الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثامنةوالثلاثون


كتاب الصيام

739 - مسألة : وصفة الكفارة الواجبة هي كما ذكرنا في رواية جمهور أصحاب الزهري : من عتق رقبة لا يجزئه غيرها ما دام يقدر عليها ، فإن لم يقدر عليها لزمه صوم شهرين متتابعين ، فإن لم يقدر عليها لزمه - حينئذ - إطعام ستين مسكينا ؟ فإن قيل : هلا قلتم بما رواه يحيى الأنصاري وابن جريج ، ومالك عن الزهري من تخييره بين كل ذلك ؟ قلنا : لما قد بينا من أن هؤلاء اختصروا الحديث ، وأتوا بألفاظهم ، أو بلفظ من دون النبي ﷺ . وأما سائر أصحاب الزهري فأتوا بلفظ النبي ﷺ وهو الذي لا يحل تعديه أصلا ، وبزيادة حكم الترتيب ، ولا يحل ترك الزيادة وبقولنا يقول أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان ، وأحمد ، وجمهور الناس ؟ وأما مالك فقال بما روي ؛ إلا أنه استحب الإطعام ، وليس لهذا الاستحباب وجه أصلا . وأما أبو حنيفة فإنه أجاز في الإطعام المذكور : أن تطعم مسكينا واحدا ستين يوما ، وهذا خلاف مجرد لأمر رسول الله ﷺ ولا يقع اسم ستين مسكينا على مسكين واحد أصلا

740 - مسألة : ويجزئ في ذلك رقبة مؤمنة أو كافرة ، صغيرة ، أو كبيرة ، ذكر أو أنثى ، معيب أو سليم ؛ لعموم { قول رسول الله ﷺ أعتق رقبة } فلو كان شيء من الرقاب التي تعتق لا يجزئ في ذلك لبينه عليه السلام ، ولما أهمله حتى يبينه له غيره . ويجزئ في ذلك : أم الولد ، والمدبر ، والمعتق بصفة ، وإلى أجل ، والمكاتب الذي لم يؤد شيئا من كتابته ، ولا يجزئ في ذلك نصفان من رقبتين ، ولا من بعضه حر ؟ وقال أبو حنيفة بقولنا في الكافر والصغير : وقال مالك ، والشافعي لا يجزئ إلا مؤمنة ، قالوا : قسنا ذلك على - الرقبة في قتل الخطأ . قال أبو محمد : والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن مالكا لا يقيس حكم قاتل العمد على حكم قاتل الخطأ في الكفارة ، فإذا لم يقس قاتلا على قاتل فقياس الواطئ على القاتل أولى بالبطلان ، إن كان القياس حقا ؟ والشافعي لا يقيس المفطر بالأكل على المفطر بالوطء في الكفارة ، فإذا لم يقس مفطرا على مفطر فقياس المفطر على القاتل أولى بالبطلان ، إن كان القياس حقا ؟ وأيضا : فإنه لا خلاف في أن كفارة الواطئ في رمضان يعوض فيها الإطعام من الصيام ، ولا يعوض الإطعام من الصيام في كفارة قتل الخطأ فقد صح إجماعهم على أن حكم كفارة الواطئ مخالف لحكم كفارة القاتل ؛ فبطل بهذا قياس إحداهما على الأخرى ؟ فإن قالوا : إن النص لم يرد بالتعويض في كفارة القتل ، وورد به في كفارة الوطء ؟ قلنا : والنص لم يرد باشتراط مؤمنة في كفارة الوطء وورد به في كفارة القتل ، وهذا هو الحق . فإن قالوا : المؤمنة أفضل ؟ قلنا : نعم ؛ والعالم الفاضل أفضل من الجاهل الفاسق . قال تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } . وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } وأنتم تجيزون فيها الجاهل الفاسق . وأما المعيب فكلهم متفق على إجازة العيب الخفيف فيها ، ولم يأت نص ، ولا إجماع ، ولا قياس بالفرق بين العيوب في ذلك ؟ وأيضا : فلا سبيل لهم إلى تحديد الخفيف - الذي أجازوه من الكثير - الذي لا يجيزونه - فصح أنه رأي فاسد من آرائهم ؟ وقال أبو حنيفة : يجزئ الأعور ، والمقطوع اليد أو الرجل أو كليهما من خلاف ، والمقطوع إصبعين من كل يد سوى الإبهامين . ولا يجزئ الأعمى ، ولا المقعد ، ولا المقطوع يدا ورجلا من جانب واحد ، ولا مقطوع الإبهامين فقط من كلتا يديه ولا مقطوع ثلاث أصابع من كل يد قال أبو محمد : وهذه تخاليط قوية بمرة ولو كان شيء من هذا لا يجزئ لبينه عليه السلام . وأما أم الولد والمدبر فلا خلاف في أن العتق جائز فيهما وحكمه واقع عليهما إذا عتقا ، فمعتق كل واحد منهما يسمى معتق رقبة ، وعتق كل واحد منهم عتق رقبة بلا خلاف ؛ فوجب أن من أعتق أحدهما في ذلك فقد فعل ما أمره الله تعالى به . وقال أبو حنيفة ، ومالك : لا يجزئان ؟ وقال الشافعي : لا تجزئ أم الولد ، لأنها لا تباع ؟ قال أبو محمد : فكان ماذا ؟ وهل اشترط عليه السلام - إذ أمر في الكفارة بعتق رقبة - أن تكون ممن يجوز بيعها ؟ حاش لله من هذا ، فإذ لم يشترط عليه السلام هذه الصفة فاشتراطها باطل ، وشرع في الدين لم يأذن به الله تعالى { وما كان ربك نسيا } . وأجاز في ذلك عتق المدبر ؟ وممن أجاز عتق أم الولد ، والمدبر في ذلك : عثمان البتي ، وأبو سليمان ؟ وأما المكاتب الذي لم يؤد شيئا فقد ذكرنا أنه عبد ، وممن أجازه في الكفارة دون من أدى شيئا من كتابته - : أبو حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه . وأما المكاتب الذي أدى شيئا من كتابته ، ومن بعضه حر ، فقد ذكرنا في كتاب الزكاة شروع الحرية فيه بقدر ما أدى ، فمن أعتق باقيهما فإنما أعتق بعض رقبة ؛ لا رقبة ؛ فلم يؤد ما أمر به . وممن قال بقولنا في أنهما لا يجزئان : أبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق . وأما من أعتق نصفي رقبتين فلا يسمى معتق رقبة كما ذكرنا ؛ ولأنه يعتق عليه سائرهما بحكم آخر ولا بد ؛ فإذا لم يكن معتق - رقبة في ذلك فلم يؤد ما أمر به ؟ وأما المعتق إلى أجل - وإن قرب - أو بصفة فعتقهما وبيعهما جائز ؛ أما المعتق فلا خلاف منهم نعلمه فيه . وممن أجازهما في الكفارة : الشافعي وغيره ، ومعتقهما يسمى : معتق رقبة .

741 - مسألة : وكل ما قلنا : أنه لا يجزئ ؛ فإنه عتق مردود باطل لا ينفذ ، لقول رسول الله ﷺ : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } ولأنه لم يعتقه إلا بصفة لم تصح ، فلم يصح عتقه - وبالله تعالى التوفيق

742 - مسألة : ومن كان فرضه الصوم ، فقطع صومه عليه رمضان ، أو أيام الأضحى ، أو ما لا يحل صيامه فليسا متتابعين ، وإنما أمر بهما متتابعين ؟ وقال قائل : يجزئه ؟ قال علي : وهذا خلاف أمره ﷺ وليس كونه معذورا في إفطاره غير آثم ولا ملوم بمجيز له ما لم يجوزه الله تعالى من عدم التتابع . وروينا من طريق الحجاج بن المنهال عن أبي عوانة عن المغيرة عن إبراهيم : من لزمه شهران متتابعان فمرض فأفطر فإنه يبتدئ صومهما ؟

743 - مسألة : فإن اعترضه فيهما يوم نذر نذره : بطل النذر وسقط عنه ، وتمادى في صوم الكفارة ، وكذلك في رمضان سواء سواء ، لقول رسول الله ﷺ { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } . فصح أنه ليس لأحد أن يلتزم غير ما ألزمه الله تعالى ، ومن نذر ما يبطل به فرض الله تعالى : فنذره باطل ؛ لأنه تعد لحدود الله عز وجل ؟

744 - مسألة : فإن بدأ بصومهما في أول يوم من الشهر صام إلى أن يرى الهلال الثالث ولا بد ، كاملين كانا أو ناقصين ، أو كاملا وناقصا لقول الله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } فمن لزمه صوم شهرين لزمه أن يأتي بهما من جملة الاثني عشر شهرا المذكورة ؟

745 - مسألة : فإن بدأ بهما في بعض الشهر - ولو لم يمض منه إلا يوم ، أو لم يبق إلا يوم فما بين ذلك - : لزمه صوم ثمانية وخمسين يوما لا أكثر . لما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد العزيز بن عبد الله ثنا سليمان بن بلال عن حميد عن أنس بن مالك قال : { آلى رسول الله ﷺ من نسائه فأقام في مشربة تسعا وعشرين ليلة ثم نزل ، فقالوا : يا رسول الله ، آليت شهرا ، فقال : إن الشهر يكون تسعا وعشرين } . ورويناه من طرق متواترة جدا كذلك من طريق ابن جريج عن أبي الزبير : أنه سمع جابرا ، ومن طريق عكرمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة ومن طريق سعيد بن عمرو ، وجبلة بن سحيم ، وعمرو بن دينار ، وعقبة بن حريث ، وسعد بن عبيدة كلهم عن ابن عمر ، ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ، ومن طريق الزهري عن عروة عن عائشة ، كلهم عن رسول الله ﷺ بأسانيد في غاية الصحة ؛ فإذا الشهر يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين ، فلا يلزمه إلا اليقين ، وهو الأقل ؟ وقال قائلون : عليه أن يوفي ستين يوما ليكون على يقين من إتمام الشهرين ؟ قال أبو محمد : وهذا خطأ ؛ لأن الله تعالى إنما ألزمه شهرين ، ولم يقل كاملين ، كل شهر من ثلاثين يوما ، فإنما عليه ما يقع عليه اسم شهرين ، واسم شهرين يقع بنص كلامه عليه السلام على تسع وعشرين ، وتسع وعشرين ، والفرائض لا تلزم إلا بنص ، أو إجماع ؟ ويلزم من قال هذا من الحنفيين أن يقول : لا تجزئ - الرقبة إلا مؤمنة ؛ ليكون على يقين من أنه قد أدى الفرض في الرقبة ؟ ويلزم من قال بهذا من المالكيين ، والشافعيين أن يقول : لا تجزئ إلا غداء وعشاء ، أو غداء وغداء ، أو عشاء وعشاء ، كما يقول الحنفيون ، ولا يجزئ إلا صاع من شعير لكل مسكين ، أو نصف صاع بر - : ليكون على يقين من أداء فرض الإطعام ؟

746 - مسألة : ومن كان فرضه الإطعام فإنه لا بد له من أن يطعمهم شبعهم ، من أي شيء أطعمهم ، وإن اختلف ، مثل : أن يطعم بعضهم خبزا ، وبعضهم تمرا ، وبعضهم ثريدا ، وبعضهم زبيبا ، ونحو ذلك . ويجزئ في ذلك مد بمد النبي ﷺ إن أعطاهم حبا أو دقيقا أو تمرا أو زبيبا أو غير ذلك ، مما يؤكل ويكال ؛ فإن أطعمهم طعاما معمولا فيجزئه ما أشبعهم أكلة واحدة ، أقل كان أو أكثر ؟ حدثنا أحمد بن عمر ثنا عبد الله بن حسين بن عقال ثنا بكار بن قتيبة ثنا مؤمل هو ابن إسماعيل الحميري ثنا سفيان هو الثوري - عن منصور هو ابن المعتمر - عن الزهري عن حميد هو ابن عبد الرحمن بن عوف - عن أبي هريرة { أن رسول الله ﷺ فذكر خبر الواطئ في رمضان ، قال قال : فأتي النبي ﷺ بمكتل فيه خمسة عشر - يعني صاعا - فقال له النبي ﷺ خذه فأطعمه عنك } . قال علي : فأجزأ هذا في الإطعام . وكان إشباعهم من أي شيء أشبعهم مما يأكل الناس - : يسمى إطعاما ، والبر : يؤكل مقلوا ؛ فكل ذلك إطعام . ولا يجوز تحديد إطعام دون إطعام بغير نص ولا إجماع ، ولم يختلف فيما دون الشبع في الأكل ، وفيما دون المد في الإعطاء : أنه لا يجزئ ؟ وقال أبو حنيفة : لا يجزئ إلا نصف صاع بر ، أو مثله من سويقه أو دقيقه ، أو صاع من شعير ، أو زبيب ، أو تمر ، لكل مسكين . ولا بد من غداء وعشاء أو غداء وغداء ، أو عشاء وعشاء ، أو سحور وغداء ، أو سحور وعشاء ؟ قال أبو محمد : وهذا تحكم وشرع لم يوجبه نص ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ؟

747 - مسألة : ولا يجزئ إطعام رضيع لا يأكل الطعام ، ولا إعطاؤه من ذلك ، لأنه لا يسمى إطعاما ، فإن كان يأكل كما تأكل الصبيان أجزأ إطعامه وإشباعه ، وإن أكل قليلا ، لأنه أطعم كما أمر - وبالله تعالى التوفيق ؟

748 - مسألة : ولا يجزئ إطعام أقل من ستين ، ولا صيام أقل من شهرين ، لأنه خلاف ما أمر به ؟

749 - مسألة : ومن كان قادرا حين وطئه على الرقبة لم يجزه غيرها ، افتقر بعد ذلك أو لم يفتقر ، ومن كان عاجزا عنها حينئذ قادرا على صيام شهرين متتابعين لم يجزه شيء غير الصيام ، أيسر بعد ذلك ووجد رقبة أو لم يوسر ؟ ومن كان عاجزا حين ذلك عن - الرقبة وعن الصيام قادرا على الإطعام لم يجزه غير الإطعام ، قدر على الرقبة أو الصوم بعد ذلك أو لم يقدر ؛ لأن كل ما ذكرنا هو فرضه بالنص ، والإجماع ؛ فلا يجوز سقوط فرضه وإيجاب فرض آخر عليه بغير نص ولا إجماع . وقال قائلون : إن دخل في الصوم فأيسر انتقل حكمه إلى الرقبة ؟ وهذا خطأ ، وقول بلا برهان ؟

750 - مسألة : فمن لم يجد إلا رقبة لا غنى به عنها ، لأنه يضيع بعدها أو يخاف على نفسه من حبها - : لم يلزمه عتقها ؟ لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } . وقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } . وكل ما ذكرنا حرج وعسر لم يجعله تعالى علينا ، ولا أراده منا ، وفرضه حينئذ الصيام ، فإن كان في غنى عنها وهو قائم بنفسه ولا مال له فعليه عتقها ؛ لأنه واجد رقبة لا حرج عليه في عتقها ؟

751 - مسألة : ومن كان عاجزا عن ذلك كله ففرضه الإطعام ، وهو باق عليه ، فإن وجد طعاما وهو إليه محتاج أكله هو وأهله وبقي الإطعام دينا عليه ؛ لأن رسول الله ﷺ أمره بالإطعام فأخبره أنه لا يقدر عليه ، فأتاه بالتمر فأعطاه إياه وأمره بأن يطعمه عن كفارته ؟ فصح أن الإطعام باق عليه وإن كان لا يقدر عليه ، وأمره عليه السلام بأكله إذ أخبره أنه محتاج إلى أكله ، ولم يسقط عنه ما قد ألزمه إياه من الإطعام ، ولا يجوز سقوط ما افترضه عليه السلام إلا بإخبار منه عليه السلام بأنه قد أسقطه - وبالله تعالى التوفيق .

752 - مسألة : والحر والعبد في كل ما ذكرنا سواء ويطعم من ذلك الحر والعبد ، لأن حكم رسول الله ﷺ جاء عموما ، لم يخص منه حر من عبد ، وإذا كان العبد مسكينا فهو ممن أمر بإطعامه ولا تجوز معارضة أمره عليه السلام بالدعاوى الكاذبة - وبالله تعالى نتأيد ؟