→ فصل الحسد من أمراض القلوب | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب ابن تيمية |
سئل الشيخ رحمه الله عن العبادة وفروعها ← |
فصل أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب
فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها، بل وحبها لما يضرها؛ ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب، وأما مرض الشهوة، والعشق فهو حب النفس لما يضرها، وقد يقترن به بغضها لما ينفعها، والعشق مرض نفساني، وإذا قوى أثر في البدن فصار مرضًا في الجسم، إما من أمراض الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه: هو مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا، وأما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك.
والمقصود هنا مرض القلب؛ فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهى ما يضره. وإذا لم يطعم ذلك تألم، وإن أطعم ذلك قوى به المرض وزاد.
كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملامسة وسماعًا، بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي ذلك، فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب، وإن أعطى مشتهاه قوي مرضه، وكان سببًا لزيادة الألم.
وفي الحديث: «إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب»، وفي مناجاة موسى المأثورة عن وهب التي رواها الإمام أحمد في كتاب الزهد يقول الله تعالى: «إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة، وإني لأجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة، وما ذلك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدنيا ولم يطفئه الهوى». وإنما شفاء المريض بزوال مرضه، بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه.
والناس في العشق على قولين:
قيل: إنه من باب الإرادات، وهذا هو المشهور.
وقيل: من باب التصورات، وإنه فساد في التخييل، حيث يتصور المعشوق على ما هو به، قال هؤلاء: ولهذا لا يوصف الله بالعشق، ولا أنه يعشق؛ لأنه منزه عن ذلك، ولا يحمد من يتخيل فيه خيالًا فاسدًا.
وأما الأولون فمنهم من قال: يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة، والله يحب ويحب، وروى في أثر عن عبد الواحد بن زيد أنه قال: لا يزال عبدي يتقرب إليَ يعشقني وأعشقه. وهذا قول بعض الصوفية.
والجمهور لا يطلقون هذا اللفظ في حق الله؛ لأن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي، والله تعالى محبته لا نهاية لها، فليست تنتهي إلى حد لا تنبغي مجاوزته.
قال هؤلاء: والعشق مذموم مطلقًا لا يمدح لا في محبة الخالق، ولا المخلوق؛ لأنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد المحمود، وأيضا فإن لفظ العشق إنما يستعمل في العرف في محبة الإنسان لامرأة أو صبي، لا يستعمل في محبة كمحبة الأهل والمال والوطن والجاه، ومحبة الأنبياء والصالحين، وهو مقرون كثيرًا بالفعل المحرم: إما بمحبة امرأة أجنبية أو صبي، يقترن به النظر المحرم، واللمس المحرم، وغير ذلك من الأفعال المحرمة.
وأما محبة الرجل لامرأته أو سريته محبة تخرجه عن العدل بحيث يفعل لأجلها ما لا يحل، ويترك ما يجب، كما هو الواقع كثيرًا، حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة، لمحبته الجديدة، وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه ودنياه، مثل أن يخصها بميراث لا تستحقه، أو يعطي أهلها من الولاية والمال ما يتعدى به حدود الله، أو يسرف في الإنفاق عليها، أو يملكها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه، وهذا في عشق من يباح له وطؤها.
فكيف عشق الأجنبية والذُّكران من العالمين؟ ففيه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو من الأمراض التي تفسد دين صاحبها وعرضه، ثم قد تفسد عقله ثم جسمه، قال تعالى: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [1].
ومن في قلبه مرض الشهوة، وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض، والطمع الذي يقوى الإرادة والطلب، ويقوي المرض بذلك، بخلاف ما إذا كان آيسًا من المطلوب، فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الإرادة فيضعف الحب، فإن الإنسان لا يريد أن يطلب ما هو آيس منه، فلا يكون مع الإرادة عمل أصلًا، بل يكون حديث نفس إلا أن يقترن بذلك كلام أو نظر، ونحو ذلك فيأثم بذلك.
فأما إذا ابتلى بالعشق وعف وصبر، فإنه يثاب على تقواه لله، وقد روى في الحديث: «أن من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات كان شهيدًا» وهومعروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا، وفيه نظر ولا يحتج بهذا.
لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرًا وقولًا وعملًا، وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم، إما شكوى إلى المخلوق وإما إظهار فاحشة، وإما نوع طلب للمعشوق، وصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى ما في قلبه من ألم العشق، كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة، فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر، { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [2].
وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس، وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه الله فينهاها خشية من الله كان ممن دخل في قوله: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [3].
فالنفس إذا أحبت شيئًا سعت في حصوله بما يمكن، حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية، فمن أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضًا مذمومًا وفعل ذلك كان آثمًا، مثل أن يبغض شخصًا لحسده له فيؤذي من له به تعلق، إما بمنع حقوقهم، أو بعدوان عليهم. أو لمحبة له لهواه معه فيفعل لأجله ما هو محرم، أو ما هو مأمور به لله فيفعله لأجل هواه لا لله، وهذه أمراض كثيرة في النفوس، والإنسان قد يبغض شيئًا فيبغض لأجله أمورًا كثيرة بمجرد الوهم والخيال.
وكذلك يحب شيئًا فيحب لأجله أمورًا كثيرة، لأجل الوهم والخيال، كما قال شاعرهم:
أحب لحبها السودان حتى ** أحب لحبها سود الكلاب
فقد أحب سوداء، فأحب جنس السواد، حتى في الكلاب، وهذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته.
فنسأل الله تعالى أن يعافى قلوبنا من كل داء، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء.
والقلب إنما خلق لأجل حب الله تعالى وهذه الفطرة التي فطر الله عليها عباده كما قال النبي ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه أقرؤوا إن شئتم: { فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ } [4]، أخرجه البخاري ومسلم.
فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده، فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفًا بالله محبًا له عابدًا له وحده، لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وهذه كلها تغير فطرته التي فطره عليها، وإن كانت بقضاء الله وقدره كما يغير البدن بالجدع ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الله تعالى لها من يسعى في إعادتها إلى الفطرة.
والرسل صلى الله عليهم وسلم بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها لا لتغيير الفطرة وتحويلها، وإذا كان القلب محبًا لله وحده مخلصًا له الدين، لم يبتل بحب غيره أصلا، فضلًا أن يبتلى بالعشق، وحيث ابتلى بالعشق فلنقص محبته لله وحده.
ولهذا لما كان يوسف محبًا لله مخلصًا له الدين لم يبتل بذلك، بل قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [5]. وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها؛ فلهذا ابتليت بالعشق، وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب إلى الله الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق:
أحدهما: إنابته إلى الله؛ ومحبته له، فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء، فلا تبقى مع محبة الله محبة مخلوق تزاحمه.
والثاني: خوفه من الله، فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه، وكل من أحب شيئًا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه، إذا كان يزاحمه، وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحب، فإذا كان الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأخوف عنده من كل شيء، لم يحصل معه عشق ولا مزاحمة إلا عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف، بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما فعل العبد الطاعة محبة لله وخوفًا منه وترك المعصية حبًا له وخوفًا منه قوى حبه له وخوفه منه، فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره.
وهكذا أمراض الأبدان: فإن الصحة تحفظ بالمثل، والمرض يدفع بالضد، فصحة القلب بالإيمان تحفظ بالمثل، وهو ما يورث القلب إيمانًا من العلم النافع والعمل الصالح، فتلك أغذية له، كما في حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا: «إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن». والآدب: المضيف فهو ضيافة الله لعباده... [6].
مثل آخر: الليل وأوقات الأذان والإقامة وفي سجوده، وفي أدبار الصلوات، ويضم إلى ذلك الاستغفار، فإنه من استغفر الله ثم تاب إليه متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى.
وليتخذ وردًا من الأذكار في النهار، ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه. ويكتب الإيمان في قلبه.
وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس باطنة وظاهرة فإنها عمود الدين، وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال.
ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي، وليعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، ولم ينل أحد شيئًا من ختم الخير نبي فمن دونه إلا بالصبر.
والحمد لله رب العالمين، وله الحمد والمنة على الإسلام والسنة، حمدًا يكافئ نعمه الظاهرة والباطنة، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
هامش