت جاء الخبر من ذلك اليوم ولو في آخره كما ذكرنا - : فإن ينوي الصوم ساعة صح الخبر عنده ، ويمسك عما يمسك عنه الصائم ، ويجزئه صومه ، ولا قضاء عليه ، فإن لم يفعل فصومه باطل ، كما قلنا في التي قبلها سواء سواء ، وكذلك أيضا : من عليه صوم نذر معين في يوم بعينه فنسي النية وذكر بالنهار فكما قلنا ولا فرق ، وكذلك من نسي النية في ليلة من ليالي الشهرين المتتابعين الواجبين ثم ذكر بالنهار ولا فرق وكذلك من نام قبل غروب الشمس في رمضان ، أو في الشهرين المتتابعين ، أو في نذر معين فلم ينتبه إلا بعد طلوع الفجر أو في شيء من نهار ذلك اليوم ، ولو في آخره - كما قلنا - فكما قلنا أيضا آنفا سواء سواء ، ولا فرق في شيء أصلا ، فلو لم يذكر في شيء من الوجوه التي ذكرنا ، ولا استيقظ حتى غابت الشمس - : فلا إثم عليه ، ولم يصم ذلك اليوم ولا قضاء عليه . برهان قولنا - : قول الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وكذلك قول رسول الله ﷺ : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . وكل من ذكرنا ناس ، أو مخطئ غير عامد ، فلا جناح عليه . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني أبو بكر بن نافع العبدي ثنا بشر بن المفضل ثنا خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قالت { أرسل رسول الله ﷺ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة : من كان أصبح صائما فليتم صومه ، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه } . وبه إلى مسلم بن الحجاج : ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : { بعث رسول الله ﷺ رجلا من أسلم يوم عاشوراء ، فأمره أن يؤذن في الناس : من كان لم يصم فليصم ، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا المكي بن إبراهيم ثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : { أمر النبي ﷺ رجلا من أسلم أن أذن في الناس : إن من أكل فليصم بقية يومه ، ومن لم يكن أكل فليصم ، فإن اليوم يوم عاشوراء } . ورويناه أيضا من طريق معاوية وغيره مسندا . قال أبو محمد : ويوم عاشوراء هو كان الفرض حينئذ صيامه . كما روينا بالسند المذكور إلى البخاري : ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري - ثنا أيوب السختياني ثنا عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس - فذكر الحديث في يوم عاشوراء وفيه { أن رسول الله ﷺ صامه وأمر بصيامه } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا شيبان عن أشعث بن أبي الشعثاء عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال : { كان رسول الله ﷺ يأمر بصوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده ، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا عنه ولم يتعاهدنا عنده } . وروينا من طريق الزهري ، وهشام بن عروة ، وعراك بن مالك كلهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين : { أن رسول الله ﷺ أمر بصيام عاشوراء ، حتى فرض رمضان } . قال عراك : فقال عليه السلام : { من شاء فليصمه ومن شاء فليفطره } . قال أبو محمد : فكان هذا حكم صوم الفرض ، وما نبالي بنسخ فرض صوم عاشوراء ، فقد أحيل صيام رمضان أحوالا ، فقد كان مرة : من شاء صامه ، ومن شاء أفطره وأطعم عن كل يوم مسكينا ، إلا أن حكم ما كان فرضا حكم واحد ؛ وإنما نزل هذا الحكم فيمن لم يعلم بوجوب الصوم عليه ؛ وكل من ذكرنا - من ناس ، أو جاهل ، أو نائم - فلم يعلموا وجوب الصوم عليهم ، فحكمهم كلهم هو الحكم الذي جعله رسول الله ﷺ من استدراك النية في اليوم المذكور متى ما علموا بوجوب صومه عليهم ، وسمي من فعل ذلك صائما ، وجعل فعله صوما - وبالله تعالى التوفيق . وبه قال جماعة من السلف - : كما روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عبد الكريم الجزري : أن قوما شهدوا على الهلال بعدما أصبحوا ، فقال عمر بن عبد العزيز من أكل فليمسك عن الطعام ، ومن لم يأكل فليصم بقية يومه ؟ وعن عطاء : إذا أصبح رجل مفطرا ولم يذق شيئا ثم علم برؤية الهلال أول النهار أو آخره فليصم ما بقي ولا يبدله ؟ ومن طريق وكيع عن أبي ميمونة عن أبي بشير عن علي بن أبي طالب أنه قال يوم عاشوراء : من لم يأكل فليصم ، ومن أكل فليتم بقية يومه . وروينا من طريق وكيع عن ابن عون عن ابن سيرين : أن ابن مسعود قال : من أكل أول النهار فليأكل آخره ؟ قال علي : اختلف الناس فيمن أصبح مفطرا في أول يوم من رمضان ثم علم أن الهلال رئي البارحة على أقوال - : منهم من قال : ينوي صوم يومه ويجزئه ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه نأخذ ، وبه جاء النص الذي قدمنا - : ومنهم من قال : لا يصوم ، لأنه لم ينو الصيام من الليل ، ولم يروا فيه قضاء ، وهو قول ابن مسعود كما ذكرنا ، وبه يقول داود وأصحابنا : ومنهم من قال : يأكل بقيته ويقضيه ، وهو قول رويناه عن عطاء ؟ ومنهم من قال : يمسك فيه عما يمسك الصائم ، ولا يجزئه ، وعليه قضاؤه ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال به أبو حنيفة فيمن أكل خاصة ، دون من لم يأكل ؛ وفيمن علم الخبر بعد الزوال فقط ، أكل أو لم يأكل ، وهذا أسقط الأقوال ؛ لأنه لا نص فيه ، ولا قياس ، ولا نعلمه من قول صاحب ، ولا يخلو هذا الإمساك - الذي أمروه به - من أن يكون صوما يجزئه ، وهم لا يقولون بهذا ، أو لا يكون صوما ولا يجزئه ، فمن أين وقع لهم أن يأمروه بعمل يتعب فيه ويتكلفه ولا يجزئه ، وأيضا : فإنه لا يخلو من أن يكون مفطرا أو صائما ؛ فإن كان صائما فلم يقضيه إذن ؟ فيصوم يومين وليس عليه إلا واحد . وإن كان مفطرا فلم أمروه بعمل الصوم ؟ وهذا عجب جدا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . قال أبو محمد : احتج أبو حنيفة في تصحيح تخليطه الذي ذكرناه قبل - في نية الصوم - بخبر الربيع ، وسلمة بن الأكوع الذي ذكرنا ، وهذا عجب جدا أن يكونوا قد خالفوا رسول الله ﷺ في نفس ما جاء به الخبر ، فقالوا : من أكل لم يجزه صيام باقي يومه ، وفي تخصيصهم بالنية قبل الزوال وليس هذا في الخبر ، ثم احتجوا به فيما ليس منه شيء ومن عادتهم هذا الخلق الذميم ، وهذا قبيح جدا ، وتمويه لا يستجيزه محقق ناصح لنفسه ، وقال بعضهم : قد روى هذا الخبر عبد الباقي بن قانع عن أحمد بن علي بن مسلم عن محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه قال : { أتيت النبي ﷺ - يعني في عاشوراء - فقال : صمتم يومكم هذا ؟ قالوا : لا ، قال : فأتموا يومكم هذا واقضوا } . قال أبو محمد : لفظة " واقضوا " موضوعة بلا شك ، وعبد الباقي بن قانع مولى بني أبي الشوارب يكنى أبا الحسين ، مات سنة 51 هـ - إحدى وخمسين وثلاثمائة ، وقد اختلط عقله قبل موته بسنة ، وهو بالجملة منكر الحديث ، وتركه أصحاب الحديث جملة وأحمد بن علي بن مسلم مجهول . وقد روينا هذا الحديث من طريق شعبة عن قتادة ، ومن طريق ابن أبي عروبة عن قتادة ، وليست فيه هذه اللفظة . كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن قاسم بن محمد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا شعبة ثنا قتادة عن عبد الرحمن بن المنهال بن سلمة الخزاعي عن عمه أن رسول الله ﷺ قال لأسلم : { صوموا اليوم قالوا : إنا قد أكلنا ، قال : صوموا بقية يومكم - يعني عاشوراء } . حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي ثنا محمد بن معاوية القرشي ثنا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - ثنا محمد بن بكر هو البرساني - ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة الخزاعي عن عمه قال : { غدونا على رسول الله ﷺ صبيحة عاشوراء ؛ فقال لنا : أصبحتم صياما ؟ قلنا : قد تغدينا يا رسول الله ؛ قال : فصوموا بقية يومكم } . قال أبو محمد : ومن الغرائب تمويه الحنفيين بهذه اللفظة الموضوعة في حديث ابن قانع من قوله : { واقضوا } ثم خالفوها فلم يروا القضاء إلا على من أكل دون من لم يأكل ، وعلى من نوى بعد الزوال . وهذا كله خلاف الكذبة التي استحقوا بها المقت من الله تعالى ، فحيثما توجهوا عثروا ، وبكل ما احتجوا فقد خالفوه ، وهكذا فليكن الخذلان نعوذ بالله منه ، وأما من لم يعلم بوجوب صوم ذلك اليوم عليه إلا بعد غروب الشمس فإن لم يصمه كما أمر ؛ ولأنه لم ينو في شيء منه صوما ، ولم يتعمد ترك النية ، فلا إثم عليه فيما لم يتعمد ، ولا قضاء عليه ؛ لأنه لم يأت بإيجاب القضاء عليه نص ولا إجماع ، ولا يجب في الدين حكم إلا بأحدهما ؛ وإنما أمر بصيام ذلك اليوم ، لا بصوم غيره مكانه ، فلا يجزئ ما لم يؤمر به مكان ما أمر به .