الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد العاشر/فصل في جماع الزهد والورع

فصل في جماع الزهد والورع

قَالَ شَيْخُ الإِسْلام رَحِمَهُ اللهُ أيضا:

قد كتبت في كراسة الحوادث فصلا في: جماع الزهد والورع.

وإن الزهد: هو عما لا ينفع، إما لانتفاء نفعه، أو لكونه مرجوحًا؛ لأنه مفوت لما هو أنفع منه، أو محصل لما يربو ضرره على نفعه. وأما المنافع الخالصة، أو الراجحة فالزهد فيها حمق

وأما الورع، فإنه الإمساك عما قد يضر، فتدخل فيه المحرمات والشبهات ؛لأنها قد تضر. فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه.

وأما الورع، عما لا مضرة فيه، أو فيه مضرة مرجوحة لما تقترن به من جلب منفعة راجحة، أو دفع مضرة أخرى راجحة فجهل وظلم. وذلك يتضمن: ثلاثة أقسام لا يتورع عنها المنافع المكافئة والراجحة والخالصة كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضلالة.

وأنا أذكر هنا تفصيل ذلك فأقول:

الزهد، خلاف الرغبة. يقال: فلان زاهد في كذا. وفلان راغب فيه. والرغبة: هي من جنس الإرادة. فالزهد في الشيء انتفاء الإرادة له، إما مع وجود كراهته، وإما مع عدم الإرادة والكراهة، بحيث لايكون لا مريدًا له، ولا كارهًا له، وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه.

وكما أن سبيل الله يحمد فيه الزهد، فيما زهد الله فيه من فضول الدنيا، فتحمد فيه الرغبة والإرادة لما حمد الله إرادته، والرغبة فيه؛ ولهذا كان أساس الطريق الإرادة. كما قال تعالى: { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [1]، وقال تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [2]، ونظائره متعددة.

كما رغب في الزهد، وذم ضده في قوله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّار }

[3]، وقال تعالى: { أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرٍُ } السورة [4]، وقال تعالى: { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } [5]، وقال: { إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [6]، وقال تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } الآية [7]، وهذا باب واسع.

وإنما المقصود هنا تميز الزهد الشرعي، من غيره، وهو الزهد المحمود، وتميز الرغبة الشرعية، من غيرها، وهي الرغبة المحمودة، فإنه كثيرًا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الأوامر الشرعية، وكثيرًا ما تشتبه الرغبة الشرعية بالحرص، والطمع، والعمل الذي ضل سعى صاحبه.

وأما الورع، فهو اجتناب الفعل واتقاؤه، والكف والإمساك عنه والحذر منه، وهو يعود إلى كراهة الأمر، والنفرة منه، والبغض له، وهو أمر وجودي أيضا وإن كان قد اختلف في المطلوب بالنهي. هل هو عدم المنهى عنه، أو فعل ضده؟ وأكثر أهل الإثبات على الثاني فلا ريب أنه لايسمى ورعًا، ومتورعًا، ومتقيًا، إلا إذا وجد منه الامتناع والإمساك الذي هو فعل ضد المنهي عنه.

والتحقيق: أنه مع عدم المنهي عنه يحصل له عدم مضرة الفعل المنهي عنه، وهو ذمه وعقابه ونحو ذلك، ومع وجود الامتناع والاتقاء والاجتناب يكون قد وجد منه عمل صالح وطاعة وتقوى، فيحصل له منفعة هذا العمل، من حمده وثوابه، وغير ذلك، فعدم المضرة لعدم السيئات، ووجود المنفعة لوجود الحسنات.

فتلخص أن الزهد من باب عدم الرغبة، والإرادة في المزهود فيه. والورع من باب وجود النفرة، والكراهة للمتورع عنه، وانتفاء الإرادة، إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة، وأما وجود الكراهة، فإنما يصلح فيما فيه مضرة خالصة أو راجحة، فأما إذا فرض مالا منفعة فيه ولا مضرة، أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه، فهذا لا يصلح أن يراد، ولا يصلح أن يكره، فيصلح فيه الزهد، ولا يصلح فيه الورع، فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد، من غير عكس، وهذا بين، فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه صلح أن لا يراد ولا يرغب فيه، فإن عدم الإرادة أولى من وجود الكراهة، ووجود الكراهة مستلزم عدم الإرادة من غير عكس، وليس كل ما صلح أن لا يراد يصلح أن يكره، بل قد يعرض من الأمور مالا تصلح إرادته ولا كراهته، ولا حبه ولا بغضه ولا الأمر به، ولا النهي عنه.

وبهذا يتبين أن الواجبات والمستحبات، لا يصلح فيها زهد ولا ورع، وأما المحرمات والمكروهات، فيصلح فيها الزهد والورع. وأما المباحات، فيصلح فيها الزهد دون الورع، وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل.

وإنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل. هل هو مأمور به، أو منهي عنه، أو مباح؟ وفيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما يجعله مأمورًا به، أو منهيًا عنه، أو اقترن بالمأمور به، مايجعله منهيًا عنه وبالعكس.

فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها، يحتاج إلى الفرقان.

هامش

  1. [الأنعام: 52]
  2. [الإسراء: 19]
  3. [هود: 15، 16]
  4. [ التكاثر ]
  5. [الفجر: 19، 20]
  6. [العاديات: 6-8]
  7. [الحديد: 20]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد العاشر - الآداب والتصوف
كلمات في أعمال القلوب | القائلون بتخليد العصاة | فصل في الأعمال الباطنة | فصل في محبة الله ورسوله | فصل في مرض القلوب وشفائها | فصل مرض القلب نوع فساد | فصل الحسد من أمراض القلوب | فصل أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب | سئل الشيخ رحمه الله عن العبادة وفروعها | فصل التفاضل في حقيقة الإيمان | مخالفات السالكين في دعوى حب الله | معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله | أكابر الأولياء لم يقعوا في الفناء | سئل شيخ الإسلام عن دعوة ذي النون | فصل الضر لا يكشفه إلا الله | التوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب وأعماله | محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة | غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين | التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها | فصل في موجبات المغفرة | هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة | ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق | فصل في تفسير الفناء الصوفي | فصل في وقوع البدع في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين | فصل في خلط متقدمي المتكلمين والمتصوفة كلامهم بأصول الكتاب والسنة | أصل النسبة في الصوفية | فصل في قولهم فلان يسلم إليه حاله | فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها | أصول العبادات الدينية | فصل في الخلوات | فصل علينا الإيمان بما أوتي الأنبياء والاقتداء بهم | فصل في أهل العبادات البدعية | سئل شيخ الإسلام ما عمل أهل الجنة وما عمل أهل النار | فصل في هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة | من مستلزمات العقل والبلوغ | فصل في أحب الأعمال إلى الله | سئل عمن يقول الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق | الرسل جميعا بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها | فصل في طريق العلم والعمل | فصل في كيف يكون السالك وعاء لعلم الله | فصل في شرح أمر الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس | فصل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولاية | احتمال خفاء الأمر والنهي على السالك | فصل في العبادة والاستعانة والطاعة والمعصية | سئل عن إحياء علوم الدين وقوت القلوب | فصل في ذكر الله ودعائه | فصل في الصراط المستقيم | فصل في جاذبية الحب | فصل في جماع الزهد والورع | فصل في قول بعض الناس الثواب على قدر المشقة | فصل في تزكية النفس | سئل شيخ الإسلام عن رجل تفقه وعلم هل له أن يقطع الرحم ويسير في الأرض | سئل شيخ الإسلام عن مقامات اليقين | سئل شيخ الإسلام أن يوصي وصية جامعة لأبي القاسم المغربي | سئل شيخ الإسلام عن الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل | سئل شيخ الإسلام عما ذكر القشيري في باب الرضا | سئل شيخ الإسلام فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم | فصل في الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل | مسألة هل توبة العاجز عن الفعل تصح