→ التوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب وأعماله | مجموع فتاوى ابن تيمية محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة ابن تيمية |
غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين ← |
محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة
وأبو طالب، وإن كان عالمًا بأن محمدا رسول الله، وهو محب له، فلم تكن محبته له لمحبته لله، بل كان يحبه؛ لأنه ابن أخيه فيحبه للقرابة، وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة، فأصل محبوبه هو الرئاسة ؛ فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالإقرار بهما زوال دينه الذي يحبه، فكان دينه أحب إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما فلو كان يحبه لأنه رسول الله كما كان يحبه أبو بكر الذي قال الله فيه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى. وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [1]، وكما كان يحبه سائر المؤمنين به، كعمر وعثمان وعلى، وغيرهم لنطق بالشهادتين قطعا فكان حبه حبا مع الله لا حبًا لله ؛ ولهذا لم يقبل الله ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته ؛ لأنه لم يعمله لله، والله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، بخلاف الذي فعل، ما فعل ابتغاء وجه ربه الأعلى.
وهذا مما يحقق أن الإيمان والتوحيد لابد فيهما من عمل القلب، كحب القلب، فلابد من إخلاص الدين لله، والدين لا يكون دينًا إلا بعمل، فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة، وقد أنزل الله عز وجل سورتي الإخلاص: { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ }. إحداهما في توحيد القول والعلم، والثانية في توحيد العمل والإرادة، فقال في الأول: { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [2] فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في الثاني: { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [3] فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير الله وإخلاص العبادة لله.
والعبادة أصلها القصد والإرادة، والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه، وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها، كما ذكرناه في لفظ الإيمان، قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [4]، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [5]، فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات، والتوكل من ذلك، وقد قال في موضع آخر: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقال: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [6].
ومثل هذا كثيرًا ما يجيء في القرآن؛ تتنوع دلالة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الإفراد والاقتران، كلفظ المعروف والمنكر فإنه قد قال: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } [7]، وقال: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } [8]، وقال: { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ } [9]، فالمنكر يدخل فيه ما كرهه الله، كما يدخل في المعروف ما يحبه الله.
وقد قال في موضع آخر: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [10]، فعطف المنكر على الفحشاء، ودخل في المنكر هنا البغي، وقال في موضع آخر: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [11]، فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي.
ومن هذا الباب لفظ الفقراء والمساكين، إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا قرن أحدهما بالآخر صار بينهما فرق، لكن هناك أحد الاسمين أعم من الآخر، وهنا بينهما عموم وخصوص، فمحبة الله وحده والتوكل عليه وحده، وخشية الله وحده، ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد الله تعالى، قال تعالى في المحبة: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [12]، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ } [13]، وقال تعالى: { وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } [14]، فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } [15]، وقال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [16] فجعل التحسب والرغبة إلى الله وحده.
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن قول القائل: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } فيه إفراد الإلهية لله وحده وذلك يتضمن التصديق لله قولًا وعملًا، فالمشركون كانوا يقرون بأن الله رب كل شيء، لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى، فلا يخصونه بالإلهية، وتخصيصه بالإلهية يوجب ألا يعبد إلا إياه، وألا يسأل غيره، كما في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فإن الإنسان قد يقصد سؤال الله وحده والتوكل عليه، لكن في أمور لا يحبها الله، بل يكرهها وينهى عنها، فهذا وإن كان مخلصًا له في سؤاله، والتوكل عليه، لكن ليس هو مخلصًا في عبادته وطاعته، وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب الكشوفات، والتصرفات المخالفة لأمر الله ورسوله، فإنهم يعانون على هذه الأمور.
وكثير منهم يستعين الله عليها، لكن لما لم تكن موافقة لأمرالله ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة، وكانت عاقبتهم عاقبة سيئة، قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } [17]، وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [18].
وطَائفة أخرى قد يقصدون طاعة الله ورسوله، لكن لا يحققون التوكل عليه والاستعانة به، فهؤلاء يثابون على حسن نيتهم، وعلى طاعتهم، لكنهم مخذولون فيما يقصدونه، إذ لم يحققوا الاستعانة بالله والتوكل عليه، ولهذا يبتلى الواحد من هؤلاء بالضعف والجزع تارة، وبالإعجاب أخرى، فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه، وربما حصل له جزع، فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب، وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل، قال تعالى: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } إلى قوله: { ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [19].
وكثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله: { إيَّاكَ نَعْبٍُد }، والمعجب لا يحقق قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، فمن حقق قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } خرج عن الرياء، ومن حقق قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } خرج عن الإعجاب، وفي الحديث المعروف: «ثلاث مهلكات: شُحٌّ مُطَاعٌ، وهوى مُتَّبَعٌ، وإعجاب المرء بنفسه».
وشر من هؤلاء وهؤلاء من لا تكون عبادته لله، ولا استعانته بالله، بل يعبد غيره ويستعين غيره وهؤلاء المشركون من الوجهين.
ومن هؤلاء من يكون شركه بالشياطين، كأصحاب الأحوال الشيطانية، فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب والفجور، ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين، ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين، مما فيها إشراك بالله، كما قد بسط الكلام عليهم في مواضع أخر، وهؤلاء قد يحصل لهم من الخوارق ما يظن أنه من كرامات الأولياء. وإنما هو من أحوال السحرة والكهان؛ ولهذا يجب الفرق بين الأحوال الإيمانية القرآنية، والأحوال النفسانية، والأحوال الشيطانية.
وأما القسم الرابع: فهم أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم لله، فلم يعبدوا إلا إياه، ولم يتوكلوا إلا عليه.
وقول المكروب: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الآخر فمن أتم الله عليه النعمة استحضر التوحيد في النوعين، فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه، فقد يقول: لا إله إلا الله مستشعرًا أنه لا يكشف الضر غيرك، ولا يأتي بالنعمة إلا أنت، فهذا مستحضر توحيد الربوبية، ومستحضر توحيد السؤال والطلب، والتوكل عليه، معرض عن توحيد الإلهية الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به وهو ألا يعبد إلا إياه، ولا يعبده إلا بطاعته، وطاعة رسوله، فمن استشعر هذا في قوله: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } كان عابدًا لله متوكلًا عليه وكان ممتثلًا قوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [20]، وقوله: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [21]، وقوله: { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [22].
ثم إن كان مطلوبه محرمًا أثم، وإن قضيت حاجته، وإن كان طالبًا مباحًا لغير قصد الاستعانة به على طاعة الله وعبادته لم يكن آثمًا، ولا مثابًا، وإن كان طالبًا ما يعينه على طاعة الله وعبادته لقصد الاستعانة به على ذلك، كان مثابًا مأجورًا.
وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه، وبين النبي الملك، فإن نبينا محمدا ﷺ خير بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا، فإن العبد الرسول هو الذي لا يفعل إلا ما أمر به، ففعله كله عبادة لله، فهو عبد محض منفذ أمر مرسله، كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال: «إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت»، وهو لم يرد بقوله: «لا أعطي أحدًا ولا أمنع» إفراد الله بذلك قدرًا وكونًا، فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا، فلا يعطي أحدًا ولا يمنع إلا بقضاء الله وقدره، وإنما أراد إفراد الله بذلك شرعًا ودينًا، أي لا أعطي إلا من أمرت بإعطائه، ولا أمنع إلا من أمرت بمنعه، فأنا مطيع لله في إعطائي ومنعى، فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها؛ لأن الله أمره بهذه القسمة.
ولهذا كان المال حيث أضيف إلى الله ورسوله، فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة الله ورسوله، ليس المراد به أنه ملك للرسول، كما ظنه طائفة من الفقهاء، ولا المراد به كونه مملوكًا لله خلقًا وقدرًا، فإن جميع الأموال بهذه المثابة، وهذا كقوله: { قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } [23]، وقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية [24]، وقوله: { وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } إلى قوله: { مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الآية [25]، فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس.
فظن طائفة من الفقهاء أن الإضافة إلى الرسول تقتضى أنه يملكه، كما يملك الناس أملاكهم. ثم قال بعضهم: إن غنائم بدر كانت ملكًا للرسول، وقال بعضهم: إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملكًا للرسول، وقال بعضهم: إن الرسول إنما كان يستحق من الخمس خمسه، وقال بعض هؤلاء: وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه، وهذه الأقوال توجد في كلام طوائف من أصحاب الشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، وهذا غلط من وجوه:
منها: أن الرسول لم يكن يملك هذه الأموال كما يملك الناس أموالهم، ولا كما يتصرف الملوك في ملكهم، فإن هؤلاء وهؤلاء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات، فإما إن يكون مالكًا له، فيصرفه في أغراضه الخاصة، وإما أن يكون ملكًا له، فيصرفه في مصلحة ملكه، وهذه حال النبي الملك، كداود وسليمان، قال تعالى: { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [26]، أي: أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك، ونبينا كان عبدًا رسولًا لا يعطي إلا من أمر بإعطائه، ولا يمنع إلا من أمر بمنعه، فلم يكن يصرف الأموال إلا في عبادة الله وطاعة له.
ومنها: أن النبي لا يورث ولو كان ملكًا، فإن الأنبياء لايورثون، فإذا كان ملوك الأنبياء لم يكونوا ملاكا، كما يملك الناس أموالهم، فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالكًا.
ومنها: أن النبي ﷺ كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة، ويصرف سائر المال في طاعة الله لا يستفضله، وليست هذه حال الملاك، بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال الله ورسوله، بمعنى أن الله أمر رسوله أن يصرف ذلك المال في طاعته، فتجب طاعته في قسمه، كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وهو في ذلك مبلغ عن الله، والأموال التي كان يقسمها النبي ﷺ على وجهين:
منها: ما تعين مستحقه ومصرفه كالمواريث.
ومنها: ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه، فإن ما أمر الله به، منه ما هو محدود بالشرع، كالصلوات الخمس، وطواف الأسبوع بالبيت، ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور، فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها الله.
فمن هذا ما اتفق عليه الناس، ومنه ما تنازعوا فيه، كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات: هل هي مقدرة بالشرع؟ أم يرجع فيها إلى العرف، فتختلف في قدرها وصفتها باختلاف أحوال الناس؟ وجمهور الفقهاء على القول الثاني، وهو الصواب لقول النبي ﷺ لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»، وقال أيضا في خطبته المعروفة: «للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف».
وكذلك تنازعوا أيضا فيما يجب من الكفارات: هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف؟
فما أضيف إلى الله والرسل من الأموال، كان المرجع في قسمته إلى أمر النبي ﷺ، بخلاف ما سمى مستحقوه كالمواريث؛ ولهذا قال النبي ﷺ عام حنين: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» أي: ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إلا الخمس؛ ولهذا قال: «وهو مردود عليكم» بخلاف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة.
ولهذا كانت الغنائم يقسمها الأمراء بين الغانمين، والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين، الذين خلفوا رسول الله ﷺ في أمته، فيقسمونها بأمرهم، فأما أربعة الأخماس، فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم الله ورسوله كما يستفتى المستفتى، وكما كانوا في الحدود لمعرفة الأمر الشرعي، والنبي ﷺ أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم، فقيل: إن ذلك كان من الخمس، وقيل: إنه كان من أصل الغنيمة، وعلى هذا القول فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك؛ ولهذا أجاب من عتب من الأنصار بما أزال عتبه، وأراد تعويضهم عن ذلك.
ومن الناس من يقول: الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون، وإن للإمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في غير هذا الموضع.
فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله الذي يعبده ويستعينه، فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد، لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران، كما في قوله: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ } [27]، وفي قوله: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، فجمع بين الاسمين: اسم الإله واسم الرب. فإن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يرب عبده فيدبره.
ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه الله، والسؤال متعلقًا باسمه الرب، فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق. والإلهية هي الغاية، والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم، والمصلي إذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية، فالعبادة غاية مقصودة، والاستعانة وسيلة إليها: تلك حكمة وهذا سبب، والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلىة معروف؛ ولهذا يقال: أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك. فالعلة الغائية متقدمة في التصور والإرادة وهي متأخرة في الوجود. فالمؤمن يقصد عبادة الله ابتداء وهو يعلم أن ذلك لا يحصل إلا بإعانته فيقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
ولما كانت العبادة متعلقة باسمه الله تعالى جاءت الأذكار المشروعة بهذا الاسم مثل كلمات الأذان: الله أكبر، الله أكبر. ومثل الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله. ومثل التشهد: التحيات لله، ومثل التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وأما السؤال فكثيرًا ما يجيء باسم الرب، كقول آدم وحواء: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [28]، وقول نوح: { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } [29]، وقول موسى: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } [30]، وقول الخليل: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } الآية [31]، وقوله مع إسماعيل: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [32]، وكذلك قول الذين قالوا: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [33] ومثل هذا كثير.
وقد نقل عن مالك أنه قال: أكره للرجل أن يقول في دعائه: يا سيدي، يا سيدي، يا حنان، يا حنان، ولكن يدعو بما دعت به الأنبياء، ربنا، ربنا. نقله عنه العتبي في العتبية. وقال تعالى عن أولى الألباب: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [34] الآيات.
فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال، ناسب أن يسأله باسمه الرب، وإن سأله باسمه الله؛ لتضمنه اسم الرب، كان حسنًا، وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة، فاسم الله أولى بذلك، إذا بدأ بالثناء ذكر اسم الله، وإذا قصد الدعاء دعا باسم الرب؛ ولهذا قال يونس: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [35]، وقال آدم: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [36]، فإن يونس عليه السلام ذهب مغاضبًا، وقال تعالى: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [37]، وقال تعالى: { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [38]، ففعل ما يلام عليه فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه، والاعتراف بأنه لا إله إلا هو، فهو الذي يستحق أن يعبد دون غيره فلا يطاع الهوى، فإن اتباع الهوى يضعف عبادة الله وحده، وقد روى أن يونس عليه السلام ندم على ارتفاع العذاب عن قومه بعد أن أظلهم وخاف أن ينسبوه إلى الكذب فغاضب. وفعل ما اقتضى الكلام الذي ذكره الله تعالى وأن يقال: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } وهذا الكلام يتضمن براءة ما سوى الله من الإلهية، سواء صدر ذلك عن هوى النفس أو طاعة الخلق أو غير ذلك؛ ولهذا قال: { سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ }.
والعبد يقول مثل هذا الكلام فيما يظنه وهو غير مطابق، وفيما يريده وهو غير حسن.
وأما آدم عليه السلام فإنه اعترف أولًا بذنبه، فقال: { ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } ولم يكن عند آدم من ينازعه الإرادة لما أمر الله به، مما يزاحم الإلهية بل ظن صدق الشيطان الذي { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } [39]، فالشيطان غرهما وأظهر نصحهما فكانا في قبول غروره، وما أظهر من نصحه حالهما مناسبًا لقولهما: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } لما حصل من التفريط، لا لأجل هوى وحظ يزاحم الإلهية، وكانا محتاجين إلى أن يربهما ربوبية تكمل علمهما وقصدهما، حتى لا يغترا بمثل ذلك، فهما يشهدان حاجتهما إلى الله ربهما الذي لا يقضي حاجتهما غيره.
وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق الإلهية بما حصل من المغاضبة، وكراهة إنجاء أولئك، ففي ذلك من المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته لله، وتألهه له وأن يقول: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } فإن قول العبد: لا إله إلا أنت، يمحو أن يتخذ إلهه هواه. وقد روى: «ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع». فكمل يونس صلوات الله عليه تحقيق إلهيته لله، ومحو الهوى الذي يتخذ إلهًا من دونه، فلم يبق له صلوات الله عليه وسلامه عند تحقيق قوله لا إله إلا أنت إرادة تزاحم إلهية الحق، بل كان مخلصًا لله الدين؛ إذ كان من أفضل عباد الله المخلصين.
وأيضا، فمثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له، فيبقى فيه نوع مغاضبة للقدر ومعارضة له في خلقه وأمره، ووساوس في حكمته ورحمته، فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين: الآراء الفاسدة، والأهواء الفاسدة، فيعلم أن الحكمة، والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته، لا فيما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعًا لما أمر الله به، فلا يكون له مع أمر الله وحكمه هوى يخالف ذلك، قال الله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [40]، وقد روى عنه ﷺ أنه قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» رواه أبو حاتم في صحيحه؛ وفي الصحيح أن عمر قال له: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلىّ من نفسي. قال: «الآن يا عمر»، وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين»، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ } [41].
فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم العبد رسوله، ويسلم له، ويكون هواه تبعًا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد في سبيله مقدمًا على حب الإنسان نفسه، وماله، وأهله، فكيف في تحكيمه الله تعالى والتسليم له؟ فمن رأى قومًا يستحقون العذاب في ظنه، وقد غفر الله لهم ورحمهم، وكره هو ذلك، فهذا إما أن يكون عن إرادة تخالف حكم الله، وإما عن ظن يخالف علم الله، والله علىم حكيم. وإذا علمت أنه علىم، وأنه حكيم، لم يبق لكراهية ما فعله وجه، وهذا يكون فيما أمر به، وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه، ونغضب عليه.
فأما ما أمرنا بكراهته من الموجودات؛ كالكفر، والفسوق، والعصيان، فعلىنا أن نطيعه في أمره بخلاف توبته على عباده وإنجائه إياهم من العذاب، فإن هذا من مفعولاته التي لم يأمرنا أن نكرهها، بل هي مما يحبها، فإنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين. فكراهة هذا من نوع اتباع الإرادة المزاحمة للإلهية، فعلى صاحبها أن يحقق توحيد الإلهية فيقول: لا إله إلا أنت.
فعلىنا أن نحب ما يحب، ونرضي ما يرضى، ونأمر بما يأمر، وننهي عما ينهي، فإذا كان { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } و { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فعلىنا أن نحبهم، ولا نأله مراداتنا المخالفة لمحابه.
والكلام في هذا المقام مبني على أصل، وهو: أن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة؛ ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه كما قال تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [42]، وقال: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [43]، وقال: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [44].
بخلاف غير الأنبياء، فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء، ولو كانوا أولياء لله، ولهذا من سب نبيًا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء، ومن سب غيرهم لم يقتل.
وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة، فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين.
ولكن هل يصدر ما يستدركه الله، فينسخ ما يلقي الشيطان، ويحكم الله آياته؟ هذا فيه قولان، والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك، والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» وقالوا: إن هذا لم يثبت، ومن علم أنه ثبت قال: هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول ﷺ، ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا، وقالوا في قوله: { إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } [45] هو حديث النفس.
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف، فقالوا هذا منقول نقلًا ثابتًا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [46]، فقالوا: الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث، والقرآن يوافق ذلك، فإن نسخ الله لما يلقى الشيطان، وإحكامه آياته، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل، حتى لا تختلط آياته بغيرها. وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرًا يسمعه الناس، لا باطنًا في النفس. والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ.
وهذا النوع أدل على صدق الرسول ﷺ، وبعده عن الهوى من ذلك النوع، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله، وهو مصدق في ذلك، فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله، وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله، ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق، وقوله الحق، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها لو كان محمد كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } [47]، ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله، ولو كان خطأ، فبيان الرسول ﷺ أن الله أحكم آياته، ونسخ ما ألقاه الشيطان، هو أدل على تحريه للصدق وبرائته من الكذب، وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق ﷺ تسليما؛ ولهذا كان تكذيبه كفرًا محضًا بلا ريب.
وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع، هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا؟ والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والقول الذي عليه جمهور الناس، وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف: إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقًا، والرد على من يقول: إنه يجوز إقرارهم عليها، وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول.
وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء؛ فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع، وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبًا، ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه، ورجعوا عنه، كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه، فأما ما نسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورًا به ولا منهيًا عنه، فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه.
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافى الكمال، أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التنفير، أو نحو ذلك من الحجج العقلية، فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله، يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه، كما قال بعض السلف: كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة. وقال آخر: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة: «لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلًا»... إلخ.
وقد قال تعالى: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [48]، وقال تعالى: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [49]، وقد ثبت في الصحيح حديث الذي يعرض الله صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها، وهو مشفق من كبارها أن تظهر، فيقول الله له: «إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: أي رب، إن لي سيئات لم أرها» إذا رأي تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفقًا منها أن تظهر، ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل، أعظم من حاله لو لم تقع السيئات، ولا التبديل.
وقال طائفة من السلف، منهم سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار، ويعمل السيئة فلا يزال خوفه منها وتوبته منها حتى تدخله الجنة، وقد قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [50]، فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين والمؤمنات الذين تاب الله عليهم.
وفي الكتاب والسنة الصحيحة، والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه.
والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية، والقدرية، والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة، وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم.
ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع، وهي العصمة في التبليغ، لم ينتفعوا بها، إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء، وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه، أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، والعصمة التي كانوا ادعوها، لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ولا حاجة بهم إليها عندهم، فإنها متعلقة بغيرهم لا بما أمروا بالإيمان به، فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله، ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم، وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة، قال تعالى:
{ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } الآية [51].
والله تعالى لم يذكر في القرآن شيئًا من ذلك عن نبي من الأنبياء إلا مقرونًا بالتوبة والاستغفار، كقول آدم وزوجته: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [52]، وقول نوح: { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [53]، وقول الخليل عليه السلام: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [54]، وقوله: { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين } [55]، وقول موسى: { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ. وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [56]، وقوله: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } [57]، وقوله: { فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [58]، وقوله تعالى عن داود: { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ. فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } [59]، وقوله تعالى عن سليمان: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [60].
وأما يوسف الصديق، فلم يذكر الله عنه ذنبًا؛ فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [61]، فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء.
وأما قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [62]، فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال الإمام أحمد: الهم همان: هم خطرات، وهم إصرار، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: «إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتبت عليه، وإذا تركها لله كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة» وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف ﷺ هم هما تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم، وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله.
فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [63].
وأما ما ينقل من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضًا على يده، وأمثال ذلك، فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبًا على الأنبياء وقدحًا فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا ﷺ حرفًا واحدًا.
وقوله: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } [64] فمن كلام امرأة العزيز، كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة، لا يرتاب فيها من تدبر القرآن، حيث قال تعالى: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ. ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [65].
فهذا كله كلام امرأة العزيز، ويوسف إذ ذاك في السجن، لم يحضر بعد إلى الملك، ولا سمع كلامه ولا رآه، ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز: { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } أي: لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته فحينئذ: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [66]، وقد قال كثير من المفسرين: إن هذا من كلام يوسف، ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول، وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدل على نقيضه، وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن ما تضمنته قصة ذي النون مما يلام عليه كله مغفور بدله الله به حسنات، ورفع درجاته، وكان بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع، قال تعالى: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ } [67]، وهذا بخلاف حال التقام الحوت فإنه قال: { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [68]، فأخبر أنه في تلك الحال مليم، والمليم الذي فعل ما يلام عليه، فالملام في تلك الحال لا في حال نبذه بالعراء وهو سقيم، فكانت حاله بعد قوله: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [69] أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان، والاعتبار بكمال النهاية لا بما جرى في البداية، والأعمال بخواتيمها.
والله تعالى خلق الإنسان وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال، فلا يجوز أن يعتبر قدر الإنسان بما وقع منه قبل حال الكمال، بل الاعتبار بحال كماله، ويونس ﷺ وغيره من الأنبياء في حال النهاية حالهم أكمل الأحوال.
هامش
- ↑ [الليل: 17 21]
- ↑ [سورة الإخلاص]
- ↑ [ سورة الكافرون ]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [البقرة: 21]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [ آل عمران: 110]
- ↑ [التوبة: 71]
- ↑ [الأعراف: 157]
- ↑ [العنكبوت: 45]
- ↑ [النحل: 90]
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [النور: 52]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [الشرح: 7، 8]
- ↑ [الإسراء: 67]
- ↑ [يونس: 12]
- ↑ [التوبة: 2527]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [الشورى: 10]
- ↑ [المزَّمل: 8، 9]
- ↑ [الأنفال: 1]
- ↑ [الأنفال: 41]
- ↑ [الحشر: 6، 7]
- ↑ [ص: 39]
- ↑ [الناس: 1-3]
- ↑ [الأعراف: 23]
- ↑ [هود: 47]
- ↑ [القصص: 16]
- ↑ [إبراهيم: 37]
- ↑ [البقرة: 127]
- ↑ [البقرة: 201]
- ↑ [آل عمران: 191]
- ↑ [الأنبياء: 87]
- ↑ [الأعراف: 23]
- ↑ [القلم: 48]
- ↑ [الصافات: 142]
- ↑ [الأعراف: 21، 22]
- ↑ [النساء: 65]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [البقرة: 136، 137]
- ↑ [البقرة: 177]
- ↑ [البقرة: 285]
- ↑ [الحج: 52]
- ↑ [ الحج: 52 54 ]
- ↑ [الأحزاب: 37]
- ↑ [البقرة: 222]
- ↑ [الفرقان: 70]
- ↑ [الأحزاب: 72، 73]
- ↑ [النور: 54]
- ↑ [الأعراف: 23]
- ↑ [هود: 47]
- ↑ [إبراهيم: 41]
- ↑ [الشعراء: 82]
- ↑ [الأعراف: 155، 156]
- ↑ [القصص: 16]
- ↑ [الأعراف: 143]
- ↑ [ص: 24، 25]
- ↑ [ص: 35]
- ↑ [يوسف: 24]
- ↑ [يوسف: 24]
- ↑ [الأعراف: 201]
- ↑ [يوسف: 53]
- ↑ [يوسف: 50 53]
- ↑ [يوسف: 54]
- ↑ [القلم: 4850]
- ↑ [الصافات: 241]
- ↑ [الأنبياء: 87]