الرئيسيةبحث

طوق الحمامة/الطاعة

طوق الحمامة الطاعة
المؤلف: ابن حزم


ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع ن يحبه وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حمى الأنف، أبى الخسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب، وبتورط عمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة لياناً، والصعوبة سهلة والمضاء كلالة؛ والحمية استسلاماً. وفي ذلك أقول قطعة، منها:

فهل للوصال إلينا معاد وهل لتصاريف ذا الدهر حد
فقد أصبح السيف عبد القضيب وأضحى الغزال الأسير أسد

وأقول شعراً؛ منه:

وإني وإن تعتب لأهون هالك كذائب نقر زل من يد جهبذ
على أن قتلى في هواك لذاذة فيا عجباً من هالك متلذذ

ومنها:

ولو أبصرت أنوار وجهك فارس لأعناهم عن هرمزان وموبذ

وربما كان المحبوب كارهاً لإظهار الشكوى متبرماً بسماع الوجد؛ فترى المحب حينئذ يكتم حزنه ويكظم أسفه وينطوي على علته. وإن الحبيب متجن، فعندها يقع الاعتذار عند كل ذنب والإقرار بالجريمة، والمرء منها برئ، تسليما لقوله وتركاً لمخالفته. وإني لأعرف من دهى بمثل هذا فما كان ينفك من توجه الذنوب نحوه ولا ذنب له، وإيقاع العتاب عليه والسخط وهونقي الجلد. وأقول شعراً إلى بعض إخواني، ويقرب مما نحن فيه وإن لم يكن منه:

وقد كنت تلقاني بوجه لقربه تدان وللهجران عن قربه سخط
وما تكره العتب اليسير سجيتي على أنه قد عيب في الشعر الوخط
فقد يتعب الإنسان في الفكر نفسه وقد يحسن الخيلان في الوجه والنقط
تزين إذا قلت ويفحش أمرها إذا أفرطت يوماً وهل يحمد الفرط

ومنه:

أعنه فقد أضحى لفرط همومه يبكي إذ القرطاس والحبر والخط

ولا يقولن قائل إن صبر المحب على دلة المحبوب دناءة في النفس فقد أخطأ، وقد علمنا أن المحبوب ليس له كفواً ولا نظيراً فيقارض بأذاه، وليس سبه وجفاه مما يعير به الإنسان ويبقى ذكره على الأحقاب، ولا يقع ذلك في مجالس الخلفاء، ولا في مقاعد الرؤساء، فيكون الصبر جاراً للمذلة، وضراعة قائدة للاستهانة، فقد ترى الإنسان لا يكلف بأمته التي يملك رقها، ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها فكيف الانتصار منها. وسبل الامتعاض من السبب غير هذه، إنما ذلك بين علية الرجال الذين تحصل أنفاسهم وتتبع معاني كلامهم فتوجه لها الوجوه البعيدة، لأنهم لا يوقعونها سدى ولا يلقونها هملاً، وأما المحبوب فصعدة ثابتة، وقضيب منآد، يجفو ويرضى متى شاء لا لمعنى. وفي ذلك أقول:

ليس التذلل في الهوى يستنكر فالحب فيه يخضع المستكبر
لا تعجبوا من ذلتي في حالة قد ذل فيها قلبي المستبصر
ليس الحبيب مماثلاً ومكافياً فيكون صبرك ذلة إذ تصبر
تفاحة وقعت فآلم وقعها هل قطعها منك انتصاراً يذكر

خبر: وحدثني أبو دلف الوراق عن ملسمة بن أحمد الفيلسوف المعروف بالمرجيطى أنه قال في المسجد الذي بشرقي مقبرة قريش بقرطبة الموازي لدار الوزير ابن عمرو أحمد بن محمد جدير رحمه الله: في هذا المسجد كان مقدم بن الأصفر مريضاً أيام حداثته لعشق بعجيب فتى الوزير أبي عمرو المذكور. وكان يترك الصلاة في مسجد مسرور وبها كان سكناه، ويقصد في الليل والنهار إلى هذا المسجد بسبب عجيب، حتى أخذه الحرس غير ما مرة في الليل في حين انصرافه عن صلاة العشاء الآخرة، وكان يقعد وينظر منه إلى أن كان الفتى يغضب ويضجر ويقوم إليه فيوجعه ضرباً ويلطم خديه وعينيه، فيسر بذلك ويقول: هذا والله أقصى أمنيتي والآن قرت عيني، وكان على هذا زماناً يماشيه.

قال أبو دلف: ولقد حدثنا مسلم بهذا الحديث غير مرة بحضرة عجيب عندما كان يرى من وجاهة مقدم بن الأصفر وعرض جاهه وعافيته، فكانت حال مقدم بن الأصفرهذا قد جلت جداً واختص بالمظفر بن أبي عامر اختصاصاً شديداً واتصل بوالدته وأهله وجرى على يديه من بنيان المساجد والسقايات وتسهيل وجوه الخير غير قليل، مع تصرفه في كل ما يتصرف فيه أصحاب السلطان من العناية بالناس وغير ذلك.

خبر: وأشنع من هذا أنه كانت لسعيد بن منذر بن سعيد صاحب الصلاة في جامع قرطبة أيام الحكم المستنصر بالله رحمه الله جارية يحبها حباً شديداً، فعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها. فقالت له ساخرة به، وكان عظيم اللحية: إن لحيتك أستبشع عظمها فإن حذفت منها كان ما ترغبه. فأعمل الجملين فيها حتى لطفت، ثم دعا بجماعة شهود وأشهدهم على عتقها، ثم خطبها إلى نفسه فلم ترض به. وكان في جملة من حضر أخوه حكم بن منذر فقال لمن حضر: اعرض عليها أني أخطبها أنا، ففعل فأجابت إليه. فتزوجها في ذلك المجلس بعينه ورضي بهذا العار الفادح على ورعه ونسكه واجتهاده.

فأنا أدكت سعيداً هذا وقد قتله البربر يوم دخولهم قرطبة عنوة وانتهابهم إياها وحكم المذكور أخوه هو رأس المعتزلة بالأندلس وكبيرهم وأستاذهم ومتكلمهم وناسكهم، وهو مع ذلك شاعر طيب وفقيه. وكان أخوه عبد الملك ابن منذر متهماً بهذا المذهب أيضاً. ولي خطبة الرد أيام الحكم رضي الله عنه وهو الذي صلبه المنصور بن أبي عامر إذ اتهمه هو وجماعة من الفقهاء والقضاة بقرطبة أنهم يبايعون سراً لعبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر رضي الله عنهم، فقتل عبد الرحمن وصلب عبد الملك بن منذر وبدد شمل جميع من اتهم. وكان أبوهم قاضي القضاة منذر بن سعيد متهماً بمذهب الاعتزال أيضاً. وكان أخطب الناس وأعلمهم بكل فن وأورعهم وأكثرهم هزلاً ودعابة. وحكم المذكور في الحياة في حين كتابتي إليك بهذه الرسالة قد كف بصره وأسن جداً.

خبر: ومن عجيب طاعة المحب لمحبوبه أني أعرف من كان سهر الليالي الكثيرة ولقى الجهد الجاهد فقطعت قلبه ضروب الوجد ثم ظفر بمن يحب وليس به امتناع ولا عنده دفع، فحين رأى منه بعض الكراهة لما نواه تركه وانصرف عنه، لا تعففاً ولا تخوفاً لكن توقفاً عند موافقة رضاه، ولم يجد من نفسه معيناً على إتيان ما لم ير له إليه نشاطاً وهو يجد ما يجد. وإني لأعرف منفقل هذا الفعل ثم تندم لعذر ظهر من المحبوب.

فقلت في ذلك:

غافص الفرصة واعلم أنها كمضي البرق تمضي الفرص
كم أمور أمكنت أمهلها هي عندي إذ تولت غصص
بادر الكنز الذي ألفيته وانتهز صبراً كبارز يقنص

ولقد عرض مثل هذا بعينه لأبي المظفر عبد الرحمن بن محمود صديقنا وأنشدته أبياتاً لي فطار بها كل مطار، وأخذها مني فكانت هجيراه.

خبر: ولقد سألني يوماً أبو عبد الله محمد بن كليب من أهل القيروان أيام كوني بالمدينة، وكان طويل اللسان جداً مثقفاً للسؤال في كل فن، فقال لي وقد جرى بعض ذكر الحب ومعانيه: إذا كره من أحب لقائي وتجنب قربي فما أصنع؟ قلت: أرى أن تسعى في إدخال الروح على نفسك بلقائه وإن كره. فقال: لكني لا أرى ذلك بل أوثر هواه على هواي ومراده على مرادي، واصبر ولو كان في ذلك الحتف. فقلت له: إني إنما أحببته لنفسي ولا لتذاذها بصورته فأنا أتبع قياسي وأقود أصلي وأقفو طريقتي في الرغيبة في سرورها. فقال لي: هذا ظلم من القياس، أشد من الموت ما تمنى له الموت. وأعز من النفس ما بذلت له النفس. فقلت له: إن بذلت نفسك لم يكن اختياراً بل كان اضطراراً، ولو أمكنك ألا تبذلها لما بذلتها، وتركك لقاءه اختياراً منك أنت فيه ملوم لإضرارك بنفسك وإدخالك الحتف عليها. فقال لي: أنت رجل جدلي ولا جدل في الحب يلتفت إليه. فقلت له: إذاً كان صاحبه مؤوفاً فقال: وأي آفة أعظم من الحب.