الوجه الثالث
الثاني: أن قولك: تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه، أو قولك: ظهر الحق فيه، أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع. مثل قولهم: ظهر الحق وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهيُّ ومجلى إلهيّ، ونحو ذلك، أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك؟ أو تعني به أنه صار ظاهرا متجليا لها بحيث تعلمه؟ أو تعني به أنه ظهر لخلقه بها، وتجلى بها، وأنه ما ثم قسم رابع؟
فإن عنيت الأول وهو قول الاتحادية فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب، والخنازير، والنجاسات، والشياطين والكفار هي ذات الله، أو هي وذات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا: { إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [1] و{ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [2]، وإن الله يلد ويولد، وأن له بنين وبنات. وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك، فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء، ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئا، بل يجدها سما ناقعا!
وإن عنيت أنه صار ظاهرًا متجليا لها، فهذا حقيقة أنه صار معلوما لها، ولا ريب أن الله يصير معروفا لعبده، لكن كلامك في هذا باطل من وجهين:
من جهة أنك جعلته معلوما للمعدومات، التي لا وجود لها؛ لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون، لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالما قادرا فاعلا.
ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم.
وأما إن قلت: إن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه فهذا حق، وهو دين المسلمين وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين:
أحدهما: أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئا خلقه، بل جعلت نفسه هو المتجلي لها. الوجه الثاني: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه، وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } إلى قوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [3] وتارة يسميها نفسها آية، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُأَحْيَيْنَاهَا } [4] وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق.
فإذا قيل في نظير ذلك: تجلى بها وظهر بها كما يقال: علم وعرف بها، كان المعنى صحيحا، لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور، وفيه إيهام وإجمال، فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين، لا سيما لفظ التجلي، فإن استعماله في التجلي للعين هو الغالب، وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال: فلا تقع العين إلا عليه.
وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين، بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: (واعلموا أن أحدامنكم لن يري ربه حتى يموت) ولا سيما إذا قيل: ظهر فيها وتجلى، فإن اللفظ يصير مشتركا بين أن تكون ذاته فيها، أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل، فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يري المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه، وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله.