الرئيسيةبحث

طوق الحمامة/الوصل

طوق الحمامة الوصل
المؤلف: ابن حزم


ومن وجوه العشق الوصل، وهو حظ رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع. بل هو الحياة المجدة، والعيش السني، والسرور الدائم ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني؛ ومنتهى الأراجي. ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان ولا للمال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروح على المال، من الموقع في النفس ما للوصل؛ لا سيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتنصرم نار الرجاء. وما أصناف النبات بعد غب القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات في الزمان السجسج ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض الخضر، بأحسن من وصل حبيب قد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه. وأنه لمعجز ألسنة البلغاء، ومقصر فيه بيان الفصحاء، وعنده تطيش الألباب، وتعزب الأفهام. وفي ذلك أقول:

وسائل لي عما لي من العمر وقد رأى الشيب في الفودين والعذر
أجبته ساعة لا شيء أحسبه عمراً سواها بحكم العقل والنظر
فقال لي كيف ذا بينه لي فلقد أخبرتني أشنع الأنباء والخبر
فقلت إن التي قلبي بها علق قبلتها قبلة يوم على خطر
فما أعد ولو طالت سني سوى تلك السويعة بالتحقيق من عمري

ومن لذيذ معاني الوصل المواعيد، وإن للوعد المنتظر مكاناً لطيفاً من شغاف القلب، وهو ينقسم قسمين، أحدهما الوعد بزيارة المحب لمحبوبه وفيه أقول قطعة، منها:

أسامر البدر لما أبطأت وأرى في نوره من سنا إشراقها عرضاً
فبت مشترطاً والود مختلطاً والوصل منبسطاً والهجر منقبضاً

من كان ممتحنا بهوى في بعض المنازل المصاقبة فكان يصل متى شاء بلا مانع ولا سبيل إلى غير النظر والمحادثة زماناً طويلاً، ليلا متى أحب واراً، إلى أن ساعدته الأقدار بإجابة، ومكنته بإسعاد بعد يأسه، لطول المدة ولعهدي به قد كاد أن يختلط عقله فرحاً، وما كاد يتلاحق كلامه سروراً، فقلت في ذلك:

برغبة لو إلى ربي دعوت بها لكان ذنبي عند الله مغفوراً
ولو دعوت بها أسد الفلا لغدا إضرارها عن جميع الناس مقصوراً
فجاد باللثم لي من بعد منعته فاهتاج من لوعتي ما كان مغموراً
كشارب الماء كي يطفي الغليل به فغص فانصاع في الأجداث مقبوراً

وقلت:

جرى الحب مني مجرى النفس وأعطيت عيني عنان الفرس
ولي سيد لم يزل نافراً وربما جاد لي في الخلس
فقبلته طالباً راحة فزاد أليلا بقلبي اليبس
وكان فؤادي كتبت هشيم يبيس رمى فيه رام قبسي

ومنها:

ويا جوهر الصين سحقاً فقد عنيت بياقوتة الأنداس

خبر: وإني لأعرف جارية اشتد وجدها بفتى من أبناء الرؤساء، وهو لا علم عنده، وكثر غمها وطال أسفها إلى أن ضنيت بحبه، وهو بغرارة الصبي لا يشعر. ويمنعها من إبداء أمرها إليه الحياء منه لأنها كانت بكراً بخاتمها، مع الإجلال له عن الهجوم عليه بما لا تدري لعله لا يوافقه.

فلما تمادى الأمر وكانا إلفين في النشأة، شكت ذلك إلى امرأة جزلة الرأي كانت تثق بها لتوليها تربيتها، فقالت لها: عرضي له بالشعر. ففعلت المرة بعد المرة وهو لا يأبه في كل هذا، ولقد كان لقناً ذكياً لم يظن ذلك فيميل إلى تنتيش الكلام بوهمه، إلى أن عيل صبرها وضاق صدرها ولم تمسك نفسها في قعدة كانت لها معه في بعض الليالي منفردين، ولقد كان يعلم الله عفيفاً متصاوناً بعيداً عن المعاصي، فلما حان قيامها عنه بدرت إليه فقبلته في فمه ثم ولت في ذلك الحين ولم تكلمه بكلمة، وهي تتهادى في مشيها، كما أقول في أبيات لي:

كأنها حين تخطو في تأودها قضيب نرجسة في الروض مياس
كأنما خلدها في قلب عاشقها ففيه من وقعها خطر ووسواس
كأنما مشيها مشي الحمامة لا كد يعاب ولا بطء به باس

فبهت وسقط في يده وفت في عضده ووجد في كبده وعلته وجمة، فما هو إلا أن غابت عنه ووقع في شرك الردى واشتعلت في قلبه النار وتصعدت أنفاسه وترادفت أرجاله وكثر قلقه وطال أرقه، فما غمض تلك الليله عيناً، وكان هذا بدء الحب بينهما دهراً، إلى أن جذت جملتها يد النوى. وإن هذا لمن مصائد إبليس ودواعي الهوى التي لا يقف لها أحد ألا من عصمه الله عز وجل. ومن الناس من يقول: إن دوام الوصل يودي بالحب، وهذا هجين من القول، إنما ذلك لأهل الملل، بل كلما زاد وصلاً زاد اتصالاً.

وعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظلماً. وهذا حكم من تداوى برأيه وإن ربه عنه سريعاً. ولقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمى، فما وجدتني إلا مستزيداً، ولقد طال بي ذلك فما أحسست بسآمة ولا رهقتني فترة، ولقد ضمني مجلس مع بعض من كنت أحب فلم أجل خاطري في فن من فنون الوصل إلا وجدته مقصراً عن مرادي وغير شاف وجدي ولا قاض أقل لبانة من لباناتي، ووجدتني كلما ازددت دنواً ازددت ولوعاً، وقدحت زناد الشوق نار الوجد بين ضلوعي، فقلت في ذلك المجلس:

وددت بأن القلب شق بمدية وادخلت فيه ثم أطبق في صدري
فأصبحت فيه لا تحلين غيره إلى مقتضى يوم القيامة والحشر
تعيشين فيه ما حييت فإن أمت سكنت شغاف القلب في ظلم القبر

وما في الدنيا حالة تعدل محبين إذا عدما الرقباء، وأمنا الوشاة، وسلما من البين، ورغبا عن الهجر، وبعدا عن الملل، وفقدا العذال، وتوافقا في الأخلاق، وتكافيا في المحبة، وأتاح الله لهما رزقاً دارا، وعيشاً قاراً، وزماناً هادياً، وكان اجتماعهما على ما يرضي الرب من الحال، وطالت صحبتهما واتصلت إلى وقت حلول الحمام الذي لا مرد له ولا بد منه، هذا عطاء لم يحصل عليه أحد، وحاجة لم تقض لكل طالب، ولو لا أن مع هذه الحال الإشفاق من بغتات المقادير المحكمة في غيب الله عز وجل، من حلول فراق لم يكتسب؛ واخترام منية في حال الشباب أو ما أشبه ذلك، لقلت إنها حال بعيدة من كل آفة، وسليمة من كل داخلة. ولقد رأيت من اجتمع له هذا كله إلا أنه كان دهى فيمن كان يحبه بشراسة الأخلاق، ودالة على المحبة، فكانا لا يتهنيان العيش ولا تطلع الشمس في يوم إلا وكان بينهما خلاف فيه، وكلاهما كان مطبوعاً بهذا الخلق. لثقة لك واحد منهما بمحبة صاحبه، إلى أن دنت النوى بينهما فتفرقا بالموت المرتب لهاذ العالم، وفي ذلك أقول:

كيف أذم النوى وأظلمها وكل أخلاق من أحب نوى
قد كان يكفي هوى أضيق به فكيف إذ حل بي نوى وهوى

وروى عن زياد بن أبي سفيان رحمه الله أنه قال لجلساته: من أنعم الناس عيشة؟ قالوا: أمير المؤمنين. فقال: وأين ما يلقى من قريش؟ قيل: فأنت. قال: أين ما ألقى من الخوارج والثغور؟ قيل فمن أيها الأمير. قال: رجل مسلم له زوجة مسلمة لهما كفاف من العيش قد رضيت به ورضى بها لا يعرفنا ولا نعرفه.

وهل فيما وافق إعجاب المخلوقين، وجلا القلوب، واستمال الحواس. واستهوى النفوس، واستولى على الأهواء، واقتطع الألباب، واختلس العقول، مستحسن يعدل إشفاق محب على محبوب ولقد شاهدت من هذا المعنى كثيراً، وإنه لمن المناظر العجيبة الباعثة على الرقة الرائقة المعنى لا سيما إن كان هوى يتكتم به. فلو رأيت المحبوب حين يعرض بالسؤال عن سبب تغضبه بحبه، وخجلته في الخروج مما وقع فيه بالإعتذار، وتوجيهه إلى غير وجهه، وتحليله في استنباط معنى يقيمه عند جلسائه، لرأيت عجباً ولذة مخيفة لا تقاومها لذة، و رأيت أجلب للقلوب ولا أغوص على حياتها ولا أنفذ للمقاتل من هذا الغفل، وإن للمحبين في الوصل من الاعتذار ما أعجز أهل الأذهان الذكية والأفكار القوية. ولقد رأيت في بعض المرات هذا فقلت:

إذا مزجت الحق بالباطل جوزت ما شئت على الغافل
وفيهما فرق صحيح له علامة تبدو إلى العاقل
كالتبر إن تمزج به فضة جازت على كل فتى جاهل
وأن تصادف صائغاً ماهراً ميز بين المحض والحائل

وإني لأعلم فتى وجارية كان يكلف كل واحد منهما بصاحبه، فكانا يضطجعان إذا حضرهما أحد وبينهما المسند العظيم من المساند الموضوعة عند ظهور الرؤساء على الفرش ويلتقي رأساهما وراء المسند ويقبل كل واحد منهما صاحبه ولا يريان، وكأنهما إنما يتمدادن من الكلل. ولقد كان بلغ من تكافئهما في المودة آمراً عظيماً، إلى أن كان الفتى المحب ربما استطال عليها. وفي ذلك أقول:

ومن أعاجيب الزمان التي طمت على السامع والقائل
رغبة مركوب إلى راكب وذلة المسؤل للسائل
وطول مأسور إلى آسر وصولة المقتول للقاتل
ما إن سمعنا في الورى قبلها خضوع ممول إلى آمل
هل هاهنا وجه تراه سوى تواضع المفعول للفاعل

ولقد حدثتني امرأة أثق بها أنه شاهدت فتى وجارية كان يجد كل واحد منهما بصاحبه فضل وجد، قد اجتمعا في مكان على طرب، وفي يد الفتى سكين يقطع بها بعض الفواكه، فجراها جراً زائداً فقطع إبهامه قطعاً لطيفاً ظهر فيه دم، وكان على الجارية غلالة قصب خزائنية لها قيمة، فصرفت يدها وخرقيتها وأخرجت منها فضلة شد بها إبهامه. وأما هذا الفعل للمحب فقليل فيما يجب عليه، وفرض لازم وشريعة مؤداة، وكيف لا وقد بذل نفسه ووهب روحه فما يمنع بعدها.

خبر: وأنا أدركت بنت زكريا بن يحيى التميمي المعروف بابن برطال، وعمها كان قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن يحيى، وأخوه الوزير القائد الذي كان قتله غالب وقائدين له في الوقعة المشهورة بالثغور، وهما مروان بن أحمد بن شهيد ويوسف ابن سعيد العكي، وكانت متزوجة بيحيى بن محمد ابن الوزير يحيى بن إسحاق، فعاجلته المنية وهو في أغض عيشه وأنضر سرورهما، فبلغ من أسفها عليه أن باتت معه في دثار واحد ليلة ما ت وجعلته آخر العهد به وبوصله، ثم لم يفارقها الأسف بعده حين موتها.

وإن للوصل المختلس الذي يخاتل به الرقباء ويتحفظ به من الحضر، مثل الضحك المستور، والنحنحة، وجولان الأيدي، والضغط بالأجناب، والقرص باليد والرجل، لموقعاً من النفس شهياً. وفي ذلك أقول:

إن للوصل الخفي محلاً ليس للوصل المكين الجلي
لذة أمرها بارتقاب كمسير في خلال النقي

خبر: ولقد حدثني ثقة من إخواني جليل من أهل البيوتات أنه كان علق في صباه جارية كانت في بعض دور آله، وكان ممنوعاً منها فهام عقله بها. قال لي: فتترهنا يوماً إلى بعض ضياعناً بالسهلة غربي قرطبة مع بعض أعمامي، فتمشينا في البساتين وأبعدنا عن المنازل وانبسطنا على الأنهار. إلى أن غيمت السماء وأقبل الغيث، فلم يكن بالحضرة من الغطاء ما يكفي الجميع. قال: فأمر عمي ببعض الأغطية فأليقى علي وأمرها بالإكتنان معي، فظن بما شئت من التمكن على أعين الملأ وهم لا يشعرون، ويالك من جمع كخلاء، واحتفال كانفراد. قال لي: فوالله لا نسيت ذلك اليوم أبداً. ولعهدي به وهو يحدثني بهذا الحديث وأعضاؤه كلها تضحك وهو يهتز فرحاً على بعد العهد وامتداد الزمان. ففي ذلك أقول شعراً، منه:

يضحك الروض والسحائب تبكي كحبيب رآه صب معنى

خبر: ومن بديع الوصل ما حدثني به بعض إخواني أنه كان في بعض المنازل المصاقبة له هوى، وكان في المترلين موضع مطلع من أحدهما على الآخر، فكانت تقف له في ذلك الموضع، وكان فيه بعض البعد، فتسلم عليه ويدها ملفوفة في قميصها. فخاطبها مستخبراً لها عن ذلك. فأجابته: إنه ربما أحس من أمرنا شيء فوقف لك غيري فسلم عليك فرددت عليه، فصح الظن، فهذه علامة بيني وبينك فإذا رأيت يداً مكشوفة تشير نحوك بالسلام فليست يدي فلا تجاوب.

وربما استحلى الوصال واتفقت القلوب حتى يقع التخلج في الوصال، فلا يلتفت إلي لائم ولا يستتم من حافظ ولا يبالي بناقل، بل العذل حينئذ يغري. وفي صفة الوصل أقول شعراً، منه:

كم درت حول الحب حتى لقد حصلت فيه كحصول الفراش

ومنه:

تعشو إلى الوصل دواعي الهوى كماسرى نحو سنا النار عاش

ومنه:

عللني بالوصل من سيدي كمثل تعليل الظلماء العطاش

ومنه:

لا توقف العين على غاية فالحسن فيه مستزيد وباش

وأقول من قصيدة لي:

هل لقيل الحب من وادي أم هل لعاني الحب من فادي
أم هل لدهري عودة نحوها كمثل يوم مر في الوادي
ظللت فيه سابحاً صادياً يا عجباً للسابح الصعادي
ضنيت يا مولاي وجداً فما تبصرني ألحاظ عوادي
كيف اهتدي الوجد إلى غائب عن أعين الحاضر والبادي
مل مداواتي طبيبي فقد يرحمني للسقم حسادي