الباب الثاني في افتراق النصارى على تعدد مذاهبهم وفرقهم
اعلموا أن النصارى قد افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة لعنهم الله.
الفرقة الأولى تعتقد أن عيسى هو الله الخالق البارئ الذي فلق السموات والأرض حاشا ثم حاشا. فيقال لهم كذبتم وكفرتم وخالفتم أناجيلكم دمرهم الله تعالى تدميرا، فإن متى قال في الفصل الموفي عشرين من إنجيله إن عيسى عليه السلام قال للحواريين قبل الليلة التي أخذه فيها اليهود قد تقاسيت من كرب الموت، ثم اشتد حزنه وتغير وخر على وجهه وهو يبكي ويتضرع إلى الله تعالى ويقول يا إلهي إن أمكن صرف المنية عني فاصرفها ولا يكون ما أشاء بل تشاء أنت. فهذا إقرار من المسيح بأنه آدمي وعاجز يخاف نزول الموت عليه وأنه له إلها ناداه يا إلهي وتضرع إليه. وزادوا لعنهم الله أنه مع آدميته وخوفه وحزنه كان من الشاكّين في قدرة الله حيث قال إن أمكن صرف كأس المنية عني فاصرفها، لأن هذا عين الشك في القدرة الإلهية ولا يخلو المسيح من أن يكون قد علم أن الله لا يعجزه شيء فما معنى قوله إن أمكن ذلك؟ وإن كان قد علم أن الله لا يمكنه ذلك فما معنى سؤاله له والتضرع إليه؟ وحاشا روح الله ورسوله من أن يشك في قدرة الله بل كان عالما في درجات اليقين أن الله لا يعجزه شيء وكل ما كان يجري على يديه من المعجزات فإنما كان بقدرة الله تعالى ومشيئته الإلهية لا إله إلا هو. ويقال لهذا الفرقة قد خالفتم ما قال يوحنا في الفصل الثاني عشر من إنجيله إن المسيح رفع طرفه إلى السماء وتضرع إلى الله تعالى وقال: يا رب إني أشكر لك استجابة دعاءي وأعترف لك بذلك وأعلم أنك في كل وقت تجيب دعائي ولكن أسألك من أجل هؤلاء الجماعة الحاضرين فإنهم لا يؤمنون أنك أرسلتني. فهذا المسيح قد اعترف أن الله إلهه وربه وتضرع إليه وشكر لنعمائه وإجابته لدعائه، فكيف يقولون إن عيسى هو الله الذي خلق السموات والأرض وهل يكون في العقول السليمة أشنع من هذا؟
ومما يكبتهم ما قال يوحنا في الفصل الخامس من إنجيله أن عيسى قال لليهود من يستمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني دخل الجنة وفي هذا الفصل من إنجيله أن اليهود قالوا يا عيسى من يشهد لك بما تقول فقال الرب الذي أرسلني هو الذي يشهد لي. فهذا عيسى مقر بأنه نبي مرسل وأنه له ربا أرسله وأن الذي يعمل بما يسمع منه ويؤمن بالذي أرسله دخل الجنة.
ومما يكبتهم أيضا ما قال ماركوس إنه كان في بيت المقدس مجنون يتكلم الجن على فمه، فاجتاز عليه المسيح عليه السلام فصاح به الجني وقال: يا عيسى أي شيء لك عندي أتحب أن تخرجني من هذا الجسد حتى يعلم الناس أنك نبي وأنك روح الله وأن الله تعالى أرسلك؟ فأمره عيسى بالخروج فخرج وقام الرجل صحيحا سالما فتعجب الحاضرون من ذلك. وهذا في غاية الوضوح والدلالة على أن عيسى بشر من جملة البشر ورسول من جملة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين.
الفرقة الثانية تعتقد أن عيسى ابن الله وأنه إله وإنسان فهو إله من جهة أبيه وإنسان من جهة أمه وأن اليهود قتلوا إنسانيته وأن الألوهية بعدما دخل جسد إنسانيته القبر حاشا نزلت إلى جهنم وأخرجت منها آدم ونوحا وإبراهيم وجميع الأنبياء وأنهم كلهم كانوا فيها من أجل خطيئة أبيهم آدم في الأكل من الشجرة وأن جميع هؤلاء الأنبياء صعدوا إلى السماء بصحبة الألوهية بعد اجتماع لاهوته بناسوته. وهذا اعتقاد في غاية الكفر والحمق والفساد فنعوذ بالله مما ابتلاهم به. ويقال لهم كذبتم على الله وعلى عيسى رسوله ودليل ذلك ما هو في كتبهم وما قاله متى في الفصل التاسع عشر من إنجيله إن عيسى قال للحواريين اعلموا واعتقدوا أن أباكم السماوي الذي، يعني بذلك الله تعالى، هو واحد فرد لم يلد ولم يولد فأي شهادة على كذبهم أبين من هذا في إنجيلهم بشهادة عيسى عليه السلام؟
وباقي فرق النصارى عقائدها كلها كفر وكذب وتحكم بالبهتان. وتركت ذكرهم قصد الإيجاز والتخفيف وبالله التوفيق.