→ فصل: قد تكلم طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة في قيام الممكنات بالواجب القديم | مجموع الفتاوى فصل: ثم يقال هذا أيضا يقتضي ابن تيمية |
قاعدة: أصل الإثبات والنفي والحب والبغض هو شعور نفسي ← |
فصل: ثم يقال هذا أيضا يقتضي
وقال قدس الله روحه:
ثم يقال: هذا أيضا يقتضي أن كلا منهما ليس واجبًا بنفسه غنيًا قيومًا، بل مفتقرًا إلى غيره في ذاته وصفاته، كما كان مفتقرًا إليه في مفعولاته؛ وذلك أنه إذا كان كل منهما مفتقرًا إلى الآخر في مفعولاته، عاجزًا عن الانفراد بها؛ إذ الاشتراك مستلزم لذلك، كما تقدم، فإما أن يكون قابلًا للقدرة على الاستقلال بحيث يمكن ذلك فيه، أولا يمكن.
والثاني: ممتنع؛ لأنه لو امتنع أن يكون الشيء مقدورًا ممكنًا لواحد، لامتنع أن يكون مقدورًا ممكنا لاثنين، فإنَّ حال الشيء في كونه مقدورًا ممكنًا، لا يختلف بتعدد القادر عليه وتوحده. فإذا امتنع أن يكون مفعولا مقدورًا لواحد، امتنع أن يكون مفعولا مقدورًا لاثنين. وإذا جاز أن يكون مفعولًا مقدورًا عليه لاثنين وهو ممكن، جاز أن يكون أيضا لواحد، وهذا بيِّن إذا كان الإمكان والامتناع لمعنى في الممكن المفعول المقدور عليه إذ صفات ذاته، لا تختلف في الحال.
وكذلك إذا كان لمعنى في القادر، فإن القدرة القائمة باثنين، لا تمتنع أن تقوم بواحد، بل إمكان ذلك معلوم ببديهة العقل، بل من المعلوم ببديهة العقل أن الصفات بأسرها من القدرة وغيرها، كلما كان محلها متحدًا مجتمعًا، كان أكمل لها من أن يكون متعددًا متفرقا.
ولهذا كان الاجتماع والاشتراك في الخلق، بأن يوجب لها من القوة والقدرة مالا يحصل لها إذا تفرقت وانفردت، وإن كانت إحداها باقية، بل الأشخاص والأعضاء وغيرها من الأجسام المتفرقة قد قام بكل منها قدرة، فإذا قدر اتحادها واجتماعها، كانت تلك القدرة أقوى وأكمل؛ لأنه حصل لها من الاتحاد والاجتماع بحسب الإمكان ما لم يكن حين الافتراق والتعداد.
وهذا يبين أن القدرة القائمة باثنين إذا قدر أن ذينك الاثنين كانا شيئا واحدًا تكون القدرة أكمل، فكيف لا تكون مساوية للقدرة القائمة بمحلين؟ وإذا كان من المعلوم أن المحلَّين المتباينين اللذين قام بهما قدرتان، إذا قدر أنهما محل واحد، وأن القدرتين قامتا به لم تنقص القدرة بذلك بل تزيد، علم أن المفعول الممكن المقدور عليه لقادرين منفصلين إذا قدر أنهما بعينهما قادر واحد قد قام به ما قام بهما، لم ينقص بذلك بل يزيد، فعلم أنه يمكن أن يكون كل منهما قابلا للقدرة على الاستقلال، وأن ذلك ممكن فيه.
فتبين أنه من الممكن في المشتركين على المفعول الواحد أن يكون كل منهما قادرًا عليه، بل من الممكن أن يكونا شيئا واحدًا قادرًا عليه، فتبين أن كلا منهما يمكن أن يكون أكمل مما هو عليه، وأن يكون بصفة أخرى.
إذا كان يمكن في كل منهما أن تتغير ذاته، وصفاته.
ومعلوم أنه هو لا يمكن أن يكمل نفسه وحده، ويغيرها إذ التقدير: أنه عاجز عن الانفراد بمفعول منفصل عنه، فأن يكون عاجزًا عن تكميل نفسه وتغييرها أولى.
وإذا كان هذا يمكن أن يتغير ويكمل، وهو لا يمكنه ذلك بنفسه لم يكن واجب الوجود بنفسه، بل يكون فيه إمكان وافتقار إلى غيره، والتقدير: أنه واجب الوجود بنفسه غير واجب الوجود بنفسه فيكون واجبا ممكنا.
وهذا تناقض؛ إذ ما كان واجب الوجود بنفسه تكون نفسه كافية في حقيقة ذاته وصفاته، لا يكون في شيء من ذاته وصفاته مفتقرًا إلى غيره؛ إذ ذلك كله داخل في مسمى ذاته، بل ويجب ألا يكون مفتقرًا إلى غيره في شيء من أفعاله ومفعولاته.
فإن أفعاله القائمة به داخلة في مسمى نفسه، وافتقاره إلى غيره في بعض المفعولات يوجب افتقاره في فعله، وصفته القائمة به؛ إذ مفعوله صدر عن ذلك، فلو كانت ذاته كاملة غنية لم تفتقر إلى غيره في فعلها، فافتقاره إلى غيره بوجه من الوجوه دليل عدم غناه، وعلى حاجته إلى الغير، وذلك هو الإمكان المناقض لكونه واجب الوجود بنفسه.
ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين، والغني عن الغير من خصائص رب العالمين كان الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين، وكان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين، فليس في المخلوقات ما هو مستقل بشيء من المفعولات، وليس فيها ما هو وحده علة قائمة، وليس فيها ما هو مستغنيًا عن الشريك في شيء من المفعولات، بل لا يكون في العالم شيء موجود عن بعض الأسباب، إلا بمشاركة سبب آخر له.
فيكون وإن سمى علة علة مقتضية سببية، لا علة تامة، ويكون كل منهما شرطا للآخر، كما أنه ليس في العالم سبب إلا وله مانع يمنعه من الفعل، فكل ما في المخلوق مما يسمى علة أو سببا، أو قادرًا، أو فاعلا، أو مدبرًا فله شريك هو له كالشرط وله معارض هو له مانع وضد، وقد قال سبحانه: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [1] والزوج يراد به النظير المماثل، والضد المخالف، وهو الند.
فما من مخلوق إلا له شريك، وند.
والرب سبحانه وحده هو الذي لا شريك له، ولا ند، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا، ولا ربا مطلقًا، ونحو ذلك؛ لأن ذلك يقتضي الاستقلال، والانفراد بالمفعول المصنوع، وليس ذلك إلا لله وحده؛ ولهذا وإن نازع بعض الناس في كون العلة تكون ذات أوصاف، وادعى أن العلة لا تكون إلا ذات وصف واحد فإن أكثر الناس خالفوا في ذلك، وقالوا: يجوز أن تكون ذات أوصاف، بل قيل: لا تكون في المخلوق علة ذات وصف واحد أو ليس في المخلوق ما يكون وحده علة، ولا يكون في المخلوق علة، إلا ما كان مركبًا من أمرين فصاعدًا.
فليس في المخلوق واحد يصدر عنه شيء، فضلا عن أن يقال: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، بل لا يصدر من المخلوق شيء إلا عن اثنين فصاعدًا، وأما الواحد الذي يفعل وحده فليس إلا الله.
فكما أن الوحدانية واجبة له لازمة له فالمشاركة واجبة للمخلوق لازمة له، والوحدانية مستلزمة للكمال، والكمال مستلزم لها، والاشتراك مستلزم للنقصان، والنقصان مستلزم له.
وكذلك الوحدانية مستلزمة للغنى عن الغير، والقيام بنفسه، ووجوبه بنفسه، وهذه الأمور من الغنى، والوجوب بالنفس والقيام بالنفس مستلزمة للوحدانية، والمشاركة مستلزمة للفقر إلى الغير، والإمكان بالنفس، وعدم القيام بالنفس.
وكذلك الفقر والإمكان وعدم القيام بالنفس مستلزم للاشتراك، وهذه وأمثالها من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها، وهي من دلائل إمكان المخلوقات المشهودات، وفقرها وأنها من بدئه، فهى من أدلة إثبات الصانع؛ لأن ما فيها من الافتراق والتعداد، والاشتراك يوجب افتقارها وإمكانها، والممكن المفتقر لا بد له من واجب غني بنفسه، وإلا لم يوجد.
ولو فرض تسلسل الممكنات المفتقرات فهي بمجموعها ممكنة، والممكن قد علم بالاضطرار أنه يفتقر في وجوده إلى غيره، فكل ما يعلم أنه ممكن فقير، فإنه يعلم أنه فقير أيضا في وجوده إلى غيره، فلا بد من غني بنفسه واجب الوجود بنفسه، وإلا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال.
وهذه المعاني تدل على توحيد الربوبية، وعلى توحيد الإلهية، وهو التوحيد الواجب الكامل، الذي جاء به القرآن، لوجوه:
قد ذكرنا منها ما ذكرنا في غير هذا الموضع، مثل أن المتحركات لا بد لها من حركة إرادية، ولا بد للإرادة من مراد لنفسه، وذلك هو الإله، والمخلوق يمتنع أن يكون مرادًا لنفسه، كما يمتنع أن يكون فاعلا لنفسه، فإذا امتنع أن يكون فاعلان بأنفسهما امتنع أن يكون مرادان بأنفسهما.
وأيضا، فالإله الذي هو المراد لنفسه إن لم يكن ربا امتنع أن يكون معبودًا لنفسه، ومن لا يكون ربا خالقا لا يكون مدعوا مطلوبا منه، مرادًا لغيره، فلأن لا يكون معبودًا مرادًا لنفسه من باب الأولى فإثبات الإلهية يوجب إثبات الربوبية، ونفي الربوبية يوجب نفي الإلهية؛ إذ الإلهية هي الغاية، وهي مستلزمة للبداية كاستلزام العلة الغائية للفاعلىة.
وكل واحد من وحدانية الربوبية والإلهية وإن كان معلوما بالفطرة الضرورية البديهية، وبالشرعية النبوية الإلهية فهو أيضا معلوم بالأمثال الضرورية، التي هي المقاييس العقلية.
لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية، وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم، وإنما نازعوا في بعض تفاصيله، كنزاع المجوس والثنوية والطبيعية والقدرية، وأمثالهم من ضلال المتفلسفة، والمعتزلة، ومن يدخل فيهم، وأما توحيد الإلهية فهو الشرك العام الغالب، الذي دخل من أقرَّ أنه لا خالق إلا الله، ولا رب غيره من أصناف المشركين، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [2]، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.