→ معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله | مجموع فتاوى ابن تيمية أكابر الأولياء لم يقعوا في الفناء ابن تيمية |
سئل شيخ الإسلام عن دعوة ذي النون ← |
أكابر الأولياء لم يقعوا في الفناء
وأكابر الأولياء، كأبي بكر وعمر، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لم يقعوا في هذا الفناء، فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة. وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل والتمييز، لما يرد على القلب من أحوال الإيمان، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم. أو يحصل لهم غشى، أو صعق، أو سكر، أو فناء، أو وَلَهٌ، أو جنون. وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة، فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن. ومنهم من يموت: كأبي جهير الضرير. وزرارة بن أوفى قاضي البصرة.
وكذلك صار في شيوخ الصوفية، من يعرض له من الفناء والسكر، ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه، كما يحكى نحو ذلك، عن مثل أبى يزيد، وأبي الحسين النوري، وأبى بكر الشبلي وأمثالهم.
بخلاف أبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والفضيل بن عياض، بل وبخلاف الجنيد وأمثالهم، ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه، بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيها سوى محبة الله وإرادته وعبادته، وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر الله مدبرة بمشيئته، بل مستجيبة له قانتة له، فيكون لهم فيها تبصرة وذكرى، ويكون ما يشهدونه من ذلك مؤيدا، وممدًا لما في قلوبهم من إخلاص الدين، وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحده لا شريك له.
وهذه الحقيقة، التي دعا إليها القرآن، وقام بها أهل تحقيق الإيمان، والكمل من أهل العرفان. ونبينا ﷺ إمام هؤلاء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات، وعاين ما هنالك من الآيات وأوحى إليه ما أوحى من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولاظهر عليه ذلك، بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
وأما النوع الثالث: مماقد يسمى فناء فهو أن يشهد أن لا موجود إلا الله، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بين الرب والعبد، فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد.
والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم: ما أرى غير الله، أولا أنظر إلى غير الله، ونحو ذلك، فمرادهم بذلك ما أرى ربا غيره، ولا خالقًا غيره، ولا مدبرًا غيره، ولا إلها غيره، ولا أنظر إلى غيره محبة له، أو خوفًا منه، أو رجاء له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب، فمن أحب شيئًا، أو رجاه أو خافه التفت إليه، وإذا لم يكن في القلب محبة له، ولا رجاء له، ولا خوف منه، ولا بغض له، ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه ولا أن يراه وإن رآه اتفاقًا، رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطًا، ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به.
والمشائخ الصالحون رضي الله عنهم يذكرون شيئًا من تجريد التوحيد، وتحقيق إخلاص الدين كله، بحيث لا يكون العبد ملتفتًا إلى غير الله ولا ناظرًا إلى ما سواه: لاحبًا له، ولا خوفًا منه، ولا رجاء له بل يكون القلب فارغًا من المخلوقات خاليًا منها لا ينظر إليها إلا بنور الله، فبالحق يسمع، وبالحق يبصر، وبالحق يبطش، وبالحق يمشي، فيحب منها ما يحبه الله، ويبغض منها ما يبغضه الله، ويوالي منها ما والاه الله، ويعادي منها ما عاداه الله، ويخاف الله فيها، ولا يخافها في الله، ويرجو الله فيها، ولا يرجوها في الله، فهذا هو القلب السليم، الحنيف، الموحد، المسلم، المؤمن، العارف، المحقق، الموحد بمعرفة الأنبياء والمرسلين، وبحقيقتهم وتوحيدهم.
وأما النوع الثالث: وهو الفناء في الموجود، فهو تحقيق آل فرعون، ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم.
وهذا النوع الذي عليه أتباع الأنبياء هو الفناء المحمود، الذي يكون صاحبه به ممن أثنى الله عليهم من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين.
وليس مراد المشائخ، والصالحين، بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات، هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد، إما فساد العقل، وإما فساد الاعتقاد. فهو متردد بين الجنون والإلحاد.
وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق. وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا. وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات، وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات، فيظنه خالق الأرض والسموات، لعدم التمييز والفرقان في قلبه، بمنزلة من رأى شعاع الشمس، فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء.
وهم قد يتكلمون في الفرق، والجمع، ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء، فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقًا بها، متشتتًا ناظرًا إليها متعلقًا بها، إما محبة، وإما خوفًا، وإما رجاء، فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فالتفت قلبه إلى الله بعد التفاته إلى المخلوقين فصارت محبته لربه، وخوفه من ربه، ورجاؤه لربه، واستعانته بربه، وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق. فقد يكون مجتمعًا على الحق معرضًا عن الخلق نظرًا وقصدًا وهو نظير النوع الثاني من الفناء.
ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو: أن يشهد أن المخلوقات قائمة بالله، مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية الله سبحانه وتعالى وأنه سبحانه رب المصنوعات، وإلهها وخالقها، ومالكها، فيكون مع اجتماع قلبه على الله إخلاصًا له ومحبة وخوفًا ورجاء واستعانة وتوكلا على الله وموالاة فيه، ومعاداة فيه وأمثال ذلك ناظرًا إلى الفرق بين الخالق والمخلوق مميزًا بين هذا وهذا، يشهد تفرق المخلوقات، وكثرتها مع شهادته أن الله رب كل شيء، ومليكه، وخالقه، وأنه هو الله لا إله إلا هو، وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم، وذلك واجب، في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، في حال القلب، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته.
وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، ويثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافيًا لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتًا لألوهية رب العالمين رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله، وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقًا في علمه وقصده في شهادته، وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالمًا بالله تعالى ذاكرًا له عارفًا به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محبًا لله، معظمًا له، عابدًا له، راجيًا له خائفًا منه، مواليًا فيه، معاديًا فيه، مستعينًا به، متوكلًا عليه، ممتنعًا عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك، مما هو من خصائص إلهية الله سبحانه وتعالى.
وإقراره بألوهية الله تعالى دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته، وهو أنه رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، فحينئذ يكون موحدًا لله.
ويبين ذلك أن أفضل الذكر: لا إله إلا الله، كما رواه الترمذي وابن أبي الدنيا، وغيرهما مرفوعًا إلى النبي ﷺ أنه قال: «أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله»، وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبد الله بن كثير أن النبي ﷺ قال: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».
ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة، هو الاسم المضمر، فهم ضالون غالطون. واحتجاج بعضهم على ذلك، بقوله: { قُلْ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [1]، من أبين غلط هؤلاء، فإن الاسم هومذكور في الأمر بجواب الاستفهام. وهو قوله: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللهُ } [2] أي: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، فالاسم مبتدأ، وخبره قد دل عليه الاستفهام، كما في نظائر ذلك تقول: من جاره، فيقول زيد.
وأما الاسم المفرد، مظهرًا، أو مضمرًا، فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان، ولا كفر، ولا أمر، ولا نهي، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول الله ﷺ، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالًا نافعًا، وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا، لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة. والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه، لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره.
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات. حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به. إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي ﷺ أمر بتلقين الميت لا إله إلا الله، وقال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود، بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد.
والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة، وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان، فإن من قال: يا هو يا هو، أو: هو هو. ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إلا إِلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل، وقد صنف صاحب الفصوص كتابًا سماه كتاب الهو وزعم بعضهم أن قوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ } [3]، معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الهو، وقيل: هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل، فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئًا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت: وما يعلم تأويل هو منفصلة.
ثم كثيرًا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل: الله بقوله: { قُلْ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } ويظن أن الله أمر نبيه بأن يقول: الاسم المفرد، وهذا غلط باتفاق أهل العلم، فإن قوله: { قل الله } معناه: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهو جواب لقوله: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللهُ } [4]، أي: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال: { مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } ثم قال: { قُلْ اللهُ } أنزله { ثُمَّ ذَرْهُمْ }هؤلاء المكذبين { فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }.
ومما يبين ما تقدم: ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلامًا، لا يحكون به ما كان قولًا، فالقول لا يحكى به إلا كلام تام، أو جملة اسمية أو فعلىة؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول، فالقول لا يحكى به اسم، والله تعالى لا يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد، ولا شرع للمسلمين اسمًا مفردًا مجردًا، والاسم المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات.
ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله بالنصب فقال: ماذا يقول هذا؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟
وما في القرآن من قوله: { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا } [5]، وقوله: { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [6]، وقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [7]، وقوله: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [8]، ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفردًا، بل في السنن أنه لما نزل قوله: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [9]، قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزل قوله: { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قال: «اجعلوها في سجودكم». فشرع لهم أن يقولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم» وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلى» وهذا هو معنى قوله: «اجعلوها في ركوعكم» و«سجودكم» باتفاق المسلمين.
فتسبيح اسم ربه الأعلى وذكر اسم ربه، ونحو ذلك هو بالكلام التام المفيد، كما في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: «من قال في يومه مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه. ومن قال في يومه مائة مرة: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر»، وفي الموطأ وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير». وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه ﷺ أنه قال: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله».
ومثل هذه الأحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء.
وكذلك ما في القرآن من قوله تعالى: { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ } [10]، وقوله: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ } [11]، إنما هو قوله: بسم الله. وهذا جملة تامة إما اسمية، على أظهر قولي النحاة، أو فعلىة، والتقدير ذبحي باسم الله، أو أذبح باسم الله، وكذلك قول القارئ: { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فتقديره: قراءتي بسم الله، أو أقرأ بسم الله.
ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم الله، أو ابتدأت بسم الله. والأول أحسن؛ لأن الفعل كله مفعول بسم الله، ليس مجرد ابتدائه، كما أظهر المضمر في قوله: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [12]، وفي قوله: { بِاِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [13]، وفي قول النبي ﷺ: «من كان ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى. ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم الله». ومن هذا الباب قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن أبي سلمة: «بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» فالمراد أن يقول بسم الله. ليس المراد أن يذكر الاسم مجردًا. وكذلك قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل»، وكذلك قوله ﷺ: «إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم الله عند دخوله، وعند خروجه. وعند طعامه، قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء» وأمثال ذلك كثير.
وكذلك ما شرع للمسلمين في صلاتهم وأذانهم، وحجهم وأعيادهم من ذكر الله تعالى إنما هو بالجملة التامة. كقول المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، وقول المصلي: الله أكبر، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، التحيات لله، وقول الملبي: لبيك اللهم لبيك، وأمثال ذلك، فجميع ما شرعه الله من الذكر إنما هو كلام تام، لا اسم مفرد لا مظهر ولا مضمر، وهذا هو الذي يسمى في اللغة كلمة، كقوله: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم»، وقوله: «أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ماخلا الله باطل»، ومنه قوله تعالى: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } الآية [14]، وقوله: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [15]، وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة، بل وسائر كلام العرب فإنما يراد به الجملة التامة، كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم، فيقولون: هذا حرف غريب. أي: لفظ الاسم غريب.
وقسم سيبويه الكلام إلى اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى، ليس باسم وفعل، وكل من هذه الأقسام يسمى حرفًا، لكن خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء، ولفظ الحرف يتناول هذه الأسماء وغيرها، كما قال النبي ﷺ: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات: أما أني لا أقول: { الم } حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»، وقد سأل الخليل أصحابه عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا: زاي، فقال: جئتم بالاسم، وإنما الحرف ز.
ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة، وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل، كحروف الجر ونحوها، وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ، وتارة باسم ذلك الحرف، ولما غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب، ومنهم من يجعل لفظ الكلمة في اللغة لفظًا مشتركًا بين الاسم مثلا وبين الجملة، ولا يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إلا الجملة التامة.
والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الّله سبحانه هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، والقرب إلى الله ومعرفته ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له. فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد، وأهل الاتحاد، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.
وجماع الدين أصلان: ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [16]، وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله. ففي الأولى: ألا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمدا هو رسوله المبلغ عنه، فعلىنا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة، قال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [17].
كما أنا مأمورون ألا نخاف إلا الله ولا نتوكل إلا على الله، ولا نرغب إلا إلى الله، ولا نستعين إلا بالله، وألا تكون عبادتنا إلا لله، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } [18]، فجعل الإيتاء لله والرسول، كما قال: { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [19]، وجعل التوكل على الله وحده بقوله: { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ } ولم يقل ورسوله، كما قال في الآية الأخرى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [20]، ومثله قوله: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِين } [21]، أي: حسبك وحسب المؤمنين كما قال: { أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [22].
ثم قال: { سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ }، فجعل الإيتاء لله والرسول، وقدم ذكر الفضل، لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين، وقال: { إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } فجعل الرغبة إلى الله وحده كما في قوله: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [23]، وقال النبي ﷺ لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله». والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع.
فجعل العبادة والخشية والتقوى لله، وجعل الطاعة والمحبة لله ورسوله، كما في قول نوح عليه السلام: { أَنْ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } [24]، وقوله: { وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } [25]، وأمثال ذلك.
فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه، والطاعة لهم، فأضل الشيطان النصارى، وأشباههم فأشركوا بالله، وعصوا الرسول، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، فجعلوا يرغبون إليهم ويتوكلون عليهم ويسألونهم، مع معصيتهم لأمرهم ومخالفتهم لسنتهم، وهدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه، فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين، فأخلصوا دينهم لله، وأسلموا وجوههم لله، وأنابوا إلى ربهم، وأحبوه ورجوه وخافوه، وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه، وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم، واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم.
وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينًا إلا إياه، وهو حقيقة العبادة لرب العالمين.
فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه، ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين.
هامش
- ↑ [الأنعام: 91]
- ↑ [الأنعام: 91]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [الأنعام: 91]
- ↑ [المزمل: 8]
- ↑ [الأعلى: 1]
- ↑ [الأعلى: 14، 15]
- ↑ [الواقعة: 96]
- ↑ [الواقعة: 96]
- ↑ [الأنعام: 121]
- ↑ [المائدة: 4]
- ↑ [العلق: 1]
- ↑ [هود: 41]
- ↑ [الكهف: 5]
- ↑ [الأنعام: 115]
- ↑ [الكهف: 110]
- ↑ [البقرة: 112]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [الحشر: 7]
- ↑ [آل عمران: 173]
- ↑ [الأنفال: 64]
- ↑ [الزمر: 36]
- ↑ [الشرح: 7، 8]
- ↑ [نوح: 3]
- ↑ [النور: 52]