→ ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في تفسير الفناء الصوفي ابن تيمية |
فصل في وقوع البدع في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين ← |
فصل في تفسير الفناء الصوفي
الفناء الذي يوجد في كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور:
أحدها: فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب، والتوكل عليه وعبادته، وما يتبع ذلك، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص، وهو في الحقيقة عبادة القلب، وتوكله، واستعانته، وتألهه وإنابته، وتوجهه إلى الله وحده لا شريك له، وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال. وليس لأحد خروج عن هذا.
وهذا هو القلب السليم الذي قال الله فيه: { إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [1] وهو سلامة القلب عن الاعتقادات الفاسدة، والإرادات الفاسدة، وما يتبع ذلك.
وهذا الفناء لا ينافيه البقاء، بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيًا عن إرادة ما سواه، وإن كان شاعرًا بالله وبالسوى، وترجمته قول: لا إله إلا الله، وكان النبي ﷺ يقول: »لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن» وهذا في الجملة هو أول الدين وآخره.
الأمر الثاني: فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فذاك فناء عن الإرادة، وهذا فناء عن الشهادة، ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه، وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه، فهذا الفناء فيه نقص، فإن شهود الحقائق على ما هي عليه، وهو شهود الرب مدبرًا العبادة، آمرًا بشرائعه، أكمل من شهود وجوده، أو صفة من صفاته، أو اسم من أسمائه، والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك.
ولهذا كان الصحابة أكمل شهودًا من أن ينقصهم شهود للحق مجملًا عن شهوده مفصلًا، ولكن عرض كثير من هذا لكثير من المتأخرين من هذه الأمة. كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق؛ الموت والغشي والصياح والاضطراب، وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه، وعن شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، حتى اختلفوا في إمكان ذلك، وكثير منهم يرى أنه لا يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو الأمر اشتغل عن الخالق الآمر. وإذا عورض بالنبي ﷺ وخلفائه ادعى الاختصاص، أو أعرض عن الجواب أو تحير في الأمر.
وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه؛ ولهذا يقول بعض هؤلاء: إنه لا يمكن حين تجلى الحق سماع كلامه، ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع الأمرين. قال: نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات، والصواب مع شهاب الدين. فإنه كان صحيح الاعتقاد في امتياز الرب عن العبد. وإنما بنى ابن عربي على أصله الكفري في أن الحق هو الوجود الفائض على الممكنات، ومعلوم أن شهود هذا لا يقع فيه خطاب، وإنما الخطاب في مقام العقل.
وفي هذا الفناء قد يقول: أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، إذا فنى بمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه. كما يحكون أن رجلًا كان مستغرقًا في محبة آخر، فوقع المحبوب في اليم فألقى الآخر نفسه خلفه، فقال ما الذي أوقعك خلفي؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني.
وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود حلاوة الإيمان، كما يحصل بسكر الخمر، وسكر عشيق الصور. وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء، كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ، كقول بعضهم: أنصب خيمتي على جهنم، ونحو ذلك من الأقوال والأعمال المخالفة للشرع، وقد يكون صاحبها غير مأثوم، وإن لم يكن فيشبه هذا الباب أمر خفراء العدو ومن يعين كافرًا أو ظالمًا بحال ويزعم أنه مغلوب عليه. ويحكم على هؤلاء أن أحدهم إذا زال عقله بسبب غير محرم فلا جناح عليهم فيما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال المحرمة بخلاف ما إذا كان سبب زوال العقل والغلبة أمرًا محرمًا.
وهذا كما قلنا في عقلاء المجانين والمولهين، الذين صار ذلك لهم مقامًا دائمًا، كما أنه يعرض لهؤلاء في بعض الأوقات، كما قال بعض العلماء ذلك فيمن زال عقله حتى ترك شيئًا من الواجبات: إن كان زواله بسبب غير محرم مثل الإغماء بالمرض أو أسقى مكرها شيئًا يزيل عقله فلا إثم عليه، وإن زال بشرب الخمر ونحو ذلك من الأحوال المحرمة أثم بترك الواجب، وكذلك الأمر في فعل المحرم.
وكما أنه لا جناح عليهم فلا يجوز الاقتداء بهم ولا حمل كلامهم وفعالهم على الصحة بل هم في الخاصة مثل الغافل والمجنون في التكاليف الظاهرة، وقال فيهم بعض العلماء: هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولًا وأحوالًا فسلب عقولهم وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب.
ولهذا اتفق العارفون على أن حال البقاء أفضل من ذلك، وهو شهود الحقائق بإشهاد الحق، كما قال الله تعالى فيما روى عنه رسوله: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه. فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي" وفي رواية: "وبي ينطق، وبي يعقل». فإذا سمع بالحق ورأى به سمع الأمر على ما هو عليه وشهد الحق على ما هو عليه.
وعامة ما تجده في كتب أصحاء الصوفية مثل شيخ الإسلام ومن قبله من الفناء هو هذا، مع أنه قد يغلط بعضهم في بعض أحكامه كما تكلمت عليه في غير هذا الموضع.
وفي الجملة، فهذا الفناء صحيح وهو في عيسوية المحمدية، وهو شبيه بالصعق والصياح الذي حدث في التابعين؛ ولهذا يقع كثير من هؤلاء في نوع ضلال؛ لأن الفناء عن شهود الحقائق مرجعه إلى عدم العلم والشهود. وهو وصف نقص لا وصف كمال، وإنما يمدح من جهة عدم إرادة ما سواه؛ لأن ذكر المخلوق قد يدعو إلى إرادته والفتنة به.
ولهذا غالب عباد العيسوية في عدم العلم بالسوي، وإرادته والفتنة به، ويوصفون بسلامة القلوب. وغالب علماء الموسوية في العلم بالسوي وإرادته والفتنة به، ويوصفون بالعلم، لكن الأولون موصوفون بالجهل والعدل. والآخرون موصوفون بالظلم... وكلاهما صحيح.
فأما العلم بالحق والخلق، وإرادة الله وحده لا شريك له فهذا نعت المحمدية الكاملون في العلم والإرادة، وسلامة القلب المحمودة، هي سلامة... إذ الجهل لا يكون بنفسه صفة مدح. إلا أنه قد يمدح لسلامته به عن الشرور، فإن أكثر النفوس إذا عرفت الشر الذي تهواه اتبعته أو فزعت منه أو فتنها.
الثالث: فناء عن وجود السوى: بمعنى أنه يرى أن الله هو الوجود، وأنه لا وجود لسواه، لا به ولا بغيره، وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين الموجودات وحقيقة الكائنات، وأنه لا وجود لغيره، لا بمعنى أن قيام الأشياء به ووجودها به، كما قال النبي ﷺ: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل**
وكما قيل في قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [2] فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح، لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات، فهذا كفر وضلال. ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلام بعض المشايخ، كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح، ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد. فتدبر هذا التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم.
هامش