وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة
لضمائرها والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس. وفي
ذلك أقول شعراً، منه:
فليس لعيني عند غيرك موقف
|
|
كأنك ما يحكون من حجر البهت
|
أصرفها حيث انصرفت وكيفما
|
|
تقلبت كالمنعوت في النحو والنعت
|
ومنها الإقبال بالحديث. فما يكاد يقبل على سوى محبوبه ولو تعمد ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمقه فيه، والإنصات لحديثه إذا حدث،
واستغراب كل ما يأتي به ولو أنه عين المحال وخرق العادات، وتصديقه وإن كذب، وموافقته وإن ظلم، والشهادة له وإن جار، واتباعه كيف
سلك وأي وجه من وجوه القول تناول.
ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمد للقعود بقربه والدنو منه، واطراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانة بكل
خطب جليل داع إلى مفارقته، والتباطؤ في الشيء عند القيام عنه. وفي ذلك أقول شعراً:
وإذا قمت عنك لم أمش إلا
|
|
مشي عان يقاد في نحو الفناء
|
في مجيئي إليك أحتثّ كالبد
|
|
ر إذا كان قاطعاً للسماء
|
وقيامي إن قمت كالأنجم العا
|
|
لية الثابتات في الإبطاء
|
ومنها بهت يقع وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب فجأة وطلوعه بغتة.
ومنها اضطراب يبدو على المحب عند رؤية من يشبه محبوبه أو عند سماع إسمه فجأة وفي ذلك أقول قطعة، منها:
إذا ما رأت عيناي لابس حمرة
|
|
تقطع قلبي حسرة وتفطرا
|
غدا لدماء الناس باللحظ سافكاً
|
|
وضرج منها ثوبه فتعصفرا
|
ومنها أن يجود المرء ببذل كل ما كان يقدر عليه مما كان ممتنعاً به قبل ذلك، كأنه هو الموهوب له والمسعي في حظه، كل ذلك ليبدي محاسنه ويُرغب في نفسه. فكم بخيل جاد، وقطوب تطلق، وجبان تشجع، وغليظ الطبع تطرب، وجاهل تأدب، وتفل تزين، وفقير تجمل، وذي سن تفتى، وناسك تفتك، ومصون تبذل.
وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجج حريقه وتوقد شعله واستطارة لهبه. فأما إذا تمكن وأخذ مأخذه فحينئذ ترى الحديث
سراراً، والإعراض عن كل ما حضر إلا عن المحبوب جهاراً. ولي أبيات جمعت فيها كثيراً من هذه العلامات، منها:
أهوى الحديث إذا ما كان يذكر لي
|
|
فيه ويعبق لي عن عنبر أرج
|
إن قال لم أستمع ممن يجالسني
|
|
إلى سوى لفظة المستطرف الغنج
|
ولو يكون أمير المؤمنين معي
|
|
ما كنت من أجله عنه بمنعرج
|
فإن أقم عنه مضطراً فإني لا
|
|
أزال ملتفتاً والمشي مشي وجي
|
عيناي فيه وجسمي عنه مرتحل
|
|
مثل ارتقاب الغريق البر في اللجج
|
إغص بالماء إن أذكر تباعده
|
|
كمن تثاءب وسط النقع والوهج
|
وإن تقل ممكن قصد السماء أقل
|
|
نعم وإني لأدري موضع الدرج
|
ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكل ذي بصر الإنبساط الكثير الزائد، والتضايق في المكان الواسع، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما،
وكثرة الغمز الخفي، والميل بالإتكاء، والتعمد لمس اليد عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة. وشرب فضلة ما أبقى المحبوب في
الإناء، وتحري المكان الذي يقابله فيه.
ومنها علامات متضادة، وهي على قدر الدواعي والعوارض الباعثة والأسباب المحركة والخواطر المهيجة، والأضداد أنداد، والأشياء إذا
أفرطت في غايات تضادها. ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام، فهذا الثلج إذا أدمن حبسه
في اليد فَعل فِعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم
كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكداً شديداً أكثر بهما جدهما بغير معنى، وتضادهما في القول تعمداً، وخروج بعضهما
على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها، كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل
واحد منهما في صاحبه. والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومخارجة التشاجر سرعة الرضى، فإنك بينما ترى
المحبين قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا يقدر يصلح عند الساكن النفس السالم من الأحقاد في الزمن الطويل ولا ينجبر عند الحقود أبداً،
فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصحبة، وأهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة، هكذا
في الوقت الواحد مراراً. وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك شك ولا يدخلنك ريب البتة ولا تتمارى في أن بينهما سراً من الحب دفينا،
واقطع فيه قطع من لا يصرفه عنه صارف. ودونكها تجربة صحيحة وخبرة صادقة. هذا لا يكون إلا عن تكلف في المودة وائتلاف صحيح،
وقد رأيته كثيراً.
ومن علاماته أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها ولا ينهه
عن ذلك تخوف أن يفطن السامع ويفهم الحاضر، وحبك الشيء يعمي ويصم. فلو أمكن المحب ألا يكون حديث في مكان يكون فيه إلا
ذكر من يحبه لما تعداه. ويعرض للصادق المودة أن يبتدئ في الطعام وهو له مشته فما هو إلا وقت، ما تهتاج له من ذكر من يحب صار الطعام
غصة في الحلق وشجى في المرء. وهكذا في الماء وفي الحديث فإنه يفاتحكه متبهجاً فتعرض له خطرة من خطرات الفكر فيمن يحب فتستبين
الحوالة في منطقه والتقصير في حديثه، وآية ذلك الوجوم والإطراق وشدة الانفلاق، فبينما هو طلق الوجه خفيف الحركات صار منطبقاً
متثاقلاً حائر النفس جامد الحركة يبرم من الكلمة ويضجر من السؤال ومن علاماته حب الوحدة والإنس بالانفراد، ونحول الجسم دون حد
يكون فيه ولا وجع مانع من التقلب والحركة والمشي. دليل لا يكذب ومخبر لا يخون عن كلمة في النفس كامنة.
والسهر من أعراض المحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفه وحكوا أنهم رعاة الكواكب وواصفو طول الليل. وفي ذلك أقول وأذكر كتمان السر
وأنه يتوسم بالعلامات:
تعلمت السحائب من شؤوني
|
|
فعمت بالحيا السكب الهتون
|
وهذا الليل فيك غدا رفيقي
|
|
بذلك أم على سهري معيني
|
فإن لم ينقض الإظلام فجراً
|
|
ألا ما أطبقت نوماً جوفوني
|
فليس إلى النهار لنا سبيل
|
|
وسهد زائد في كل حين
|
كأن نجومه والغيم يخفي
|
|
سناها عن ملاحظة العيون
|
ضميري في ودادك يا منايا
|
|
فليس يبين إلا بالظنون
|
وفي مثل ذلك قطعة منها:
أرعى النجوم كأنني كلفت أن
|
|
أرعى جميع ثبوتها والخنسي
|
فكأنها والليل نيران الجوى
|
|
قد أضرمت في فكرتي من حندس
|
وكأني أمسيت حارس روضة
|
|
خضراء وشح نبتها بالنرجس
|
لو عاش بطليموس أيقن أنني
|
|
أقوى الورى في رصد جرى الكنس
|
والشيء قد يذكر لما يوجبه: وقع لي في هذه الأبيات تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد. وهو البيت الذي أوله فكنها والليل وهذا مستغرب
في الشعر. ولي ما هو أكمل منه، وهو تشبيه أشياء في بيت واحد، وتشبيه أربعة أشياء في بيت واحد. وكلاهما في هذه القطعة أوردها، وهي:
مشوق معنى ما ينام مسهد
|
|
بخمر التجني ما يزال يعربد
|
ففي ساعة يبدي إليك عجائباً
|
|
يمر ويستحلي ويدني ويبعد
|
كأن النوى والعتب والهجر والرضى
|
|
قران وأنداد ونحس وأسعد
|
رئى لغرامي بعد طول تمنع
|
|
وأصبحت محسوداً وقد كنت أحسد
|
نعمنا على نور من الروض زاهر
|
|
سقته الغوادي فهو يثني ويحمد
|
كأن الحيا والمزن والروض عاطراً
|
|
دموع وأجفان وخد مورد
|
ولا ينكر على منكر قولي قران فأهل المعرفة بالكواكب يسمون التقاء كوكبين في درجة قراناً.
ولي أيضاً ما هو أتم من هذا، وهو تشبيه خمسة أشياء في بيت واحد في هذه القطعة، هي:
خلوت بها والراح ثالثة لها
|
|
وجنح ظلام الليل قد مد ما انبلج
|
فتاة عدمت العيش إلا بقربها
|
|
فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج
|
كأني وهي والكأس والخمر والدجى
|
|
ثرى وحيا والدر والتبر والسنج
|
فهذا أمر لا مزيد فيه ولا يقدر أحد على أكثر منه، إذ لا يحتمل العروض ولا بنية الأسماء أكثر من ذلك.
ويعرض للمحبين القلق عند أحد أمرين: أحدهما عند رجائه ملقاة من يحب فيعرض عند ذلك حائل.
خبر: وإني لأعلم بعض من كان محبوبه يعده الزيارة، فما كنت أراه إلا جاثياً وذاهباً لا يقربه القرار ولا يثبت في مكان واحد، مقبلاً مدبراً
قد استخفه السرور بعد ركانة، وأشاطه بعد رزانة. ولي في معنى انتظار الزيارة:
أقمت إلى أن جاءني الليل راجيا
|
|
لقاءك يا سؤلي ويا غاية الأمل
|
فأيأسني الإظلام عنك ولم أكن
|
|
لأيأس يوماً إن بدا الليل يتصل
|
وعندي دليل ليس يكذب خبره
|
|
بأمثاله في مشكل الأمر يستدل
|
لأنك لو رمت الزيارة لم يكن
|
|
ظلام ودام النور فينا ولم يزل
|
والثاني عند حادث يحدث بينهما من عتاب لا تدري حقيقته إلا بالوصف.
فعند ذلك يشتد القلق حتى توقف على الجليلة، فإما أن يذهب تحمله إن رجا العفو، وإما أن يصير القلق حزناً وأسفاً إن تخوف الهجر.
ويعرض للمحب الاستكانة لجفاء المحبوب عليه. وسيأتي مفسراً في بابه إنشاء الله تعالى.
ومن أعراضه الجزع الشديد والحمرة المقطعة تغلب عند ما يرى من إعراض محبوبه عنه ونفاره منه، وآية ذلك الزفير وقلة الحركة والتأوه
وتنفس الصعداء. وفي ذلك أقول شعراً، منه:
جميل الصبر مسجون
|
|
ودمع العين مسفوح
|
ومن علاماته أنك ترى المحب يحب آهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته.
والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون تجيبه عينه وتحضره عبرته إذا شاء، ومنهم جمود العين عديم
الدمع، وأنا منهم. وكان الأصل في ذلك إدماني أكل الكندر لخفقان القلب، وكان عرض لي في الصبا، فإني لأصاب بالمصيبة الفادحة فأجد
قلبي يتفطر ويتقطع وأحس في قلبي غضة أمر من العلقم تحول بيني وبين توفية الكلام حق مخارجه، وتكاد تشوقني النفس أحياناً ولا تجيب
عيني البتة إلا في الندرة بالشيء اليسير من الدمع.
خبر: ولقد أذكرني هذا الفصل يوما: ودعت أنا وأبو بكر محمد بن إسحاق صاحبي أبا عامر محمد بن عامر صديقنا رحمه الله في سفرته إلى
المشرق التي لم نره بعدها، فجعل أبو بكر يبكي عند وداعه وينشد متمثلاً بهذا البيت:
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط
|
|
عليك بباقي دمعها لجمود
|
وهو في رثاء يزيد بن عمر بن هبيرة رحمه الله. ونحن وقوف على ساحل البحر بمالقة، وجعلت أنا أكثر التفجع والأسف ولا تساعدني عيني،
فقلت مجيباً لأبي بكر:
وإن أمرأ لم يفن حسن اصطباره
|
|
عليك وقد فارقته لجليد
|
إذا كتم المشغوف سر ضلوعه
|
|
فإن دموع العين تبدي وتفضح
|
إذا ما جفون العين سالت شئونها
|
|
ففي القلب داء للغرام مبرح
|
ويعرض في الحب سوء الظن واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب بين المحبين. وإني لأعلم من كان
أحسن الناس ظناً وأوسعهم نفساً وأكثرهم صبراً وأشدهم احتمالا وأرحبهم صدراً، ثم لا يحتمل ممن يحب شيئاً ولا يقع له معه أيسر مخالفة
حتى يبدي من التعديد فنوناً ومن سوء الظن وجوها. وفي ذلك أقول شعراً، منه:
أسيء ظني بكل محتقر
|
|
تأتي به والحقير من حقر
|
كي لا يرى أصل هجرة وقلى
|
|
فالنار في بدء أمرها شرر
|
وأصل عظم الأمور أهونها
|
|
ومن صغير النوى ترى الشجر
|
وترى المحب، إذا لم يثق بنقاء طوية محبوبه له، كثير التحفظ مما لم يكن يتحفظ منه قبل ذلك، مثقفاً لكلامه، مزيناً لحركاته ومرامي طرفه، ولا
سيما إن دهى بمتجن وبلى بمعربد.
ومن آياته مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظه لكل ما يقع منه، وبحثه عن أخباره حتى لا تسقط عنه دقيقة ولا جليلة، وتتبعه لحركاته. ولعمري لقد ترى البليد يصير في هذه الحالة ذكياً، والغافل فطناً.
خبر: ولقد كنت يوماً بالمرية قاعداً في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي، وكان بصيراً بالفراسة محسناً لها، وكنا في لمة، فقال له
مجاهد بن الحصين القيسي: ما تقول في هذا؟ وأشار إلى رجل منتبذ عنا ناحية اسمه حاتم ويكنى أبا البقاء، فنظر إليه ساعة يسيرة ثم قال: هو
رجل عاشق فقال له: صدقت، فمن أين قلت هذا؟ قال: لبهت مفرط ظاهر على وجهه فقط دون سائر حركاته، فعلمت أنه عاشق وليس
بمريب.