→ فصل الضر لا يكشفه إلا الله | مجموع فتاوى ابن تيمية التوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب وأعماله ابن تيمية |
محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة ← |
التوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب وأعماله
فالتوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب، ويكون في أعمال القلب؛ ولهذا قال الجنيد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب. أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق، فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله، وإذا أفرد لفظ التوحيد، فهو يتضمن قول القلب وعمله، والتوكل من تمام التوحيد.
وهذا كلفظ الإيمان فإنه إذا أفرد دخلت فيه الأعمال الباطنة والظاهرة، وقيل: الإيمان قول وعمل، أي: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارج، ومنه قول النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: «الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، ومنه قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [1]، وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [2] وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [3].
والإيمان المطلق يدخل فيه الإسلام كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لوفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم»؛ ولهذا قال من قال من السلف: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا.
وأما إذا قرن لفظ الإيمان بالعمل أو بالإسلام، فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [4]، وهو في القرآن كثير، وكما في قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح لما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت». قال: فما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: فما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». ففرق في هذا النص بين الإسلام والإيمان لما قرن بين الاسمين، وفي ذلك النص أدخل الإسلام في الإيمان لما أفرده بالذكر.
وكذلك لفظ العمل فإن الإسلام المذكور هو من العمل، والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة، وإيمان القلب لابد فيه من تصديق القلب وانقياده، وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدا رسول الله، وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته، لم يكن قد آمن قلبه.
والإيمان وإن تضمن التصديق، فليس هو مرادفًا له، فلا يقال لكل مصدق بشيء: أنه مؤمن به. فلو قال: أنا أصدق بأن الواحد نصف الاثنين، وأن السماء فوقنا، والأرض تحتنا، ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه، لم يقل لهذا: أنه مؤمن بذلك، بل لا يستعمل إلا فيمن أخبر بشيء من الأمور الغائبة كقول إخوة يوسف: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } [5]، فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالأول: يقال للمخبر، والثاني: يقال للمخبر به كما قال إخوة يوسف: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا }، وقال تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } [6].
وقال تعالى: { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [7]، ففرق بين إيمانه بالله وإيمانه للمؤمنين، لأن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه، وأما إيمانه بالله فهو من باب الإقرار به.
ومنه قوله تعالى عن فرعون وملئه: { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [8]، أي: نقر لهما ونصدقهما. ومنه قوله: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [9]، ومنه قوله تعالى: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } [10]، ومن المعني الآخر قوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [11]، وقوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } [12]، وقوله: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [13]، أي: أقر بذلك ومثل هذا في القرآن كثير.
والمقصود هنا أن لفظ الإيمان إنما يستعمل في بعض الأخبار، وهو مأخوذ من الأمن، كما أن الإقرار مأخوذ من قر، فالمؤمن صاحب أمن، كما أن المقر صاحب إقرار، فلابد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه، فإذا كان عالمًا بأن محمدا رسول الله، ولم يقترن بذلك حبه، وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه، فإن هذا ليس بمؤمن به، بل كافر به.
ومن هذا الباب: كفر إبليس، وفرعون، وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلاء، فإن إبليس لم يكذب خبرًا ولا مخبرًا، بل استكبر عن أمر ربه. وفرعون وقومه قال الله فيهم: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [14]، وقال له موسى: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } [15]، وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [16].
فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له لم ينفع صاحبه، بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، وقد كان النبي ﷺ يقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وقلب لا يخشع».
ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو الإيمان، وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن، فإن ذلك يدل على عدم علم قلبه، وهذا من أعظم الجهل شرعًا وعقلًا، وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر؛ ولهذا أطلق وكيع بن الجراح وأحمد ابن حنبل وغيرهما من الأئمة كفرهم بذلك، فإنه من المعلوم أن الإنسان يكون عالمًا بالحق ويبغضه لغرض آخر، فليس كل من كان مستكبرًا عن الحق، يكون غيرعالم به، وحينئذ فالإيمان لابد فيه من تصديق القلب وعمله، وهذا معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل.
ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة، لزم وجود الأفعال الظاهرة، فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعًا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري، فإذا أقر القلب إقرارًا تامًا، بأن محمدا رسول الله وأحبه محبة تامة، امتنع مع ذلك ألا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزًا لخرس، ونحوه أو لخوف، ونحوه لم يكن قادرًا على النطق بهما.
هامش
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [الأنفال: 24]
- ↑ [النور: 62]
- ↑ [البينة: 7]
- ↑ [يوسف: 17]
- ↑ [يونس: 83]
- ↑ [التوبة: 61]
- ↑ [المؤمنون: 47]
- ↑ [البقرة: 75]
- ↑ [العنكبوت: 26]
- ↑ [البقرة: 3]
- ↑ [البقرة: 285]
- ↑ [البقرة: 177]
- ↑ [النمل: 14]
- ↑ [الإسراء: 102]
- ↑ [البقرة: 146]