الرئيسيةبحث

طوق الحمامة/السلو

طوق الحمامة السلو
المؤلف: ابن حزم


وقد علمنا أن كل ماله أول فلا بد من آخر، حاشى نعيم الله عز وجل، الجنة لأوليائه وعذابه بالنار لأعدائه. وأما أعراض الدنيا فنافذة فانية وزائلة مضمحلة، وعاقبة كل حب إلى أحد أمرين: إما احترام منية، وإما سلو حادث. وقد نجد النفس تغلب عليها بعض القوى المصرفة معها في الجسد، فكما نجد نفساً ترفض الراحات والملاذ للعمل في طاعة الله تعالى والرياء في الدنيا، حتى تشتهر بالزهد، فكذلك نجد نفساً تنصرف عن الرغبة في لقاء شكلها للأنفة المستحكمة المنافرة للغدر، أو استمرار سوء المكافأة في الضمير، وهذا أصح السلو، وما كان من غير هذين الشيئين فليس إلا مذموماً. والسلو المتولد من الهجر وطوله إنما هو كاليأس يدخل على النفس من بلوغها إلى أملها، فيفتر نزاعها ولا تقوى رغبتها. ولي في ذم السلو قصيدة، منها:

إذا ما رنت فالحي ميت بلحظها وإن نطقت قلت السلام رطاب
كأن الهوى ضيف ألم بمهجتي فلحمى طعام والنجيع شراب

ومنها:

صبور على الأزم الذي العز خلفه ولو امطرنه بالحريق سحاب
جزوعاً من الراحات إن أنتجت له خمولا وفي بعض النعيم عذاب

والسلو في التجربة الجميلة ينقسم قسمين: سلو طبيعي، وهو المسمى بالنسيان يخلو به القلب ويفرغ به البال، ويكون الإنسان كأنه لم يحب قط: وهذا القسم ربما لحق صاحبه الذم لأنه حادث عن أخلاق ومذمومة، وعن أسباب غير موجبة استحقاق النسيان. وستأتي مبينة إن شاء الله تعالى، وربما لم تلحقه اللائمة لعذر صحيح والثاني سلو تطبعي، قهر النفس، وهو المسمى بالتصبر، فترى المرء يظهر التجلد وفي قلبه أشد لدغاً من وخز الإشفي، ولكنه يرى بعض الشر أهون من بعض، أو يحاسب نفسه بحجة لا تصرف ولا تكسر وهذا قسم لا يذم آتيه، ولا يلام فاعله لأنه لا يحدث إلا عن عظيمة، ولا يقع إلا عن فادحة، إما لسبب لا يصبر على مثله الأحرار، وإما لخطب لا مرد له تجري به الأقدار وكفاك من الموصوف به أنه ليس بناس لكنه ذاكر، وذو حنين واقف على العهد، ومتجزع مرارات الصبر، والفرق العامي بين المتصبر والناسي، أنك ترى المتصبر وإن أبدي غاية الجلد وأظهر سب محبوبه والتحمل عليه، يحتمل ذلك من غيره. وفي ذلك أقول قطعة، منها:

دعوني وسبي للحبيب فإنني وإن كنت أبدي الهجر لست معادياً
ولكن سبى للحبيب كقولهم أجاد فلقاه الإله الدواهيا

والناس ضد هذا، وكل هذا فعلى قدر طبيعة الإنسان وإجابتها وامتناعها وقوة تمكن الحب من القلب أو ضعفه، وفي ذلك أقول، وسميت السالي فيه المتصبر، قطعة منها:

ناسي الأحبة غير من يسلوهم حكم المقصر غير حكم المقصر
ما قاصر للنفس غير مجيبها ما الصابر المطبوع كالمتصبر

والأسباب الموجبة للسلو المنقسم هذين القسمين كثيرة، وعلى حسبها وبمقدار الواقع منها يعذر للسالي ويذم.

فمنها الملل، وقد قدمنا الكلام عليه، وإن من كان سلوه عن ملل فليس حبه حقيقة، والمتسم به صاحب دعوى زائفة، وإنما هو طالب لذة ومبادر شهوة، والسالي من هذا الوجه ناس مذموم 0 ومنها الاستبدال، وهو وإن كان يشبه الملل ففيه معنى زائد، وهو بذلك المعنى أقبح من الأول وصاحبه أحق بالذم.

ومنها حياء مركب يكون في المحب يحول بينه وبين التعريض بما يجد، فيتطاول الأمر، وتتراخى المدة، ويبلى جديد المودة، ويحدث السلو.

وهذا وجه إن كان السالي عنه ناسياً فليس بمنصف، إذ منه جاء سبب الحرمان، وإن كان متصبراً فليس بملوم، إذ آثر الحياء على لذة نفسه.

وقد ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: "الحياء من الإيمان والبذاء من النفاق". وحدثنا أحمد بن محمد عن أحمد بن مطرف عن عبد الله بن يحيى عن أبيه عن مالك عن سلمة بن صفوان الزرقي عن زيد بن طلحة بن ركانة يرفعه إلى رسول الله ﷺ أنه قال: لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء.

فهذه الأسباب الثلاثة أصلها من المحب وابتداؤها من قبله، والذم لاصق به في نسيانه لمن يحب.

ثم منها أسباب أربعة هن من قبل المحبوب وأصلها عنده، فمنها: الهجر، وقد مر تفسير وجوهه. ولا بد لنا أن نورد منه شيئاً في هذا الباب يوافقه، والهجر إذا تطاول وكثر العتاب واتصلت المفارقة يكون باباً إلى السلو وليس من وصلك ثم قطعك لغيرك من باب الهجر في شيء، لأنه الغدر الصحيح، ولا من مال إلى غيرك دون أن يتقدم لك معه صلة من الهجر أيضاً في شيء، إنما ذاك هو النفار. وسيقع الكلام في هذين الفصلين بعد هذا إن شاء الله تعالى. لكن الهجر ممن وصلك ثم قطعك لتنقيل واش، ولذنب واقع، أو لشيء قام في النفس، ولم يمل إلى سواك ولا أقام أحداً غيرك مقامك. والناس في هذا الفصل من المحبين ملوم دون سائر الأسباب الواقعة من المحبوب؛ لأنه لا تقع حالة تقيم العذر في نسيانه، وإنما هو راغب عن وصلك، وهو شيء لا يلزمه. وقد تقدم من أذمة الوصال وحق أيامه، ما يلزم التذكر ويوجب عهد الألفة، ولكن السالي على جهة التصبر والتجلد ها هنا معذور، إذا رأى الهجر متمادياً ولم ير للوصال علامة ولا للمواجهة دلالة. وقد استجاز كثير من الناس أن يسموا هذا المعنى غدراً، إذ ظاهرهما واحد، ولكن علتيهما مختلفتان. فلذلك فرقنا بينهما في الحقيقة. وأقول في ذلك شعراً، منه:

فكونوا كمن لم أدر قط فإنني كآخر لم تدروا ولم تصلوه
أنا كالصدى ما قال كل أجببه فما شئنموه اليوم فاعتمدوه

وأقول أيضاً قطعة، ثلاثة أبيات قلتها وأنا نائم، واستيفظت فأضفت إليها البيت الرابع:

ألا لله دهر كنت فيه أعز على من روحي وأهلي
فما برحت يد الهجران حتى طواك بنانها كي السجل
سقاني الصبر هجركم كما قد سقاني الحب وصلكم بسجل
وجدت الوصل أصل الوجد حقاً وطول الهجر أصلاً للتسلي

وأقول أيضاً قطعة:

لو قيل لي من قبل ذا أن سوف تسلو من تود
فخلفت ألف فسامة لا كان ذا أبد الأبد
وإذا طويل الهجر ما معه من السلوان بد
لله هجرك إنه ساع لبرئي مجتهد
فالآن أعجب للسل و وكنت أعجب للجلد
وأرى هواك كجمرة نحت الرماد لها مدد

وأقول:

كانت جهنم في الحشى من حبكم فلقد أراها نار إبراهيما

ثم الأسباب الثلاثة الباقية التي هي من قبل المحبوب، فالمتصبر من الناس فيها غير مذموم. لما ستورده إن شاء الله في كل فصل منها.

فمنها نفار يكون في المحبوب وانزواه قاطع للأطماع.

خبر: وإني لأختر عني أني ألفت في أيام صباي ألفة المحبة جارية نشأت في دارنا وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاماً؛ وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخفرها ودماثها، عديمة الهزل؛ منيعة البذل بديعة البشر، مسبلة الستر؛ فقيدة الذام، قليلة الكلام؛ مغضوضة البصر، شديدة الحذر؛ نقية من العيوب، دائمة القطوب؛ حلوة الإعراض، مطبوعة الانقباض مليحة الصدود، رزينة العقود؛ كثيرة الوقار، مستلذة النفار، لا توجه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامع عليها، ولا معرس للأمل لديها، فوجهها جالب كل القلوب، وحالها طارد من أمها. تزدان في المنع والبخل، مالا يزدان غيرها بالسماحة والبذل، موقوفة على الجد في أمرها غير راغبة في اللهو، على أنها كانت تحسن العود إحساناً جيداً فجنحت إليها وأحببتها حباً مفرطاً شديداً، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة، غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، بأبلغ السعي فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة، فلعهدي بمصطنع كان في دارنا لبعض ما تصطنع له في دور الرؤساء، تجمعت فيه دخلتنا ودخلة أخي رحمه الله من النساء ونساء فتياننا ومن لاث بنا من خدمنا، ممن يخف موضعه ويلطف محله، فلبئن صدراً من النهار ثم تنقلن إلى قصة كانت في دارنا مشرفة على بستان الدار ويطلع منها على جميع قرطبة وفحوصها، مفتحة الأبواب. فصرن ينظرن من خلال الشراجيب وأنا بينهن فإني لأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي فيه أنساً بقربها متعرضاً للدنو منها، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة. فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزوال إلى غيره. وكانت قد علمت كلفي بها ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه، لأنهن كن عدداً كثيراً. وإذ كلهن يتنقلن من باب إلى باب لسبب الإطلاع من بعض الأبواب على جهات لا يطلع من غيرها عليها وأعلم أن قيافة النساء فيمن يميل إليهن أنفذ من قيافة مدلج في الآثار. ثم نزلن إلى البستان فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها، فأمرتها، فأخذت العود وسوته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنه في عين مستحسنه ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول:

إني طربت إلى شمس إذا غربت كانت مغاربها جوف المقاصير
شمس ممثلة في خلق جارية كأن أعطافها طي الطوامير
لست من الإنس إلا في مناسبة ولا من الجن إلا في التصاوير
فالوجه جوهرة والجسم عبهرة والريح عنبرة والكل من نور
كأنها حين تخطو في مجاسدها تخطو على البيض أوحد للقوارير

فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلت إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها، وفي ذلك أقول:

لا تلمها على النفار ومنع ال وصل ما هذا لها بنكير
هل يكون الهلال غير بعيد أو يكون الغزال غير نفور

وأقول:

منعت جمال وجهك مقلتيا ولفظك قد ضننت به عليا
أراك نذرت للرحمن صوماً فلست تكلمين اليوم حياً
وقد غنيت للعباس شعراً هنيئاً ذا لعباس هنياً
فلو يلقاك عباس لأضحى لفوز قانيا وبكم شجياً

ثم انتقل أبي رحمه الله من دورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة في ربض الزاهرة إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة. وانتقلت أنا بانتقاله، وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك. ثم شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والترقيب والإغرام الفادح والإستتار، وأرزمت الفتنة وألقت باعها وعمت الناس، وخصتنا، إلى أن توفي أبي الوزير رحمه الله ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقينا من ذي القعدة عام اثنتين وأربعمائة. واتصلت بنا تلك الحال بعده إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها. وقد ارتفعت الواعية، قائمة في المأتم وسط النساء في جملة البواكي والنوادب فلقد أثارت وجداً دفيناً وحركت ساكناً، وذكرتني عهداً قديماً وحباً تليداً ودهراً ماضياً وزمناً عافياً وشهوراً خوالي وأخباراً بوالي ودهوراً فواني وأياماً قد ذهبت وآثاراً قد دثرت، وجددت أحزاني وهيجت بلابلي، على أني كنت في ذلك الهنار مرزاً مصاباً من وجوه، وما كنت نسيت لكن زاد الشجى وتوقدت اللوعة وتأكد الحزن وتضاعف الأشف، واستجلب الوجد ما كان منه كامناً فلباه مجيباً. فقلت قطعة، منها:

يبكي لميت مات وهو مكرم وللحي أولى بالدموع الذوارف
فيا عجباً من آسف لا مرئ ثوى وما هو للمقتول ظالماً بآلف

ثم ضرب الدهر ضربانه وأجلينا عن منازلنا وتغلب علينا جند البربر، فخرجت عن قرطبة أول المحرم سنة أربع وأربعمائة وغابت عن بصرى بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام وأكثر، ثم دخلت قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة فترلت على بعض نسائنا فرأيتها هنالك، وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة وقد تغير أكثر محاسنها، وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة، وغاض ذلك الماء الذي كان يرى كالسيف الصقيل والمرآة الهندية، وذبل ذلك النوار الذي كان البصر يقصد نحوه متنوراً، ويرتاد فيه متخيراً، وينصرف عنه متحيراً. فلم يبق إلا البعض المنبئ عن الكل، والخبر المخبر عن الجميع، وذلك لقلة اهتبالها بنفسها، وعدمها الصيانة التي كانت غذيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا ولتبذلها في الخروج فيما لا بد لها منه مما كانت تصان وترفع عنه قبل ذلك وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبنية متى لم يهتبل بها استهدمت، ولذلك قال من قال: إن حسن الرجال أصدق صدقاً وأثبت أصلاً وأعتق جودة لصبره على ما لو لقى بعضه وجوه النساء لتغيرت أشد التغير، مثل الهجير والسموم والرياح واختلاف الهواء وعدم الكن، وإني لو نلت منها أقل وصل وأنست لي بعض الأنس لخولطت طرباً أو لمت فرحاً، ولكن هذا النفار الذي صبرني وأسلاني.

وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه في كلا الوجهين معذور وغير ملوم؛ إذ لم يقع تثبت يوجب الوفاء، ولا عهد يقتضي المحافظة، ولا سلف ذمام، ولا فرط تصادف يلام على تضييعه ونسيانه.

ومنها جفاء يكون من المحبوب، فإذا أفرط فيه وأسرف وصادف من المحب نفساً لها بعض الأنفة والعزة تسلى، وإذا كان الجفاء يسيراً منقطعاً أو دائماً أو كبيراً منقطعاً أحتمل وأغضى عليه، حتى إذا كثر ودام فلا بقاء عليه. ولا يلام الناس لمن يحب في مثل هذا.

ومنها الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد، ولا يغضى عليه كريم، وه المسلاة حقاً. ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان ناسياً أو متصبراً، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه. ولا أن القلوب بيد مقلبها لا إله إلا هو ولا يكلف المرء صرف قلبه ولا إحاطة استحسانه، ولا ذاك لقلت إن المتصبر في سلوه مع الغدر يكاد أن يستحق الملامة والتعنيف. ولا أدعى إلى السلو عند الحر النفس وذوي الحفيظة والسرى السجايا من الغدر، فما يصبر عليه إلا دنيء المروءة خسيس الهمة ساقط الأنفة، وفي ذلك أقول قطعة، منها:

هواك فلست أقربه غرور وأنت لكل من يأتي سرير
وما إن تصبرين على حبيب فحولك منهم عدد كثير
فلو كنت الأمير لما تعاطى لقاءك خوف جمعهم الأمير
رأيتك كالأماني ما على من يلم بها ولو كثروا غرور
ولا عنها لمن يأتي دفاع ولو حشد الأنام لهم نفير

ثم سبب ثامن، وهو لا من المحب ولا من المحبوب، ولكنه من الله تعالى، وهو اليأس. وفروعه ثلاثة: إما موت، وإما بين لا يرجى معه أوبة، وإما عارض يدخل على المتحابين بعلة المحب التي من أجلها وثق المحبوب فيغيرها.

وكل هذه الوجوه من أسباب السلو والتصبر، وعلى المحب الناسي في هذا الوجه المنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة من الغضاضة والذم واستحقاق اسم اللوم والغدر غير قليل، وإن لليأس لعملاً في النفوس عجيباً. وثلجاً لحر الأكباد كبيراً. وكل هذه الوجوه المذكورة أولاً وآخراً فالتأني فيها واجب، والتربص على أهلها حسن، فيما يمكن فيه التأني ويصح لديه التربص، فإذا انقطعت الأطماع وانحسمت الآمال فحينئذ يقوم العذر.

وللشعراء فن من الشعر يذمون فيه الباكي على الدمن، تويثنون على المثابر على اللذات. وهذا يدخل في باب السلو. ولقد أكثر الحسن بن هانئ في هذا الباب وافتخر به، وهو كثيراً ما يصف نفسه بالغدر الصريح في أشعاره، تحكماً بلسانه واقتداراً على القول، وفي مثل هذا أقول شعراً، منه:

خل هذا وبادر الدهر وأرحل في رياض الربى مطي القفار
واحدها بالبديع من نغمات المود كيما تحث بالمزمار
إن خيراً من الوقوف علىالدار وقوف البنان بالأوتار
وبدأ النرجس البديع كصب حائر الطرف مائلاً كالمدار
لونه لون عاشق مستهام وهو لا شك هائم بالبهار

ومعاذ الله أن يكون نسيان مادرس لنا طبعاً، ومعصبة الله بشرب الراح لنا خلقاً، وكساد الهمة لنا صفة، ولكن حسبنا قول الله تعالى، ومن أصدق من الله قيلاً في الشعراء: "ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون". فهذه شهادة الله العزيز الجبار لهم، ولكن شذوذ القائل للشعر عن مرتبة الشعر خطأ. وكان سبب هذه الأبيات أن حفني العامرية، إحدى كرائم المظفر عبد الملك ابن أبي عامر، كلفتني صنعتها فأحببتها، وكنت أجلها، ولها فيها صنعة في طريقة النشيد والبسيط رائقة جدا. ولقد أنشدتها بعض إخواني من أهل الأدب فقال سروراً بها: يجب أن توضع هذه في جملة عجائب الدنيا.

فجميع فصول هذا الباب كما ترى ثمانية: منها ثلاثة هي من المحب، اثنان منها يذم السالي فيهما على كل وجه، وهما الملل والاستبدال، وواحد منها يذم السالي فيه ولا يذم المتصبر، وهو الحياء كما قدمنا. وأربعة من المحبوب، منها واحد يذم الناي فيه ولا يذم المتصبر، وهو الهجر الدائم. وثلاثة لا يذم السالي فيها على أي وجه كان ناسياً أو متصبراً، وهي النفار والجفاء والغدر. ووجه ثامن وهو من قبل الله عز وجل، وهو اليأس إما بموت أو بين أو آفة تزمن. في هذه معذور.

وعني أخبرك أني جبلت على طبيعتين لا يهنئني معهما عيش أبداً، وإني لأبرم بحياتي باجتماعهما وأود التثبت من نفسي أحياناً لأفقدها أنا بسببه من النكد من أجلهما، وهما: وفاء لا يشوبه تلون قد استوت فيه الحضرة والعيب، والباطن والظاهر، تولده الألفة التي لم تعزف بها نفسي عما دربته، ولا تتطلع إلى عدم من صحبته، وعزة نفس لاتقر على الضيم، مهتمة لأقل ما يرد عليها من تغير المعارف مؤثرة للموت عليه. فكل واحدة من هاتين السجيتين تدعو إلى نفسها وإني لأجفى فأحتمل، وأستعمل الأناة الطويلة، والتلوم الذي لا يكاد يطيقه أحد، فإذا أفرط الأمر وحميت نفسي تصبرت، وفي القلب ما فيه وفي ذلك أقول قطعة، منها:

لي حلتان أذاقاني الأسى جرعاً ونغصا عيشي واستهلكا جلدي
كلتاهما تطبينى نحو جبلتها كالصيد ينشب بين الذئب والأسد
وفاء صدق فما فارقت ذا مقة فزال حزني عليه آخر الأبد
وعزة لا يحل الضيم ساحتها صرامة فيه بالأموال والولد

ومما يشبه ما نحن فيه، وإن كان أيس منه، أن رجلاً من إخواني كنت أحللته من نفسي محلها، وأسقطت المؤونة بيني وبينه، وأعددته ذخراً وكتراً، وكان كثير السمع من كل قائل، فدب ذو النميمة بيني وبينه، فحاكوا له وأنجح سعيهم عنده، فانقبض عما كنت أعهده. فتربصت عليه مدة في مثلها أوب الغائب، ورضي العاتب، فلم يزدد إلا انقباضاً فتركته وحاله.