وكما أن الوفاء من سرى النعوت ونبيل الصفات، فكذلك الغدر من ذميمها ومكروها، وإنما يسمى غدراً من البادي. وأما المقارض بالغدر
على مثله، وإن استوى معه في حقيقة الفعل فليس بغدر ولا هو معيباً بذلك، والله عز وجل يقول: "وجزاء سيئة سيئة مثلها". وقد علمنا أن
الثانية ليست بسيئة ولكن لما جانست الأولى في الشبه أوقع عليها مثل اسمها، وسيأتي هذا مفسراً في باب السلو إن شاء الله. ولكثرة وجود
الغدر في المحبوب استغرب الوفاء منه فصار قليله الواقع منهم يقاوم الكثير الموجود في سواهم. وفي ذلك أقول:
قليل وفاء من يهوى يجل
|
|
وعظم وفاء من يهوى يقل
|
فنادرة الجبان أجل مما
|
|
يجيء به الشجاع المستقل
|
ومن قبيح الغدر أن يكون للمحب سفير إلى محبوبه يستريح إليه بأسراره فيسعى حتى يقلبه إلى نفسه ويستأثر به دونه. وفيه أقول:
أقمت سفيراً قاصداً في مطالبي
|
|
وثقت به جهلا فضرب بيننا
|
وحل عرى ودي وأثبت وده
|
|
وأبعد عني كل ما كان ممكنا
|
فصرت شهيداً بعد ما كنت مشهداً
|
|
وأصبحت ضيفاً بعد ما كان ضيفنا
|
خبر: ولقد حدثني القاضي يونس بن عبد الله قال: أذكر في الصبى جارية في بعض السدد يهواها فتى من أهل الأدب من أبناء الملوك وتهواه
ويتراسلان، وكان السفير بينهما والرسول بكتبهما فتى من أترابه كان يصل إليها، فلما عرضت الجارية للبيع أراد الذي كان يحبها ابتياعها،
فبدر الذي كان رسولاً فاشتراها. فدخل عليها يوماً فوجدها قد فتحت درجاً لها تطلب فيه بعض حوائجها، فأتى إليها وجعل يفتش الدرج،
فخرج إليه كتاب من ذلك الفتى الذي كان يهواها مضمخاً بالغالية مصوناً مكرماً، فغضب وقال: من أين هذا يا فلسقة؟ قالت: أنت سقته
إلي. فقال: لعله محدث بعد ذاك الحين. فقالت: ما هو إلا من قديم تلك التي تعرف. قال فكأنما ألقمته حجراً، فسقط في يديه وسكت.