وقد علمنا أنه لا بد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين. وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سألت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلاً. وسمع بعض الحماء قائلاً يقول:
الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق.
والبين ينقسم أقساماً: فأولها مدة يوقن بانصرامها وبالعودة عن قريب، وإنه لشجي في القلب، وغصة في الحلق لا تبرأ إلا بالرجعة، وأنا أعلم
من كان يغيب من يحب عن بصره يوماً واحداً فيعتريه من الهلع والجزع وشغل البال وترادف الكرب ما يكاد يأتي عليه.
ثم بين منع من اللقاء، وتحظير على المحبوب من أن يراه محبه، فهذا ولو كان من تحبه ومعك في دار واحدة فهو بين: لأنه بائن عنك. وإن هذا
ليولد من الحزن والأسف غير قليل، ولقد جربناه فكان مراً، وفي ذلك أقول:
أرى دارها في كل حين وساعة
|
|
ولكن من في الدار عني مغيب
|
وهل نافعي قرب الديار وأهلها
|
|
على وصلهم مني رقيب مراقب
|
فيالك جار الجنب أسمع حسه
|
|
وأعلم أن الصين أدنى وأقرب
|
كصاد يرى ماء الطوى بعينه
|
|
وليس إليه من سبيل يسبب
|
كذلك من في الحد عنك مغيب
|
|
وما دونه إلا الصفيح المنصب
|
وأقول من قصيدة مطولة:
متة تشتفي نفس أضر بها الوجد
|
|
وتصقب دار قد طوى أهلها البعد
|
وعهدي بهند وهي جارة بيتنا
|
|
وأقرب من هند لطالبها الهند
|
بلى إن في قرب الديار لراحة
|
|
كما يمسك الظمآن أن يدنو الورد
|
ثم بين يتعمده المحب بعداً عن قول الوشاة، وخوفاً أن يكون بقاؤه سبباً إلى منع اللقاء، وذريعة إلى أن يفشو الكلام فيقع الحجاب الغليظ.
ثم بين يولده المحب لبعض ما يدعوه إلى ذلك من آفات الزمان، وعذره مقبول أو مطرح على قدر الجافز له إلى الرحيل.
خبر: ولعهدي بصديق لي داره المرية، فعنت له حوائج إلى شاطبة فقصدها، وكان نازلاً بها في مترلي مدة إقامته بها، وكان له بالمرية علاقة هي
أكبر همه وأدهى غمه، كان يؤمل بتها وفراغ أسبابه وأن يوشك الرجعة ويسرع الأوبة، فلم يكن إلا حين لطيف بعد احتلاله عندي حتى
جيش الموفق أبو الحسن مجاهد صاحب الجزائر الجيوش وقرب العساكر ونابذ خيران صاحب المرية وعزم على استئصاله، فانقطعت الطرق
بسبب هذه الحرب، وتحوميت السبل واحترس البحر بالأساطيل، فتضاعف كربه إذ لم يجد إلى الانصراف سبيلاً البتة، وكاد يطفأ أسفاً،
وصار لا يأنس بغير الوحدة، ولا يلجأ إلا إلى الزفير والوجوم. ولعمري لقد كان ممن لم أقدر قط فيه أن قلبه يذعن للود، ولا شراسة طبعه
وتجيب إلى الهوى.
وأذكر أني دخلت قرطبة بعد رحيلي عنها ثم خرجت منصرفاً عنها فضمني الطريق مع رجل من الكتاب قد رحل لأمر مهم وتخلف سكن له،
فكان يرتمض لذلك. وإني لأعلم من علق بهوى له وكان في حال شظف وكانت له في الأرض مذاهب واسعة ومناديح رحبة ووجوه
متصرف كثيرة، فهان عليه ذلك وآثر الإقامة مع من يجب، وفي ذلك أقول شعراً، منه:
لك في البلاد منادح معلومة
|
|
والسيف غفل أو يبين قرابه
|
ثم بين رحيل وتباعد ديار، ولا يكون من الأوبة فيه على يقين خبر، ولا يحدث تلاق. وهو الخطب الموجع، والهم المفظع، والحادث الأشنع،
والداء الدوي. وأكثر ما يكون الهلع فيه إذا كان النائي و المحبوب، وهو الذي قالت فيه الشعراء كثيراً. وفي ذلك أقول قصيدة، منها:
وذي علة أعيا الطبيب علاجها
|
|
ستوردني لا شك منهل مصرعي
|
رضيت بأن أضحى قتيل وداده
|
|
كجارع سم في رحيق مشعشع
|
فما لليالي ما أقل حياءها
|
|
وأولعها بالنفس من كل مولع
|
كأن زماني عبشمي يخالني
|
|
أعنت على عثمان أهل التشيع
|
وأقول من قصيدة:
أطنك تمثال الجنان أباحه
|
|
لمجتهد النساك من أوليائه
|
وأقول من قصيدة:
لأبرد باللقيا غليلاً من الهوى
|
|
توقع نيران الغضي هيمانه
|
وأقول شعراً منه:
خفيت عن الأبصار والوجد ظاهر
|
|
فاعجب بأعراض تبين ولا شخص
|
غدا الفلك الدوار حلقة خاتم
|
|
محيط بما فيه وأنت له فض
|
وأقول من قصيدة:
غنيت عن التشبيه حسناً وبهجة
|
|
كما غنيت شمس السماء عن الحلى
|
عجبت لنفسي بعده كيف لم تمت
|
|
وهجرانه دفني وفقدانه نعيي
|
وللجسد الغض المنعم كيف لم
|
|
تذبه يد خشناء.....
|
وإن للأوبة من البين الذي تشفق منه النفس لطول مسافته وتكاد تيأس من العودة فيه، لروعة تبلغ مالا حد وراءه وربما قتلت. في ذلك أقول:
للتلاقي بعد الفراق سرور
|
|
كسرور المفيق حانت وفاته
|
فرحة تبهج النفوس وتحي
|
|
من دنا منه بالفراق مماته
|
ربما قد تكون داهية المو
|
|
ت وتودي بأهله هجماته
|
كم رأينا من عب في الماء عطشا
|
|
ن فزار الحمام وهو حياته
|
وإني لأعلم من نأت دار محبوبه زمناً ثم تيسرت له أوبة فلم يكن إلا بقدر التسليم واستيفائه، حتى دعته نوى ثانية فكاد أن يهلك. وفي ذلك
أقول:
أطلت زمان البعد حتى إذا انقضى
|
|
زمان النوى بالقرب عدت إلى البعد
|
فلم يك إلا كرة الطرف قربكم
|
|
وعاودكم بعدي وعاودني وجدي
|
كذا حائر في الليل ضاقت وجوهه
|
|
رأى البرق في داج من الليل مسود
|
فأخلفه منه رجاء دوامه
|
|
وبعض الأراجي لا تفيدو ولا تجدي
|
وفي الأوبة بعد الفراق أقول قطعة، منها:
لقد قرت العينان بالقرب منكم
|
|
كما سخنت أيام يطويكم البعد
|
فلله فيما قد مضى الصبر والرضى
|
|
ولله فيما قد قضى الشكر والحمد
|
خبر: ولقد نعى إلى بعض من كنت أحب من بلدة نازحة، فقمت فاراً بنفسي نحو المقابر وجعلت أمشي بينها وأقول:
وددت بأن ظهر الأرض بطن
|
|
وأن البطن منها صار ظهراً
|
وأني مت قبل ورود خطب
|
|
أتى فأثار في الأكباد جمراً
|
وأن دمى لمن قد بان غسل
|
|
وأن ضلوع صدري كن قبراً
|
ثم اتصل بعد حين تكذيب ذلك الخبر فقلت:
بشرى أتت واليأس مستحكم
|
|
والقلب في سبع طباق شداد
|
كست فؤادي خضرة بعدما
|
|
كان فؤادي لابساً للحداد
|
جلى سواد الغم عني كما
|
|
يجلي بلون الشمس لون السواد
|
هذا وما آمل توصلاً سوى
|
|
صدق وفاء بقديم الوداد
|
فالمرن قد تطلب لا للحيا
|
|
لكن لظل بارد ذي امتداد
|
ويقع في هذين الصنفين من البين الوداع، أعني رحيل المحب أو رحيل الحبوب. وإنه لمن المناظر الهائلة والمواقف الصعبة التي تفتضح فيها عزيمة
كل ماضي العزائم، وتذهب قوة كل ذي بصيرة، وتسكب كل عين جمود، ويظهر مكنون الجوى. وهو فصل من فصول البين يجب التكلم
فيه، كالعتاب في باب الهجر. ولعمري لو أن ظريفاً يموت في ساعة الوداع لكان معذوراً إذا تفكر فيما يحل به بعد ساعة من انقطاع الآمال،
وحلول الأوجال، وتبدل السرور بالحزن. وإنها ساعة ترق القلوب القاسية، وتلين الأفئدة الغلاظ. وإن حركة الرأس وإدمان النظر والزفرة
بعد الوداع لهاتكة حجاب القلب، وموصلة إليه من الجزع بمقدار ما تفعل حركة الوجه في ضد هذا.
والإشارة بالعين والتبسم ومواطن الموافقة والوداع ينقسم قسمين، أحدهما لا يتمكن فيه إلا بالنظر والإشارة، والثاني يتمكن فيه بالعناق
والملازمة، وربما لعله كان لا يمكن قبل ذلك البتة مع تجاور المحال وإمكان التلاقي، ولهذا تمنى بعض الشعراء البين ومدحوا يوم النوى، وما ذاك
بحسن ولا بصواب ولا بالأصيل من الرأي، فما يفي سرور ساعة بحزن ساعات، فكيف إذا كان البين أياماً وشهوراً وربما أعواماً، وهذا سوء
من النظر ومعوج من القياس، وإنما أثنيت على النوى في شعري تمنياً لرجوع يومها، فيكون في كل يوم لقاء ووداع. على أن تحمل مضض
هذا الاسم الكريه، وذلك عند ما يمضي من الأيام التي لا التقاء فيها، يرغب المحب عن يوم الفراق لو أمكنه في كل يوم. وفي الصنف الأول
من الوداع أقول شعراً، منه:
تنوب عن بهجة الأنوار بهجته
|
|
كما تنوب عن النيران أنفاسي
|
وفي الصنف الثاني من الوداع أقول شعراً، منه:
وجه تخر له الأنوار ساجدة
|
|
والوجه تم فلم ينقص ولم يزد
|
دفء وشمس الضحى بالجدي نازلة
|
|
وبارد ناعم والشمس في الأسد
|
ومنه:
يوم الفراق لعمري لست أكرهه
|
|
أصلان وإن شت شمل الروح عن جسدي
|
ففيه عانقت من أهوى بلا جزع
|
|
وكان من قبله إن سبل لم يجد
|
أليس من عجب دمعي وعبرتها
|
|
يوم الوصال ليوم البين ذو حسد
|
وهل هجس في الأفكار أو قام في الظنون أشنع وأوجعمن هجر عتاب وقع بين محبين، ثم فجأتها النوى قبل حلول الصلح وانحلال عقدة
الهجران، فقاما إلى الوداع وقد نسي العتاب، وجاء ما طم عن القوى وأطار الكرى وفيه أقول شعراً، منه:
وقد سقط العتب المقدم وامحى
|
|
وجاءت جيوش البين تجري وتسرع
|
وقد ذعر البين الصدود فراعه
|
|
فولى فما يدري له اليوم موضع
|
كذئب خلا بالصيد حتى أضله
|
|
هزبر له من جانب الغيل مطلع
|
لئن سرني في طرده الهجر أنني
|
|
لإبعاده عني الحبيب لموجع
|
ولا بد عند الموت من بعض راحة
|
|
وفي غيها الموت الوحى المصرع
|
وأعرف من أتى ليودع محبوبه يوم الفراق فوجده قد فات، فوقف على آثاره ساعة وتردد في الموضع الذي كان فيه ثم انصرف كثيباً متغير
اللون كاسف البال، فما كان بعد أيام قلائل حتى اعتل ومات رحمه الله.
وإن للبين في إظهار السرائر المطوية عملاً عجباً، ولقد رأيت من كان حبه مكتوما وبما يجد فيه مستتراً حتى وقع حادث الفراق فباح المكنون
وظهر الخفي. وفي ذلك أقول قطعة، منها:
بذلت من الود ما كان قبل
|
|
منعت وأعطيتنيه جزافاً
|
وما لي به حاجة عند ذاك
|
|
ولو وجدت قبل بلغت الشفافا
|
وما ينفع الطب عند الحمام
|
|
وينفع قبل الردى من تلافا
|
وأقول:
الآن إذ حل الفراق جدت لي
|
|
بخفى حب كنت تبدي بخله
|
فزدتني في حسرتي أضعافها
|
|
ويحي فهلا كان هذا قبله
|
ولقد أذكرني هذا أني حظيت في بعض الأزمان بمودة رجل من وزراء السلطان أيام جاهه فأظهر بعض الإمتساك، فتركته حتى ذهبت أيامه
وانقضت دولته، فأبدى لي من المودة والأخوة غير قليل، فقلت:
بذلت لي الإعراض والدهر مقبل
|
|
وتبذل لي الإقبال والدهر معرض
|
وتبسطني إذ ليس ينفع بسطكم
|
|
فهلا أبحت البسط إذ كنت تقبض
|
ثم بين الموت وهو الفوت، وهوى الذي لا يرجى له إياب، وهو المصيبة الحالة وهو قاصمة الظهر، وداهية الدهر، وهو الويل، وهو المغطى
على ظلمة الليل، وهو قاطع كل رجاء، وماحي كل طمع والمؤيس من اللقاء. وهنا حادث الألسن؛ وانجذام حبل العلاج، فلا حيلة إلا الصبر طوعاً أو كرهاً. وهو أجل ما يبتلي به المحببون، فما لمن دعى به إلا النوح والبكاء إلى أن يتلف أو يمل، فهي القرحة التي لا تنكي، والوجع
الذي لا يفنى، وهو الغم الذي يتجدد على قدر بلاء من اعتمدته، وفيه أقول:
لا تعجل قنطاً
|
|
لم يفت من لم يمت
|
والذي قد مات فال
|
|
يأس عنه قد ثبت
|
وقد رأينا من عرض له هذا كثيراً. وعني أخبرك أني أحد من دهى بهذه الفادحة وتعدلت له هذه المصيبة، وذلك أني كنت أشد الناس كلفاً
وأعظمهم حباً بجارية لي، كانت فيما خلا اسمها نعم. وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقاً وخلقاً وموافقة لي، وكنت أبا عذرها، وكنا
قد تكافأنا المودة، ففجعتني بها الأقدار واحترمتها الليالي ومر النهر وصارت ثالثة التراب والأحجار. وسيء حين وفاتها دون العشرين سنة،
وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها.
وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الآن. ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعاً
طائعاً وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها. ولقد عفى حي لها على كل ما قبله، وحرم ما كان بعده. ومما قلت
فيها:
مهذبة بيضاء كالشمس إن بدت
|
|
وسائر ربات الحجال نجوم
|
إطار هواها القلب عن مستقره
|
|
فبعد وقوع ظل وهو يحوم
|
ومن مرائي فيها قصيدة منها:
كأني لم آنسى بألفاظك التي
|
|
على عقد الألباب هن نوافث
|
ولم أتحكم في الأماني كأنني
|
|
لإفراط ما حكمت فيهن عابث
|
ومنها:
ويبدين إعراضاً وهن أوالف
|
|
ويقسمن في هجري وهن حوانث
|
وأقول أيضاً في قصيدة أخاطب فيها ابن عمي أبو المغيرة عبد الوهاب أحمد ابن عبد الرحمن بن حزم بن غالب وأقرضه، فأقول:
قفا فاسألا الأطلال أين قطينها
|
|
أمرت عليها بالبلى الملوان
|
على دارسات مقفرات عواطل
|
|
كأن المغاني في الخفاء معاني
|
واختلف الناس في أي الأمرين أشد: البين أم الهجر؟ وكلاهما مرتقى صعب ومرت أحمر وبلية سوداء وسنة شهباء. وكل يستبشع من هذين
ما ضاد طبعه، فأما ذو النفس الأبية، الألوف الحنانة، الثابتة على العهد، فلا شيء يعدل عنده مصيبة البين، لأنه أتى قصداً، وتعمدته النوائب
عمداً، فلا يجد شيئاً يسلى نفسه ولا يصرف فكرته في معنى من المعاني إلا وجد باعثاً على صبابته؛ ومحركاً لأشجانه، وعليه لا له، وحجة
لوجوده. وخاضا على البكاء على إلفه. وأما الهجر فهو داعية السلو، ورائد الإقلاع.
وأما ذو النفس التواقة الكثيرة التروع والتطلع، القلوق العزوف، فالهجر داؤه وجالب حتفه. والبين له مسلاة ومنساة.
وأما أنا فالموت عندي أسهل من الفراق، وما الهجر إلا جالب للكمد فقط. ويوشك إن دام أن يحدث إضراراً، وفي ذلك أقول:
وقالوا ارتحل فلعل السلو
|
|
يكون وترغب أن ترغبه
|
فقلت الردي لي قبل السلو
|
|
ومن يشرب السم عن تجربه
|
وأقول:
سبي مهجي هواه
|
|
وأودت بها نواه
|
كأن الغرام ضيف
|
|
وروحي غدا قراه
|
ولقد رأيت من يستعمل هجر محبوبه ويتعمده خوفاً من مرارة يوم البين وما يحدث به من لوعة الأسف عند التفرق، وهذا وإن لم يكن عندي
من المذاهب المرضية، فهو حجة قاطعة. على أن البين أصعب من الهجر، وكيف لا وفي الناس من يلوذ بالهجر خوفاً من البين، ولم أجد أحداً
في الدنيا يلوذ بالبين خوفاً من الهجر، إنما يأخذ الناس أبداً الأسهل ويتكلفون الأهون. وإنما قلنا إنه ليس من المذاهب المحمودة لأن أصحابه قد
استعجلوا البلاء قبل نزوله، وتجرعوا غصة الصبر قبل وقتها ولعل ما تخوفوه لا يكون وليس من يتعجل المكروه، وهو على غير يقين مما
يتعجل، بحكيم، وفيه أقول شعراً، منه:
ليس الصب للصبابة بيناً
|
|
لسي من جانب الأحبة منا
|
كغي العيش عيش فقير
|
|
خوف نقرو نقره قداً ما
|
وأذكر لابن عمي أبي المغيرة هذا المعنى، من أن البين أصعب من الصد، أبياتاً من قصيدة خاطبني بها وهو ابن سبعة عشر عاماً أو نحوها،
وهي:
أجزعت أن أزف الرحيل
|
|
وولهت أن نص الذميل
|
كلا مصابك فادح
|
|
وأجل فراقهم جليل
|
كذب الألى زعموا بأن
|
|
الصد مرتعه وبيل
|
لم يعرفوا كنه الغليل
|
|
وقد تحملت الحمول
|
أما الفراق فإنه
|
|
للموت إن أهوى دليل
|
ولي في هذا المعنى قصيدة مطولة، أولها:
لا مثل يومك ضحوة التنعيم
|
|
في منظر حسن وفي تنغيم
|
قد كان ذاك اليوم ندرة عاقر
|
|
وصواب خاطئة وولد عقيم
|
أيام برق الوصل ليس بخلب
|
|
عندي ولا روض الهوى بهشيم
|
من كل غانية تقول ثديها
|
|
سيرى أمامك والإزار أقيمى
|
كل يجاذبها فحمرة خدها
|
|
خجل من التأخير والتقديم
|
ما بي سوى تلك العيون وليس في
|
|
برئي سواها في الورى بزعيم
|
مثل الأفاعي ليس في شيء سوى
|
|
أجسادها إباء لدغ سليم
|
والبين أبكى الشعراء على المعاهد فأدروا على الرسوم الدموع، وسقوا الديار ماء الشوق، وتذكر ما قد سلف لهم فيها فأعولوا وانتخبوا،
وأحيت الآثار دفين شوقهم فناحوا وبكوا.
ولقد أخبرني بعض الوراد من قرطبة وقد استخبرته عنها، أنه رأى دورنا ببلاط مغيث، في الجانب الغربي منها وقد امحت رسومها، وطمست
أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيرها البلى وصارت صحاري مجدبة بعد العمران، وقيافي موحشة بعد الأنس، وخرائب منقطعة بعد الحسن،
وشعاباً مفزعة بعد الأمن ومأوى للذئاب، ومعازف للغيلان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش، بعد رجال كالليوث، وخرائد كالدمى
تفيض لديهم النعم الفاشية. تبدد شملهم فصاروا في البلاد أيادي سبا، فكأن تلك المحارب المنمقة. والمقاصير المزينة، التي كانت تشرق إشراق
الشمس، ويجلو الهموم حسن منظرها، حين شملها الخراب، وعمها الهدم، كأفواه السباع فاغرة، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب أهلها،
وتخبرك عما يصير إليه كل من تراه قائماً فيها. وتزهد في طلبها بعد أن طالما زهدت في تركها، وتذكرت أيامي بها ولذاتي فيها وشهور
صباي لديها، مع كواعب إلى مثلهن صبا الحليم، ومثلت لنفسي كونهن تحت الثرى وفي الآثار النائية والنواحي البعيدة وقد فرقتهن يد الجلاء،
ومزقتهن أكف النوى، وخيل إلى بصرى بقاء تلك النصبة بعد ما علمته من حسنها وغضارتها والمراتب المحكمة التي نشأت فيما لديها،
وخلاء تلك الأفنية بعد تضايقها بأهلها، وأوهمت سمعي صوت الصدى والهام عليها، بعد حركة تلك الجماعات التي ربيت بينهم فيها، وكان
ليلها تبعاً لنهارها في انتشار ساكنها والتقاء عمارها، فعاد نهارها تبعاً لليلها في الهدوء والاستيحاش، فأبكى عيني، وأوجع قلبي، وقرع صفاة
كبدي، وزاد في بلاء لبي، فقلت شعراً منه:
لئن كان أظلمانا فقد طالما سقى
|
|
وإن ساءنا فيها فقد طالما سرا
|
والبين يولد الحنين والاهتياج والتذكر. وفي ذلك أقول:
ليت الغراب يعيد اليوم لي فعسى
|
|
يبين بينهم عني فقد وقفا
|
أقول والليل قد أرخى أجلته
|
|
وقد تألى بألا ينقضي فوفى
|
وللنجم قد حار في أفق السماء فما
|
|
يمضي ولا هو للتغوير منصرفاً
|
تخاله مخطئاً أو خائفاً وجلاً
|
|
أو راقباً موعداً أو عاشقاً دنفا
|