الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد العاشر/فصل في أحب الأعمال إلى الله

فصل في أحب الأعمال إلى الله

ومن أحب الأعمال إلى الله، وأعظم الفرائض عنده: الصلوات الخمس في مواقيتها، وهي أول ما يحاسب عليها العبد من عمله يوم القيامة، وهي التي فرضها الله تعالى بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة، وهي عمود الإسلام الذي لا يقوم إلا به، وهي أهم أمر الدين، كما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة» وقال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر». فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء، فهو كافر مرتد باتفاق أئمة المسلمين، وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن الله يحبها ويثيب عليها، وصلى مع ذلك وقام الليل، وصام النهار، وهو مع ذلك لا يعتقد وجوبها على كل بالغ، فهو أيضا كافر مرتد، حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ عاقل.

ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين، أو أن لله خواصًا لا تجب عليهم الصلاة، بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس، أو لاستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى، أو أن المقصود حضور القلب مع الرب، أو أن الصلاة فيها تفرقة، فإذا كان العبد في جمعيته مع الله فلا يحتاج إلى الصلاة، بل المقصود من الصلاة هي المعرفة، فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلاة، فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة، كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، أو ملء الأوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من الكنوز، وقتل من يبغضه بالأحوال الشيطانية. فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلاة ونحو ذلك.

أو أن لله رجالًا خواصًا لا يحتاجون إلى متابعة محمد ﷺ، بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن موسى، أو أن كل من كاشف وطار في الهواء، أو مشى على الماء، فهو ولي سواء صلى أو لم يصل.

أو اعتقد أن الصلاة تقبل من غير طهارة، أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل والطهارات والحانات والقمامين، وغير ذلك من البقاع، وهم لا يتوضؤون ولا يصلون الصلوات المفروضات، فمن اعتقد أن هؤلاء أولياء الله فهو كافر مرتد عن الإسلام باتفاق أئمة الإسلام، ولو كان في نفسه زاهدًا عابدًا، فالرهبان أزهد وأعبد، وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول، وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا بجميع ماجاء به، بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا. أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [1].

ومن كان مسلوب العقل أو مجنونًا، فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه، فليس عليه عقاب، ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل. فمن لا عقل له لا يصح شيء من عبادته لا فرائضه ولا نوافله، ومن لا فريضة له ولا نافلة، ليس من أولياء الله؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى } [2] أي العقول، وقال تعالى: { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } [3] أي لذي عقل. وقال تعالى: { وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [4] وقال: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } [5]، وقال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [6].

فإنما مدح الله وأثنى على من كان له عقل. فأما من لا يعقل فإن الله لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط، بل قال تعالى عن أهل النار: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [7]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ } [8] وقال: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [9].

فمن لا عقل له لا يصح إيمانه ولا فرضه ولا نفله، ومن كان يهوديًا أو نصرانيًا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح إسلامه لا باطنًا ولا ظاهرًا. ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار. ومن كان مؤمنًا ثم جن بعد ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في حال عقله، ومن ولد مجنونًا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ولا كفر. وحكم المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلمًا تبعًا لأبويه باتفاق المسلمين، وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد.

وكذلك من جن بعد إسلامه يثبت لهم حكم الإسلام تبعًا لآبائهم، وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له بالإسلام ظاهرًا تبعًا لأبويه أو لأهل الدار، كما يحكم بذلك للأطفال. لا لأجل إيمان قام به، فأطفال المسلمين ومجانينهم يوم القيامة تبع لآبائهم، وهذا الإسلام لا يوجب له مزية على غيره، ولا أن يصير به من أولياء الله المتقين الذين يتقربون إليه بالفرائض والنوافل. وقد قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } [10] فنهى الله عز وجل عن قربان الصلاة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما يقولون.

وهذه الآية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم الخمر بالآية التي أنزلها الله في "سورة المائدة". وقد روى أنه كان سبب نزولها: أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط في القراءة، فأنزل الله هذه الآية؛ فإذا كان قد حرم الله الصلاة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون، علم أن ذلك يوجب ألا يصلي أحد حتى يعلم ما يقول. فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلاة، وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه لا تصح صلاة من زال عقله بأي سبب زال، فكيف بالمجنون؟.

وقد قال بعض المفسرين وهو يروي عن الضحاك: لا تقربوها وأنتم سكارى من النوم. وهذا إذا قيل: إن الآية دلت عليه بطريق الاعتبار أو شمول معنى اللفظ العام، وإلا فلا ريب أن سبب نزول الآية كان السكر من الخمر. واللفظ صريح في ذلك؛ والمعنى الآخر صحيح أيضا. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد، فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه وفي لفظ إذا قام يصلي فنعس فليرقد».

فقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس. وقد احتج العلماء بهذا على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلاة، أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة، والنبي ﷺ إنما علل ذلك بقوله: «فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه» فعلم أنه قصد النهي عن الصلاة لمن لا يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس. وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «لا يصلي أحدكم، وهو يدافع الأخبثين ولا بحضرة طعام» لما في ذلك من شغل القلب. وقال أبو الدرداء: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته فيقضيها ثم يقبل على صلاته وقلبه فارغ.

فإذا كانت الصلاة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلاة المجنون ومن يدخل في مسمى المجنون، وإن سمي مولها أو متولها، أولى ألا تجوز صلاته.

ومعلوم أن الصلاة أفضل العبادات، كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قلت للنبي ﷺ: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها». قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين». قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد». قال: حدثني بهن رسول الله ﷺ، ولو استزدته لزادني. وثبت أيضا في الصحيحين عنه: أنه جعل أفضل الأعمال إيمان بالله، وجهاد في سبيله، ثم الحج المبرور. ولا منافاة بينهما؛ فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان بالله، كما دخلت في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [11]. قال البراء بن عازب وغيره من السلف: أي صلاتكم إلى بيت المقدس.

ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال، فلا يصلي أحد عن أحد الفرض، لا لعذر ولا لغير عذر. كما لا يؤمن أحد عنه، ولا تسقط بحال كما لا يسقط الإيمان، بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرًا، وهو متمكن من فعل بعض أفعالها. فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال، فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه؟ فيه قولان للعلماء، وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع.

فإذا كان كذلك، تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى الله من فرض ونفل، والولاية هي الإيمان والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل، فقد حرم ما به يتقرب أولياء الله إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فلا يعاقب، كما لا يعاقب الأطفال والبهائم؛ إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال. ثم إن كان مؤمنًا قبل حدوث الجنون به، وله أعمال صالحة، وكان يتقرب إلى الله بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم، وكان له من ولاية الله تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى، كما لا يسقط ذلك بالموت، بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام؛ فإن الردة تحبط الأعمال، وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة، كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته، كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالأعمال المسكرة والنوم؛ لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح، ولكن في الحديث الصحيح عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم».

وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال في غزوة تبوك: «إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم» قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر»، فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلاف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلًا، بخلاف أولئك فإن لهم قصدًا صحيحًا يكتب لهم به الثواب.

وأما إن كان قبل جنونه كافرًا أو فاسقًا أو مذنبًا، لم يكن حدوث الجنون به مزيلًا؛ لما ثبت من كفره وفسقه؛ ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورًا معهم، وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين. وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمى صاحبه مولهًا أو متولهًا، لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى، ولا يكون زوال عقله سببًا لمزيد خيره ولا صلاحه ولا ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب زوال العقل، فيبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده ولا ينقصه، لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر.

وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم، كشرب الخمر، وأكل الحشيشة، أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله، أو الذي يتعبد بعبادات بديعة حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله، أو يأكل بنجا يزيل عقله، فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول. وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه فيرقص رقصًا عظيمًا حتى يغيب عقله، أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني، وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولهًا. فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم.

واختلف العلماء: هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم؟ والأصل "مسألة السكران" والمنصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله. وقال كثير من العلماء ليس مكلفًا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإحدى الروايتين عن أحمد: أن طلاق السكران لا يقع، وهذا أظهر القولين. ولم يقل أحد من العلماء: إن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء الله الموحدين المقربين وحزبه المفلحين. ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير، فهم من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم.

ومن علامة هؤلاء: أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، لا بالكفر والبهتان، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقه بالكفر والشرك، ويهذي في زوال عقله بالكفر، فهذا إنما يكون كافرًا لا مسلمًا، ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية، وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع، ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل أو بغير العربية فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع.

ومن قال: إن هؤلاء أعطاهم الله عقولًا وأحوالًا فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب.

قيل: قولك وهب الله لهم أحوالًا، كلام مجمل، فإن الأحوال تنقسم إلى: حال رحماني، وحال شيطاني، وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب، فتارة يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان، وتارة يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان؛ فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية، وكانوا من المؤمنين المتقين، فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول، وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق، كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان والتقوى، كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته وإغماءه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل، غايته أن يسقط التكليف.

ورفع القلم لا يوجب حمدًا ولامدحًا ولا ثوابًا ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء الله، ولا كرامة من كرامات الصالحين، بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ولا مدح في ذلك ولا ذم، بل النائم أحسن حالًا من هؤلاء، ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام ينامون وليس فيهم مجنون ولا موله، والنبي ﷺ يجوز عليه النوم والإغماء، ولا يجوز عليه الجنون، وكان نبينا محمد ﷺ تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقد أغمى عليه في مرضه.

وأما الجنون فقد نزه الله أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص الإنسان؛ إذ كمال الإنسان بالعقل؛ ولهذا حرم الله إزالة العقل بكل طريق، وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل، كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لأنها ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل، فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببًا أو شرطًا أو مقربًا إلى ولاية الله كما يظنه كثير من أهل الضلال؟ حتى قال قائلهم في هؤلاء:

هم معشر حلوا النظام وخرقوا ** السياج فلا فرض لديهم ولا نفل

مجانين إلا أن سر جنونهم ** عزيز على أبوابه يسجد العقل

فهذا كلام ضال، بل كافر، يظن أن للمجنون سرًا يسجد العقل على بابه، وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا لله ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى؛ فإن كثيرًا من الكفار والمشركين فضلًا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء؛ لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لابد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان. ولابد في أعمالهم من فجور وطغيان، كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان، قال الله تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [12].

فكل من تنزلت عليه الشياطين لابد أن يكون فيه كذب وفجور، من أي قسم كان، والنبي ﷺ قد أخبر أن أولياء الله هم الذين يتقربون إليه بالفرائض، وحزبه المفلحون، وجنده الغالبون، وعباده الصالحون. فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء الله المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك، فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين، وإذا قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله كان من الكاذبين الذين قيل فيهم: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } [13].

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله على قلبه»، فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر، فكيف بمن لا يصلي ظهرًا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة، ولا يتطهر للصلاة لا الطهارة الكبرى ولا الصغرى؟ فهذا لو كان قبل مؤمنًا، وكان قد طبع على قلبه كان كافرًا مرتدًا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض، وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافرًا مرتدًا، فكيف يعتقد أنه من أولياء الله المتقين، وقد قال تعالى في صفة المنافقين: { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ } [14] أي: استولى، يقال: حاذ الإبل حوذًا: إذا استاقها، فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر الله به ورسوله قال تعالى: { أَلَمْ تَرَى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [15] أي تزعجهم إزعاجًا، فهؤلاء { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ } [16].

وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من ثلاثة في قرية، لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان»، فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان الذين استحوذ عليهم، لا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم، فإن كانوا عبادًا زهادًا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات، كأهل جبل لبنان، وأهل جبل الفتح الذي بآسون، وجبل ليسون، ومغارة الدم بجبل قاسيون، وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلال، ويفعلون فيها خلوات ورياضات من غير أن يؤذن، وتقام فيهم الصلاة الخمس، بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها الله ورسوله، بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة، ولا قصد المتابعة لرسول الله الذي قال الله فيه: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } الآية [17] فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان لا من أولياء الرحمن، فمن شهد لهم بولاية الله فهو شاهد زور كاذب وعن طريق الصواب ناكب.

ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول، وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الله، فهو مرتد عن دين الإسلام وإما مكذب للرسول، وإما شاك فيما جاء به مرتاب، وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحودًا أو عنادًا أو اتباعًا لهواه، وكل من هؤلاء كافر.

وأما إن كان جاهلًا بما جاء به الرسول، وهو معتقد مع ذلك أنه رسول الله إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة، وأنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته ﷺ، لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان، لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته، لا لقصد مخالفته، ولا يرجو الهدى في غير متابعته فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب، فإن تاب وأناب وإلا ألحق بالقسم الذي قبله وكان كافرًا مرتدًا، ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب الله، كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد الصلبان وعباد النيران وعباد الأوثان، مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية، ومكاشفات شيطانية قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [18].

قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات. وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرهم أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات. وقال تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [19] فالأفاك هو الكذاب والأثيم الفاجر كما قال: { لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [20].

ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا وإن كان لا يتعمد الكذب، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ، لما قالت له سبيعة الأسلمية، وقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع، فكانت حاملًا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين فقال النبي ﷺ: «كذب أبو السنابل، بل حللت فانكحى»، وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع أنهم يقولون: إن عامرًا قتل نفسه وحبط عمله فقال: «كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد»، وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب، فإنه كان رجلًا صالحًا، وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير، لكنه لما تكلم بلا علم كذبه النبي ﷺ.

وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة فيما يفتون فيه باجتهادهم: إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان، فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين؟ فهذا خطؤه أيضا من الشيطان، مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب، والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له، كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك، فهذا كاذب آثم في ذلك، وإن كانت له حسنات في غير ذلك، فإن الشيطان ينزل على كل إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له، ويطرد بحسب إخلاصه لله وطاعته له قال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [21].

وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات، وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد الشيطان، لا من عباد الرحمن. قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [22].

والذين يعبدون الشيطان أكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان، بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين، كالذين يستغيثون بهم ويسجدون لهم فهم في الحقيقة، إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد الله الصالحين. قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [23].

ولهذا نهى النبي ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غربها، فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى يكون سجود عباد الشمس له، وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان، وكذلك أصحاب دعوات الكواكب الذين يدعون كوكبًا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويصنعون له من الطعام واللباس والبخور والتبركات ما يناسبه، كما ذكره صاحب السر المكتوم المشرقي، وصاحب الشعلة النورانية البوني المغربي وغيرهما؛ فإن هؤلاء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض الأمور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك روحانية الكواكب.

ومنه من يظن أنها ملائكة وإنما هي شياطين تنزل عليهم، قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [24] وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو الكتاب والسنة اللذان قال الله فيهما: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } [25]، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [26]، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [27]، وهو الذكر الذي قال الله فيه: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [28]، فمن أعرض عن هذا الذكر وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه.

وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى كان فيه من الإيمان وولاية الله بحسب ما والى فيه الرحمن، وكان فيه من عداوة الله والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان، كما قال حذيفة بن اليمان: القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن. وقلب أغلف فذلك قلب الكافر والأغلف: الذي يلف عليه غلاف. كما قال تعالى عن اليهود: { ٍوَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [29] وقد تقدم قوله ﷺ: «من ترك ثلاث جمع طبع الله على قلبه» وقلب منكوس فذلك قلب المنافق. وقلب فيه مادتان: مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق، فأيهما غلب كان الحكم له. وقد روى هذا في مسند الإمام أحمد مرفوعًا.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».

فقد بين النبي ﷺ أن القلب يكون فيه شعبة نفاق، وشعبة إيمان، فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة من ولايته وشعبة من عداوته؛ ولهذا يكون بعض هؤلاء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه بالله وتقواه تكون من كرامات الأولياء، وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين؛ ولهذا أمرنا الله تعالى: أن نقول كل صلاة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }.

و«المغضوب عليهم» هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، و«الضالون» الذين يعبدون الله بغير علم. فمن اتبع هواه وذوقه ووجده، مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو من «المغضوب عليهم» وإن كان لا يعلم ذلك فهو من «الضالين».

نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

والحمد لله رب العالمين. والعاقبة للمتقين. وصلى الله على محمد.

هامش

  1. [النساء: 150-152]
  2. [طه: 54]
  3. [الفجْر: 5]
  4. [البقرة: 197]
  5. [الأنفال: 22]
  6. [يوسف: 2]
  7. [الملك: 10]
  8. [الأعراف: 179]
  9. [الفرقان: 44]
  10. [النساء: 43]
  11. [البقرة: 143]
  12. [الشعراء: 221، 222]
  13. [المنافقون: 1-3]
  14. [المجادلة: 19]
  15. [مريم: 83]
  16. [المجادلة: 19]
  17. [آل عمران: 31]
  18. [الكهف: 103، 104]
  19. [الشعراء: 221، 222]
  20. [العلق: 15، 16]
  21. [الحجر: 42]
  22. [يس: 60-62]
  23. [سبأ: 40، 41]
  24. [الزخرف: 36]
  25. [البقرة: 231]
  26. [آل عمران: 164]
  27. [الجمعة: 2]
  28. [الحجر: 9]
  29. [النساء: 155]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد العاشر - الآداب والتصوف
كلمات في أعمال القلوب | القائلون بتخليد العصاة | فصل في الأعمال الباطنة | فصل في محبة الله ورسوله | فصل في مرض القلوب وشفائها | فصل مرض القلب نوع فساد | فصل الحسد من أمراض القلوب | فصل أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب | سئل الشيخ رحمه الله عن العبادة وفروعها | فصل التفاضل في حقيقة الإيمان | مخالفات السالكين في دعوى حب الله | معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله | أكابر الأولياء لم يقعوا في الفناء | سئل شيخ الإسلام عن دعوة ذي النون | فصل الضر لا يكشفه إلا الله | التوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب وأعماله | محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة | غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين | التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها | فصل في موجبات المغفرة | هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة | ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق | فصل في تفسير الفناء الصوفي | فصل في وقوع البدع في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين | فصل في خلط متقدمي المتكلمين والمتصوفة كلامهم بأصول الكتاب والسنة | أصل النسبة في الصوفية | فصل في قولهم فلان يسلم إليه حاله | فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها | أصول العبادات الدينية | فصل في الخلوات | فصل علينا الإيمان بما أوتي الأنبياء والاقتداء بهم | فصل في أهل العبادات البدعية | سئل شيخ الإسلام ما عمل أهل الجنة وما عمل أهل النار | فصل في هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة | من مستلزمات العقل والبلوغ | فصل في أحب الأعمال إلى الله | سئل عمن يقول الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق | الرسل جميعا بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها | فصل في طريق العلم والعمل | فصل في كيف يكون السالك وعاء لعلم الله | فصل في شرح أمر الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس | فصل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولاية | احتمال خفاء الأمر والنهي على السالك | فصل في العبادة والاستعانة والطاعة والمعصية | سئل عن إحياء علوم الدين وقوت القلوب | فصل في ذكر الله ودعائه | فصل في الصراط المستقيم | فصل في جاذبية الحب | فصل في جماع الزهد والورع | فصل في قول بعض الناس الثواب على قدر المشقة | فصل في تزكية النفس | سئل شيخ الإسلام عن رجل تفقه وعلم هل له أن يقطع الرحم ويسير في الأرض | سئل شيخ الإسلام عن مقامات اليقين | سئل شيخ الإسلام أن يوصي وصية جامعة لأبي القاسم المغربي | سئل شيخ الإسلام عن الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل | سئل شيخ الإسلام عما ذكر القشيري في باب الرضا | سئل شيخ الإسلام فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم | فصل في الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل | مسألة هل توبة العاجز عن الفعل تصح